السياسة الشرعية بين النظرية والتطبيق/3‏

علي الكاش

مقدمة
قال علي بن أبي طالب (رض)” لا يصلح لكم يا أهل العراق إلّا من أخزاكم، وأخزاه الله”. ( ربيع ‏الأبرار5/200).‏
من الأقوال والحكايات التي أوردناها في هذا المبحث، يمكن إستنتاج معنى السياسة الشرعية بكل ‏وضوح، فحقوق الإنسان وموقف الحاكم من مواطنيه هي لب السياسة الشرعية، والهدف الأسمى ‏لها، وقد وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكذلك في أقوال الصحابة والتابعين ‏وكبار الحكماء المسلمين، بل وغير المسلمين أيضا، ولكننا سنقصر المبحث عن السياسة الشرعية ‏ضمن المنظور الإسلامي، وإلا لأحتاج المبحث الى كتابا مستقلا يضم المحاور الخاصة بالسياسة ‏الشرعية من كل الجوانب. ولاشك ان القضاء العادل هو الرقيب الرئيس على السياسة الشرعية في ‏البلد، فكلما قوي القضاء صَلحت السياسة الشرعية وكلما تراخى وكان في خدمة الحاكم وليس ‏الشعب ساءت السياسة الشرعية. القرآن الكريم هو دستور السياسة الشرعية في الإسلام، وتتبعه ‏السنة النبوية وسلوك الخلفاء من بعد النبي المصطفى، ومن المؤسف ان سيرة العديد من الخلفاء ‏تعرضت للتشويه المتعمد لأسباب دينية وطائفية وعنصرية، وقد تماشى معها الرواة الجهلة ومن ‏يبغض الإسلام وغالوا فيها، وربما أكثر من شمله التشويه في العهد الأموي ـ وهو العهد العربي ‏الأصيل الذي لم تدخل فيه العناصر الأجنبية وتتسلم مناصب عليا في الدولة ـ منهم كاتب النبي ‏‏(صلى الله عليه وسلم) معاوية بن أبي سفيان وإبنه يزيد وعبد الملك بن مروان والوليد، وفي الزمن ‏العباسي الأول أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد، والأخيران بسبب موقفهما من الأعاجم ‏الخراسانيين (ابو مسلم الخراساني)، والبرامكة (نكبة البرامكة). ‏
كان الرواة الشيعة من ابرز الطعانيين في الإسلام، وقدموا خدمة كبيرة للمستشرقين في تشويه معالم ‏الدين الاسلامي من خلال إفترائهم على الصحابة والخلفاء، والطعن بالقرآن الكريم، مع ان أئمتهم ‏الذين لم يتمردوا على الخلفاء عاشوا بسلام وبحبوحة، ولم يتعرض لهم الخلفاء. والغريب في الأمر ‏هو توارث الحقد من جيل لآخر، ففي العراق مثلا طالب النواب الشيعة بتغيير إسم شارع الرشيد ‏ظنا منهم ان التسمية بالرشيد تعني الخليفة الرشيد مع ان الإسم يتعلق بسلطان عثماني، والبعض ‏طالب بردم نصب ابو جعفر المنصور مؤسس بغداد وبعدة محاولات، ويقف رجال الدين ‏والساسيون الطائفيون مثل نوري المالكي ومقتدى الصدر وجلال الصغير وعمار الحكيم وبهاء ‏الأعرجي وحازم الأعرجي وغيرهم وراء تأجيج هذه الكراهية، بل ان قيس الخزعلي زعيم ميليشيا ‏عصائب أهل الحق برأ أهل الكوفة من جريمة قتل الحسين بن علي ولصقها بأهل الموصل، وبهاء ‏الأعرجي اعتبر المؤامرة على الشيعة مستمرة من زمن أبي بكر ولغاية عهد احمد حسن البكر، ‏وهام جرا. ‏
مستلزمات نجاح السياسة الشرعية ‏
اولا. صلاح الحاكم
من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر الجبرتي” يقال شيئان إذا صلح أحدهما صلح ‏الآخر السلطان والرعية”. (عجائب الآثار1/22). قال الثّوريّ: نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر، ‏وفتنة القائد الجاهل”. (‏‎ ‎الامتاع والمؤانسه1/242).‏‎.‎‏ قال عمرو بن العاص” لأن يسقط ألف من ‏العلْيةِ، خير من أن يرتفع واحدُ من السفلة”. (درر الحكم /42). حكى الطرطوشي” روي أن ‏المأمون أرق ذات ليلة، فاستدعى سميراً فحدثه بحديث. ‏
فقال السمير: يا أمير‏‎ ‎المؤمنين كان بالبصرة بومة، وبالموصل بومة، فخطبت بومة الموصل إلى ‏بومة‎ ‎البصرة بنتها لابنها. فقالت بومة البصرة: لا أنكحك ابنتي إلا أن تجعلي في‎ ‎صداقها مائة ‏ضيعة خراباً. ‏
فقالت بومة الموصل: لا أقدر عليها الآن، ولكن إن‎ ‎دام والينا سلمه الله علينا سنة واحدة، فعلت لك ‏ذلك! قال: فاستيقظ لها‎ ‎المأمون وجلس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض وتفقد أمور ‏الولاة”. ( سراج الملوك/123).‏

ثانيا. تحقيق الأمن وحماية الرعايا بلا إستثناء ‏
التعامل مع الناس بمساواة دون تغليب الأهواء والميول الشخصية والعنصر والدين والمذهب ‏والجنس. قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن،‎ ‎فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير ‏عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم‎ ‎عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد بعد هذا”. (الكامل ‏للمبرد2/125). اللبيب يفهم المغزى. قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن،‎ ‎فإنه ليس لخائف ‏عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم‎ ‎عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد ‏بعد هذا”. (الكامل للمبرد2/125). اللبيب يفهم المغزى.‏

ثالثا. منع الظلم ومحاسبة الظالمين بقسوة
ذكر الصابي” قال لنا أبو الحسن بن الفرات، وقد جرى بحضرته ذكر رجل قد أسرف في الظّلم: ‏الظلم إذا زاد رفع نفسه”. (الوزراء/238). ومما يحكى: نظر سقراط إِلَى امْرَأَة حِين أُرِيد قَتله، ‏وَهِي تبْكي، فَقَالَ لَهَا: مَا‎ ‎يبكيك؟ قَالَت: وَكَيف لَا أبْكِي وَأَنت تقتل ظلما؟ فَقَالَ لَهَا: فكأنك‎ ‎أردْت أَن ‏أقتل بِحَق”. (نثر الدر في المحاضرات7/14). ذكر ابو الفداء” كثرت الحرامية في زمن الملك ‏الناصر، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك إذا أحضر القاتل إلى بين يدي‎ ‎الملك الناصر المذكور ‏يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ذلك إلى‎ ‎انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية ‏والمفسدين”. (المختصر في أخبار البشر3/212)‏

رابعا. دعم القضاء وابعاد تأثير القوى الحاكمة على أحكامه
قال التنوخي” إذا اختلّ أمر القضاء في دولة، اختلّ حالها”. (نشوار المحاضرة 1/231). ومحاسبة ‏الفاسدين. ذكر ابو الفداء” كثرت الحرامية في زمن الملك الناصر، وكانوا يكبسون الدور، ومع ذلك ‏إذا أحضر القاتل إلى بين يدي‎ ‎الملك الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت، ويطلقه، فأدى ‏ذلك إلى‎ ‎انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية والمفسدين”. (المختصر في أخبار البشر3/212)‏

خامسا. الصدق في القول وتجسيده بالفعل
قال الأوزاعيّ” المؤمن يقلّ الكلام ويكثر العمل. والمنافق يكثر الكلام ويقلّ العمل”. (‏‎ ‎الامتاع ‏والمؤانسه1/242). وقيل: سَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ: فَعَلْتُ إلَيْك‎ ‎وَفَعَلْتُ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: ‏اُسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي‎ ‎الْمَعْرُوفِ إذَا أُحْصِيَ”. (أدب الدنيا والدين/204). قال أبو جعفر بن سنانك ‏‏((جمال الرجل فى حسن مقاله؛ وكماله فى صدق فعاله”. (طبقات الصوفية/96)‏

سادسا. التقرب من الناس وتفقد أحوالهم سرا وعلنا
العمل على متابعة أحوالهم والإستماع الى مشاكلهم وحلها ما أمكن ذلك. ذكر الجبرتي” يقال شيئان ‏إذا صلح أحدهما صلح الآخر السلطان والرعية”. (عجائب الآثار1/22). ويمكن للراعي ان يتنكر ‏بالزي ويخرج ليلا لإستطلاع أحوالهم، والنظر في ظلاماتهم.‏

سابعا. تقريب الحكماء وجعلهم مستشارين
بمعنى العمل على إبعاد المنافقين والمتزلفين والمداحين والإهتمام بالأفعال وليس الأقوال، فالحكيم ‏يعطي الإستشارة الصحيحة وينور عقل الحاكم ويصوب قراراته، ويحذره من الوقوع بالخطأ. ‏وتجنب الجهلة ومدعين العلم، وتحديد مهام رجال الدين في مجال الشرع فقط، قال النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ ‏عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:أَهْلَكُ أُمَّتِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ فَاجِرٌ وَجَاهِلٌ مُتَعَبِّدٌ”. (أدب الدنيا والدين/81). كما قال ‏السيوطي” من الأمثال القديمة: كاد الحكيم ان يكون نبيا”. (الكنز المدفون/27). قال أبو بكر ‏الوراق” قرأت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وأربعين‎ ‎صحيفة في الحكمة، فمحصول ‏جميعها خلتان أحداهما اجلال أوامر الله تعالى‎ ‎ونواهيه والثانية الشفقة على خلق الله”. (مفيد ‏العلوم/390).‏

ثامنا. الحث على طلب العلم وانهاء مظاهر الجهل والأمية
قال تعالى في سورة الاعراف/179((لهُمْ قُلُوبٌ‎ ‎لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ ‏لا‎ ‎يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)).‏

تاسعا. دعم الفقراء والتخفيف عنهم من خلال مساعدتهم
قال سفيان الثوري للمهدي في وجهه” احذر من هؤلاء الأعوان، والمترددين إليك من الفقراء، فإن ‏هلاكك على أيديهم يأكلون طعامك، ويأخذون دراهمك، ويغشونك ويمدحونك بما ليس فيك”. وقال ‏أبو سعد الآبي” قَالَ سعيد بن عبد الْعَزِيز: مَا ضرب الْعباد بِسَوْط أوجع من الْفقر”. (نثر الدر في ‏المحاضرات4/135). قال المبرد” قيل لخريم المري ما النعمة؟ فقال: الأمن،‎ ‎فإنه ليس لخائف ‏عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم‎ ‎عيشٌ. قيل: ثم ماذا؟ قال: لا مزيد ‏بعد هذا”. (الكامل2/125)‏

عاشرا. غلق باب الحاكم عن رجال الدين ‏
من المخاطر التي تهدد الدول تعاظم دور فقهاء السلطان، لذا لابد من منعهم من دس إنوفهم في ‏سياسة الرعية إلا في مجال النصح والوعظ. قال سفيان الثوري” إذا رأيتم العالم يلوذ بباب ‏السلطان، فاعلموا أنه لص، وإذا رأيتموه يلوذ بباب الأغنياء، فاعلموا أنه مراء”. وقال علي بن أبي ‏طالب” قصم ظهري عالمُ متهتك، وجاهل متنسك؛ فالجاهل يغش الناس، والعالم يغريهم بتهتك”. ( ‏إحياء علوم الدين للغزالي1/ 58).‏

احد عشر. وضع الشخص المناسب في المكان المناسب
ذكر وكيع” قال إياس بْن معاوية: كل بنيان بني على أساس أعوج لم يستقم بنيانه”. (أخبار ‏القضاة2/356).‏

اثنى عشر: تنشئة الأجيال على حب الوطن، ومعالجة أوضاع المهجرين والمغتربين ‏
وذلك من خلال الإهتمام بها وتهيئة مستلزمات الحياة الكريمة لهم. قال ابو عبد اللّه الصبيحى” ‏الغريب هو البعيد عن وطنه، وهو مقيم فيه”. (طبقات الصوفية/85).‏

الخاتمة
مسؤولية الحاكم تجاه رعيته
قال الإتليدي” لما رجع عمر (رض) من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، ‏فمر بعجوز في خباء لها فقصدها‎.‎‏ فقالت: ما فعل عمر (رض)؟ قال: قد أقبل من الشام سالماً‎.‎‏ فقالت: ‏يا هذا! لا جزاه الله خيراً عني! قال: ولمَ؟ قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين ‏ديناراً ولا درهماً‎.‎‏ فقال:‏‎ ‎وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله! والله ما ‏ظننت‎ ‎أن أحداً يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها‎.‎‏ فبكى عمر (رض)، وقال: وا ‏عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر! ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من ‏عمر، فإني أرحمه من النار؟ فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله‎.‎‏ فقال عمر: لست أهزأ بك‎.‎‏ ولم يزل ‏حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً‎.‎
فبينما‎ ‎هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب (رض)، وعبد الله بن مسعود (رض)، فقالا: السلام عليك ‏يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على‎ ‎رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في ‏وجهه؟ ‏
فقال لها عمر (رض): لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد،‎ ‎فقطع ‏قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر‎ ‎من فلانة ظلامتها منذ ‏ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين ديناراً. فما‎ ‎تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي ‏الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على‎ ‎ذلك علي وابن مسعود‎.‎‏ ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت ‏فاجعلها في كفني ألقى بها ربي”. ( إعلام الناس/10).‏

علي الكاش
مصادر المبحث
ـ السياسة. الحسين بن علي بن الحسين، ابو القاسم المغربي (المتوفى:418هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد ‏المنعم. مؤسسة شباب الجامعة. الاسكندرية. ط/1‏
ـ السياسة. الحسين بن عبد الله بن سينا (المتوفى:428هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم. مؤسسة ‏شباب الجامعة. الاسكندرية. ط/1‏
ـ تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك. ابو الحسن علي بن محمد البغدادي المعروف ‏بالماوردي (المتوفى:450هـ). تحقيق: محي هلال وحسن الساعاتي. دار النهضة العربية. بيروت ‏‏1986‏
ـ المنهج المسلوك في سياسة الملوك. عبد الرحمن بن نصر، جلال الدين العدوي الشيزري ‏‏(المتوفى:590هـ). تحقيق: علي عبد الله الموسى. مكتبة المنار. الزرقاء
ـ تحرير الأحكام في تدبير الإسلام. ابو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني ‏‏(المتوفي:733هـ). تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم أحمد. دار الثقافة. الدوحة 1988‏
ـ بدائع السلك في طبائع الملك. محمد بن علي الأندلسي، شمس الدين إبن الأزرق. (المتوفي: 965 ‏هـ). تحقيق: د. علي سالم النجار. وزارة الاعلام. بغداد (2) مجلد.‏
ـ العقد الفريد. شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه الاتدلسي (المتوفي:329 هـ). تحقيق: د. مفيد ‏محمد قبيحة. دار الكتب العلمية. بيروت. 1403 هـ.‏
ـ عجائب الآثار في التراجم والأخبار. عبد الرحمن بن حسن الجبرتي (المتوفي:123هـ). دار ‏الجيل. بيروت.‏