الحافظ ابن عساكر الدمشقي رحمة الله عليه، هو صاحب مقولة “لحوم العلماء مسمومة”، وأتذكر أني قرأتها لأول مرة في كتاب له حول السيرة النبوية، ولن يتدخل صاحب المقال في الدوافع والأسباب التي دفعت بالحافظ إلى تبني هذه المقولة، ولا يوجد مصطلح استغل أبشع استغلال كهذا المصطلح:
فئة تطلق لقب العلماء على فئة من العلماء دون غيرهم ولو كانوا أحسن منهم علما ودراية، وأصبح يطلق لقب العلماء على طائفة بعينها وعدد محصور في أشخاص بعينهم، فهؤلاء هم المقصدون من عبارة “لحوم العلماء مسمومة”.
أما العلماء الذين لا يدخلون ضمن هذه القائمة ولا الطائفة فلا حرمة لهم ولا للحومهم، ويتعرضون لأبشع ألوان السباب والشتائم والتهم التي تكال لهم بالمجان.
التصنيف عنصري طائفي بغيض بامتياز، مبني على طاعة عمياء لمن يطلق عليهم لقب العلماء، وعلى كره وبغض شديد لآخرين يطلق عليهم أيضا لقب العلماء، لكن مغضوب عليهم من الطائفة الأولى.
للعلماء حرمة ويستحقون التقدير والاحترام، ولا يوجد منهم من نال رتبة العصمة إلى يوم الدين، ويصيبون ويخطؤون، والتعامل يكون حسب الصواب والأخطاء.
والعلماء عقول وأخلاق قبل أن تكون لحوم، وإذا كان ولا بد فلحوم العلماء طيبة، ومهما كان العالم فإنه يخضع للنقد والمراجعة والتصحيح.
ويبقى حق النقد ملازما لحق الاحترام دون تهديد ولا استهتار، تعلق الأمر بـ: “أصاحب اللحوم المسمومة” أو من “ليسوا أصحاب اللحوم المسمومة”.
ويبدو أن عبارة “لحوم العلماء مسمومة”، شوهت تشويها بالغا عبر الزمن، واستغلت لأسباب سياسية أبشع استغلال، والتخويف المفروض قهرا، مظهر من مظاهر استغلال العبارة.
ومن حصر العبارة في علماء الدين وجعلها حكرا عليهم، فقد حرّف العبارة عن مضمونها، واستغلها في غير مقامه، وأخطأ وأساء الأدب مع علماء الفيزياء والرياضيات والجغرافيا والأطباء والفلك وغيرهم. فالعلماء في منزلة واحدة ولكل دوره ويستحق من الجميع بالغ التقدير. ونسعى أن يشمل مصطلح العلماء جميع العلماء الذين يستفيد منهم المجتمع في جميع التخصصات، والابتعاد عن حصرها في تخصص واحد وفي الفقهاء فقط دون غيرهم.
والفقيه لا يتدخل في ما لا يعنيه، والفيزيائي والرياضي لا يتدخل في الفقه. وتحدثت منذ سنوات عبر مقالات أقول فيها: الفقيه حين يتدخل في السياسة يصبح رأيه كغيره من الأراء، وقد يكون أضعف الأراء وأخطرها وأبعدها عن الصواب، حينها يؤخر رأيه ولا يأخذ به، ويأخذ برأي عالم السياسة لأنه أكثر علما وإدراكا لتخصصه وفنه.
خلاصة، لحوم العلماء ليست مسمومة لكنها محترمة مصانة ومعزّزة مكرّمة، بغض النظر عن المذهب الذي ينتمون إليه، والمكان الذي يأويهم، والسلطان الذي يرعاهم، والفكر الذي يدعون إليه.