كيف سَمَّتْ روما السريان النساطرة المتكثلكين، كلداناً–ج2
يتبع ج1
يقول القس بطرس الكلداني +1917م: كان كرسي المدائن يخضع لبطريرك أنطاكية سورية (السرياني)، وعندما خلع جثالقة المدائن الطاعة لرئيسهم الشرعي في أنطاكية، أرادوا أن يقيموا لهم كنيسة منفصلة عن كنيسة المسيح، فشرعوا ينسبون تأسيسها إلى رسل المسيح توما وأدي وماري لكي لا تظهر أقل شرفاً من الكنائس التي شيَّدها بطرس ومرقس في أنطاكية وروما والإسكندرية، فجثالقة المدائن لم يحوزوا قط على شرف ولقب البطريرك بحق قانوني، لكنهم اختلسوا اسم البطريرك والبطريركية واستبدُّوا به، وكرسي المدائن كان متعلقاً دائماً ببطريرك أنطاكية ولم ينزع عنه الطاعة إلاَّ بعد أن اعتنق النسطرة، وكل الأمة السريانية بطوائفها (الكلدان والنساطرة، والسريان “يقصد السريان الكاثوليك” واليعاقبة “يقصد السريان الأرثوذكس” والموارنة والملكيون)، كانت خاضعة لبطريرك أنطاكية (بطرس نصري، ذخيرة الأذهان في تواريخ المغاربة والمشارقة السريان، ج1 ص21، 28، 40، 52-55).
يقول بطريرك الكلدان عمانوئيل دلي (2003-2012م): علينا أن نعترف منذ الآن أنه على حد علمنا ليس ثمة معطيات تاريخية تخولنا تأكيد تاريخ تأسيس الجثلقة في المدائن قبل مجمع فافا سنة 317م، وقد حاول مؤرخو كنيسة المشرق وأدباؤها كماري وصليبا والصوباوي وابن الطيب وغيرهم أن يبرهنوا أن كنيستهم ترجع إلى أصول رسولية، بل أدخلوا ضمن الأصول الرسولية بعض الكراسي الأسقفية أيضاً، وهذا أمر طبيعي إذ يرغب الجميع بإرجاع أصولهم إلى أحد الرسل أو على الأقل إلى أحد التلاميذ التابعين لهم، وفي سبيل تحقيق هذه الرغبة عَمدَ المؤلفون إلى جمع مختلف الأخبار والأساطير التي تؤيد فكرتهم، وعند الحاجة اختلقوا قصصاً لسد الفراغ في الكتابات المنحولة لتحقيق هدفهم، وهو الوصول إلى العهود الرسولية، ويوَّضح البطريرك دلي أنه مع الرأي القائل: إن أصالة أدّي وماري وأجي ونثائيل مشكوك فيها كثيراً خاصة أبريس ويعقوب وإبراهيم الذين قدَّمَهمْ المؤرخون على أنهم أقارب الرب، وهذا التقليد هو مصطنع إلى أن جاء تاريخ أربيل لمشيحا زخا الذي إن صَحَّ فهو الأكثر أصالةً وتماسكاً مع المعطيات التاريخية، وكان الشغل الشاغل لأولئك المؤلفين هو إظهار الأصل الرسولي أو شبه الرسولي لكنيسة ساليق (المدائن)، فالفراغ الكبير بين ماري +82م، وفافا +329م حَيَّر المؤلفين في العصر الوسيط، لذلك حاولوا إيجاد حل منطقي، فأدخلوا في جدول الجثالقة (البطاركة) أسماء أشخاص بعضهم والحق يُقال إنه موضع شك كبيرن ويضيف البطريرك دلي قائلاً: يقول دوفليليه في الشرع الكلداني ص367: يتعذر علينا تتبع تاريخ هذه الكنيسة ولا نكاد نعرف جدول بطاركتها وتسلسلهم الحقيقي إلى عهد الجاثليق شمعون فرج الباصيدي سنة 1450م عندما أصبحت وراثية، وحتى بعد هذا التاريخ استأثرت عوائل أخرى بالكراسي الأسقفية (بطريرك الكلدان عمانوئيل دلي، المؤسسة البطريركية في كنيسة المشرق، ص31 -41، مستنداً على مصادر ومخطوطات كثيرة).
وقطعاً إني (نيسكو) لا أوافق البطريرك دلي بقوله: إنه أمر طبيعي أن يقوم المؤلفون بجمع مختلف الأخبار والأساطير وعند الحاجة اختلقوا قصصاً وأساطير لسد الفراغ في كتابات منحولة لتحقيق هدف إرجاع أصولهم إلى الرسل أو أحد تلاميذهم، فالتاريخ يُبنى على حقائق، وليس على أساطير وأحلام وأمنيات، والباحث الحقيقي يجب أن يُغربِّل الأساطير ليصل إلى الحقيقة، وتعبير البطريرك دلي نفسه دليل قاطع على خلق تاريخ منحول لكنيسة المشرق.
يقول جيرلمي لابور وهو من الكُتاب المهمين الذين يعتمد عليهم آباء كنيسة المشرق في كتاباتهم حيث ألَّف كتاباً مهماً سنة 1904م بالفرنسية سَمَّاه (المسيحية في الإمبراطورية الفارسية في عهد سلالة الساسانيين بين سنة 224-632م)، وفي عنوان “الأساطير والتقاليد المتعلقة بمسيحيي بلاد فارس”: منذ العصر الوسيط شعر الناس بفكرة وضرورة جعل رسولية كنائسهم أمراً ملموساً وواقعاً حاصلاً، فمنذ القرن الخامس وبعده جرى هذا الأمر في كنيسة المشرق لجعل كرسيها ساليق- قطسيفون من أصل رسولي، فاخترعوا قصصاً وحكايات أسطورية خرافية وخلقوا لهم أبطالاً من الصفر لإثبات ذلك (Le Christianisme Dans l’empire Perse، Sous la Dynatie Sassanide ص9).
يقول Baum & Winkler في كتاب كنيسة المشرق، وهو كتاب مهم يستشهد به البطريرك الكلداني لويس ساكو: إن كنيسة المشرق استقلت عن أنطاكية، وقد تخللت تاريخها أساطير كثيرة الهدف منها هو إرجاعها لتوما وماري لإعطائها سمة لجعلها رسولية، ولكن رسولية كرسي ساليق وقطسيفون صعبة التحقق، وليس هناك أي دليل أو إشارة أنها من أصل رسولي، ومن المثير للاهتمام أنه لا توجد أية إشارة في التقليد وسجلات المجامع السريانية الشرقية لماري وأجي قبل سنة 612م ولو مرة واحدة (The church of the east ، ص12-20).
يقول الأستاذ هرمان تول في جامعتي نيميغ ولوفان، ومدير معهد فور اوسترس كريستندوم، وهو أفضل العارفين بالتقليد السرياني الشرقي للكلدو أثوريين كما مكتوب على كتابه المهم والحديث الذي صدر سنة 2010م، وقدَّم له وترجمه الأب الكلداني ألبير أبونا: أقدم وثيقة عن تبشير ماري لكنيسة المشرق جاءت بالعربية، وماري هو شخصية أسطورية، والوثيقة غير جديرة بالثقة (هرمان تول: الكلدو- آشوريون، مسيحيو العراق وإيران وتركيا، ترجمة وتقديم الأب ألبير أبونا، ص13).
(نيسكو): بعد أن قمتُ بدراسة كل المراجع تقريباً، أقول: أغلب التقليد يقول: إن المسيحية دخلت العراق على يد أدّي وتلميذيه أجي وماري، ومع أن قصة وتعليم أدّي وماري أساطير مشكوك فيها من آباء كنيسة المشرق أنفسهم (يوسف حبي، كنيسة المشرق، التاريخ، العقائد، الجغرافية الدينية، ص89-113. وألبير أبونا، تاريخ الكنيسة، ج1 ص10-16)، لكن ما يجب أن يُقرُّ به عموماً بعد غربلة كل تلك الأساطير، أن ماري وتلاميذه فقط لهم علاقة بتبشير العراق، فالمُبشِّر أدّي، هو أخو توما الرسول وتوأمهُ وأحد المبشرين السبعين أرسله أخوه توما لتبشير الرها، وأول أسقف معروف في العراق هو أسقف أربيل فقيدا بن بيره سنة (104-114م) الذي اعتنق المسيحية سنة 99م (مشيحا زخا، كرونولوجيا (تاريخ) أربيل، ترجمة وتحقيق عزيز عبد الأحد نباتي، أربيل ص39. والمطران أدّي شير، تاريخ كلدو وأثور، ج2 ص8-9. وبيره لفظة كوردية تعني الشيخ)، وليس صحيحاً أن أدّي أو ماري أو أجي من رَسَمَ فقيدا، وتؤكد المصادر أن أدّي بَشَّرَ في الرها فقط وتوفي فيها، وكثير من المصادر تشير إلى أنه توفي قبل أبجر الملك المتوفى سنة 50م، وهناك من يقول إنه توفي في بيروت، ومهما يكن فإن أدّي شخصياً لم يصل العراق وتوفي قبل تلميذيه أجي وماري، فأجي قتله ابن أبجر الملك بعد وفاة أبيه سنة 50م بسنوات قليلة (كرستوف باومر، كنيسة المشرق، ص20 وفي بعض المصادر اسم ابن أبجر الملك هو سورس)، وماري توفي سنة 82م البطريرك دلي، المؤسسة البطريركية، ص37)، وماري بَشَّر في نصيبين وانطلق منها إلى أرزن بصحبة القس أنسيمس الرهَّاوي وشمامسة آخرين، كما بَشَّرَ في بيث زبدي وطور عبدين، ولا نستطيع أن ننفي أو نؤكد أن ماري وصل أربيل وكركوك وبَشَّرّ فيهما، لكننا نجزم أنه لم يصل إلى المدائن، وقصة ماري والمدائن هي أسطورة خرافية واضحة حيث تجعل من فافا المتوفى سنة 329م خلفاً لماري، وقد كُتبتْ القصة في القرن الثامن أو التاسع (الأب ألبير أبونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج1 ص14، وراجع قصة ماري في شهداء المشرق، ج1 ص15-35، لترى الأساطير الأخرى، فماري شيَّدَ مئات الكنائس، وفي منطقة رادن قرب بغداد وحدها شَيَّدَ 365 كنيسة، وفي مصادر أخرى، كمختصر الأخبار البيعية ص110، كان ماري مرافقاً لمعلمه أدّي المتوفى سنة 50م تقريباً، وغيرها من الأساطير الواضحة).
إن أسماء، أدّي، تدي، تداوس، وليباوس متشابهة في النطق (معناه متفوق في الحكمة)، وتلك الأسماء هي لشخص واحد، وهناك خلط بينه وبين يهوذا أحد رسل السيد المسيح الاثني عشر الذي سُمِّي تداوس في بعض المصادر، وأحياناً أيضاً خلط بين توما ويهوذا تداوس (أوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، كتاب 1 ف13 ص45-48)، وخلط بين أجي وأحي اللذين هما شخص واحد، وعادةً النصوص التي تتحدث عن أجي لا تذكر ماري، ولا ذكر لأجي وأحي قبل القرن الحادي عشر (بطرك الكلدان لويس ساكو، خلاصة تاريخ الكنيسة الكلدانية، ص7).
أمَّا توما الرسول الذي تقول الأخبار عنه بالتواتر أنه ولد في أنطاكية فليست له علاقة بتبشير العراق وتكوين كنائس ورسامة أساقفة وكهنة (أندرو ميلر، مختصر تاريخ الكنيسة، ج1 ص77، وأكيد المبشر أدّي وهو توأم توما مولود في أنطاكية أيضاً).
يقول الكاردينال أوجين تيسران: ليس هناك أي تعاقب أسقفي يتصل بتوما، وزيادة على ذلك فإن رؤساء الكنيسة الكلدانية لا يرقون بعنوانهم الرئيس إلى ذلك العهد فيُقال عن واحدهم “الجالس على كرسي تدي أو أدّي الرسول”، أو بالأحرى أحد الاثنين والسبعين تلميذاً، وهذا القول إنما هو أسطورة رهَّاوية، ويستند تقليد تبشير توما إلى قول عام لأوريجانوس وأوسابيوس (ولما تفرَّق الرسل وقعت حصة بلاد الفرثيين لتوما)، وانتقل هذا القول وتوسَّع في النصوص التاريخية غير المستندة إلى أعمال الرسل وخواتم حياتهم، فتوما حسب المؤرخين اليونان كهيبوليت ودورتي وأبيفانيوس، وأقطاب المؤرخين الآراميين كميخائيل الكبير وابن العبري وابن الصليبي وسليمان البصري، وفي معجم إيسيدوروس الأشبيلي وغيره من الغربيين، كلهم يُجمعون على أن توما بَشَّر الفرثيين والماديين والفرس والهيرقانيين والبختريانيين، وفي النصوص المُلخَّصة بَشَّر الفرثيين والماديين فقط، ومن الغريب أن حياته تقتصر على قيامهُ بالتبشير في بلاد الهند فقط مع أن كاتبها آرامي الأصل وعارفاً بتوما (الكاردينال تيسران، خلاصة تاريخ الكنيسة الكلدانية، الموصل، 1939م، ص7-8. ورأينا أن العلاَّمة السرياني عبديشوع الصوباوي يقول: إن توما بَشَّر الهنود والصينيين).
وحقيقة الأمر عن توما أن هناك خبراً يتيماً يقول إنه مرَّ بالموصل سنة 35م تقريباً في طريقه إلى الهند وعمَّدَ في طريقه شخصاً اسمه برحذبشابا (عبد الأحد) بن مهير فيرزطو كان يعمل في حامية فارسية قرب تكريت، وفي تواريخ ملبار الأقرب إلى الصحة برحذبشابا كان في الهند وليس في تكريت، وفي نشيد النفس العائد إلى مار توما الرسول لسنة 224م يروي رحلته إلى الهند، ويُبيَّن أنه لم يسلك طريق الموصل، بل طريق تدمر الصحراوي للوصول إلى البصرة، إذ يقول: مررتُ بتدمر وتركتُ بابل وأتيتُ إلى ميشان (البصرة).
)A. Bevan، Syriac acts of st. Tomas، hymn of the soul Cambridge, (ص24-25، 1897م
يقول الأب ألبير أبونا: على الأرجح أن توما الرسول اجتاز البحر ولم يمر في بلاد ما بين النهرين (ألبير أبونا، مجلة بين النهرين، عدد 169-170، 2015م، ص36).
يؤكد التقليد الهندي أيضاً وهو أقرب إلى الصحة أن توما وصل الهند سنة 52م وتوفي سنة 75م، والمهم أن توما الرسول لم يرسم أسقفاً أو كاهناً في العراق، ولا ننسى أن ماني (215-267م) سَمَّى تلميذيه توما وأدي لإطفاء طابع جذاب على دعوته، لذلك فربط توما وأدي هو منذ النصف الأول من القرن الثالث الميلادي هو لإطفاء طابع جذاب على الأسطورة، ومدينة الموصل هي آخر مدينة عراقية دخلتها المسيحية، ولا وجود لأسقف معروف فيها قبل نهاية القرن السادس الميلادي، وحتى بعد أن دخلتها المسيحية، بقيت الموصل تابعة لأربيل إلى القرن الثامن عشر تقريباً.
المهم أن فقيدا هو أول أسقف مسيحي معروف في العراق وهو أسقف مدينة أربيل، ومن رَسمَ فقيدا هو أحد تلاميذ أدّي أو ماري في أضعف الاحتمالات، وتبشير العراق وصل عن طريق أنطاكية- الرها إلى مدينة أربيل.
وشكراً، موفق نيسكو، يتبع ج3