من له صديق ويريد أن يتمسك به لخصاله وفضائله، قبل أن يندم على فراقه، عليه أن يقرأ كتاب: ” وصلة الطالب لدوام صحبة الصديق والصاحب”، للإمام أحمد بن أحمد بن شهاب الدين الفيومي الغرقاوي المالكي، رحمة الله عليه، المتوفي سنة: 1069 هـ – 1659 ، تحقيق الأستاذ: سهام صلاّن، دار سعد الدين، دمشق، الطبعة الأولى: 1434 هـ – 2013 ، من 95 صفحة.
ينصح الكاتب كلّ من بلغه كلاما عن صديقه أن يتّبع الخطوات التالية، عبر صفحات 23- 28، فيقول:
ينبغي لمن بلغه عن أخيه شيء من فعل أو قول صدر منه في حقّه أن يتهم الناقل بقوله: أنت القائل ويلومه على ذلك. ويجب عليه أن ينهاه ويقبّح له فعله، ويأمره بالمعروف. وينبغي للعاقل دوام عدم الإصغاء إلى قائل أو واش ينقل عن الصديق مايوغر القلب. ويشرح ذلك قائلا: عدم الإصغاء إلى كلام إخوان الرغائب فيه السلامة من شدائد النوائب والأمن من المخاوف بسلامة العواقب، والأمن من قطيعة الصديق والصاحب. والقاعدة عنده، لاتكن ظنانا تكن دائما آثما.
وجاء في الفصل الأول ، المعنون بـ: في النهي عن سوء الظن، و الممتد عبر صفحات 29 – 34:
إعلم أنّ في المبادرة إلى سوء الظن حرمة وهو منهى عنه في الكتاب والسنة. واتقوا الساعي فإن كان في قوله صادقا كان في صدقه لئيما حيث لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة، وإن كان كاذبا كان في كذبه آثما حيث لم يجتنب ماأمر باجتنابه. ثم يشرح خطورة سوء الظن، فيقول: فكما يحرم أن تحدث غيرك بمساوىء إنسان يحرم أن تحدث نفسك بذلك، وتسىء الظن، وحقك أن لاتحمل فعله على وجه فاسد ماأمكنك وجه حسن. وحيث كان الفعل يحتمل وجهين فالمطلوب حمله على الحسن. ويرى أنه، من علامات إساءة الظن أن يتغيّر قلبك معه كما كان، فتنفر عنه، ومهما خطر لك سوء في مسلم فزد في مراعاته وإكرامه. ثم يقدم نصائح للصاحب، فيقول: وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطّلاعك على أمره. واقصد تخليصه من الإثم وأنت حزين، كما تحزن على نفسك إذا دخلك نقص، وينبغي أن يكون تركه لذلك النقص لغير وعظك أحبّ إليك من تركه بوعظك. ويختمها بقوله: أسوأ المعاصي سوء الظن.
وفي الفصل الثاني، تحت عنوان: في تحمّل أذى الإخوان وإقالة عثراتهم والنهي عن الغضب بسبب هفواتهم، الممتد بين صفحات 29 – 52 ، يقدم النصائح الغالية التالية:
أفضل أعمال البرّ الصبر سيما على الأذى. وكمال الخلق إنما ينشأ من كمال العقل. فعلى العاقل أن لايطيع هوى نفسه إذا قصروا في حقه وآذوه، بل يقابلهم بغاية النعم ونهاية الكرم. فكما أنه يجني ويطلب من ربه العفو، فكذلك إذا جنى أو بغى، فينبغي له العفو عن الجاني والباغي ليعفو الله عن جنايته جزاء وفاقا. وينبغي للإنسان أن يزيد في الإحسان إلى مؤذيه ومباغضيه وقاطعيه وحارميه. فلا عذر لك في مقاطعة قريب، ولايقبل منك التعليل بأنّ قريبك أو صديقك يواصلك بالقطيعة والجفاء والإساءة والأذى، بل الأولى لك ياأخي التجمّل بأثواب الكمال وارتداء برد العفو والكمال. والمطلوب منك أن تقهر نفسك على التواضع للبعيد والقريب ماأمكنك.
ولعلّ الفصل الثالث: في الإلفة والصحبة والصاحب ومالهم من الحقوق والمطالب هو جوهر الكتاب، لأنه يمنح الصديق وسائل وطرق نافعة دائمة في الحفاظ على صديقه والتشبث به، لذلك كان الأطول، فكانت هذه النصائح الغالية، عبر صفحات 53 – 94:
الصحبة في الله تعالى من أكثر أبواب الخير. وإذا أراد الله بعبده خيرا وفّقه لمصاحبة أهل الدين والصلاح. وموافقة -الصاحب- فيما أبيح، ومخالفته فيما حظر، وحمده إن أحسن نيته، وإن لم يساعده عمله. وأن لايملّ أخوته وصداقته. والإغضاء عنه في بعض المكاره. وإذا ظفرت بأخ أو صديق فاحذر أن تضيّعه. ثم يطلب من قارئه: صدق المحبة. وترك العتاب. وحفظ المودة القديمة والصداقة الصادقة. وأن يكرمه أكثر من إكرامه لنفسه. وملازمة الأدب وحسن المعاشرة معه. وحفظ سرّه. وأن لايخالفه في أمر دنيوي، فإن الدنيا أحقر من أن يتخالف فيها أخوان. ودوام صفائك وتقواك في العشرة، وطيب الكلام، ودوام البرّ والصّلة. وترك هجره فوق ثلاث. وترك المداهنة في الدّين، لأنه يترتب عليه في المفاسد، وسلوك مسالك التّهم مالايليق. والذّبّ عنه والانتصار له. ودوام الرحمة والشفقة. وطلاقة الوجه، لأن البشاشة من أخلاق الصّديقين. وتولي خدمة من نزل به. والإعانة بالنفس في قضاء الحاجات إمّا مع السؤال والقدرة وإظهار السرور والبشرى. وأن يشاركه في المكروه كالمحبوب. وأن لايمنّ بمعروف على من أحسن إليه. ولايقبل في أخيه وصديقه مقالة واش أو نمّام. والوفاء بحقّ الأخوة، ولو بعد الموت بحفظه في ولده، ودوام الدعاء له وزيارة قبره، وحفظ عودته. وسلامة الصدر للقريب والبعيد. وأن لايخلف وعده. وتذكّر قديم العهد والأخوة عند وقوع الوحشة وتنافر الإلفة حتى يعود دوام الوصول ونزول القطيعة والمثلة، فإن من كرم العهد والمروءة والنخوة عدم نسيان وصلة الصداقة. وقبول اعتذاره ولو بالكذب. وأن لاينسيه بعد داره إخوانه وأصدقاءه. وتكريره زيارة الإخوان. وأن تنصحه، لكن في السر دون العلن مع المبالغة في البيان للإصلاح والتبري من الخطاب وخفض الصوت ورعاية مقداره وعلمه وفهمه. وأن تفتقده وتسعى إليه في المهمات والأمراض، وتحزن لحزنه وتسرّ لسروره. والعفو عن زلتهم وهفوتهم وترك مؤاخذتهم بها ثم إن كانت دينية، فعليك بالتلطّف به ماأمكن حتى يعود صلاحه. وأن تتلطّف به في المعاملة وتدعو له بالعود على ماكان عليه. واحذر ان قاطعت ان تبالغ في النقض. ودوام عدم مصادقة عدوه.
ثم يبيّن الكاتب أقصى درجات الصحبة، فيقول: وأما الدرجة القصوى وهي أن ترى لأخيك الفضل دائما وإن أساء. والتدلل للمحبوب مطلوب، لما ينشأ من ستر العيوب، وإراحة القلوب. وزيارة الإخوان عادات الصالحين. والمطلوب التجمّل بأثواب العفو، والحمل لكل خطأ وهفو، فإنّ فضل العفو كبير ونفعه غزير. ولاتضيّع زبدة حلمك مع عدوّك فضلا عن صديقك. وإنه مما ينبغي أن يجتنب الحقد، لأنه ينافي صفة الإيمان. فامنع مزاولة الحقد من أصله، وإياك والشحناء فانها محرّمة. وأول غضب عصي الله به، الحقد والحسد.
بقيت الإشارة، أن أسلوب الكاتب امتاز بالبساطة. حيث يقرأ الكتاب في جلسة واحدة، لما فيه من عوامل جذب القارىء، والتمتع بالكتاب. فهو يعرض فكرته ثم يدلل عليها بآية قرآنية، أو حديث نبوي، أو قول للعلماء والأئمة والفقهاء، أو قصة ممن أخذها عن شيوخه أو قرأها في بطون الكتب، أو بيت شعري.
خلاصة، من وجد نفسه أن الصفات الحميدة التي ذكرها الكاتب في المحافظة على الصاحب والتشبث به، فليحمد الله على فضله ونعمه. ومن وجد أن الران مازال رابضا على قلبه، وأن الحقد والبغض والحسد والنميمة وسوء الظن هي جوهره ، وإن ادّعى عكس ذلك، فليرجع للكتاب، فإنه دواء للأحباب، وعلاج للأصدقاء، وشفاء من كلّ مايكدّر بين المتحابين.