تعرضت كوردستان خلال القرن الماضي إلى أبشع أنواع الحروب التي شملت كل أنواع الأسلحة بما فيها المحرمة دوليا كما حصل في مدن هورامان وكرميان وبادينان إضافة إلى عملية تدمير شامل للبنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية من خلال إزالة معظم قرى كوردستان التي بلغت ما يقرب من خمسة آلاف قرية بمن فيها وما فيها وقتل ما يقرب من ربع مليون طفل وشيخ وامرأة اكتشفت بعد سقوط النظام مقابرهم الجماعية التيضمت عشرات الآلاف من رفاتهم وقد دفنوا أحياء في صحراوات الجنوب العراقي هذا بالإضافة إلى ما كانت تقترفه ميليشيا البعث المسماة بالجيش الشعبي من جرائم بحق السكان في معظم كوردستان وهي عبارة عن تنظيمات حزبية مستقدمة من خارج الإقليم كانت تقوم بعمليات دهم وسلب ونهب بالتعاون من مرتزقة النظام في الداخل ممن كانوايسمون بالفرسان إضافة إلى جرائم الأجهزة الخاصة ( الأمن والاستخبارات والمخابرات ) التي لم يسلم من عذاباتها أي مواطن حر وشريف ورغم بشاعة ما كان يحدث فقد عتمت وسائل الإعلام العربي كعادتها على كل تلك الجرائم التي تتعلق بالإنسانية حيث همشت بل وتغاضت تماما عن أي ذكر لخبر أو نبأ يتعلق بتلك الجرائم العظمى بل كانت تعتبرها عمليات تحرير وتطهير للبلاد من المخربين!؟
كل هذه الجرائم مغمسة بانين الجرحى والثكالى من الأمهات والزوجات والأيتام كانت أمام قيادات الانتفاضة العظمى لشعب كوردستان في آذار 1991م بعد تحرير معظم أراضي الإقليم باستثناء المناطق التي ما تزال خارجه والمشمولة بالمادة الدستورية 140 وهي ترسم خارطة الطريق إلى المستقبل في مطلع تسعينات القرن الماضي حيث أدرك الرئيس بارزاني حقيقة مهمة في التكوين النفسي والأخلاقي للفرد والمجتمع الكوردستاني القائم على التسامح وعدم الانتقام والجنوح إلى السلم والأمن مستفيدا من الإرث الكبير لمفردات الثورة الكوردية طيلة أكثر من نصف قرن ليتخذ قراره الجريء هو ورفاقه في الجبهة الكوردستانية بإصدار العفو العام عن كل أولئك الذين تورطوا بجرائم ما كان يسمى بقوات صلاح الدين من مرتزقة النظام وأزلامه في المنطقة بمن فيهم الكثير من القيادات البعثية من خارج الإقليم ممن لم يتورطوا بجرائم ضد الشعب فقد تمت رعايتهم ونقلهم إلى ذويهم مع مقتنياتهم والحفاظ على أملاكهم العقارية حيث وجه الرئيس مسعود بارزاني بعدم الاستحواذ على أية أملاك عائدة لهم والتعامل معهم كمواطنين مالكين شرعيين لتلك العقارات إما إيجارا أو بيعا دونما غصب أو استغلال ويشهد المنصفون ممن تعاطوا مع هذه الملفات كل هذه الحقائق بل وتتذكر كثير من القيادات العسكرية والحزبية في كثير من البلدات الكوردستانية كيف إن المواطنين قاموا بحماية اسرهم ونقلها مع مقتنياتها إلى مواطنهم الأصلية عكس ما جرى في كثير من المناطق سواء في العراق أو البلدان التي اشتعلت فيها نيران الاحتجاجات وأفضت عن سقوط أنظمتها واشتعال أعمال الانتقام والتصفيات كما في ليبيا وسوريا ومصر واليمن بينما تم التعامل في كوردستان مع ما يقرب من خمسين ألف أسير من جنود الجيش وضباطه إبان الحرب الأخيرة عام 2003م بإيوائهم في بيوت المواطنين والمدارس والجوامع ورعايتهم وتخييرهم بين البقاء في كوردستان معززين مكرمين أو العودة إلى ذويهم صورة من أرقى صور التسامح والإنسانية وقرار من ارفع وأسمى القرارات التاريخية خاصة وهم جميعا ينتمون إلى المؤسسة العسكرية المسؤولة عن تدمير كوردستان وأنفلة مئات الآلاف من سكانها.
ولان فاكهة البيت مرة كما يقولون فلم يتناول الإعلام العربي ولا الشرق أوسطي هذا السلوك النبيل للرئيس بارزاني ورفاقه في الجبهة الكوردستانية التي كانت تضم معظم الأحزاب الرئيسية في كوردستان هذا القرار الذي وضع أسس الأمن والسلم الاجتماعيين في كوردستان ومنع قيام أي عمليات انتقام بين المواطنين أفرادا كانوا أم أحزابا وقوى بما يعزز التسامح والبناء المتحضر للمجتمع الكوردستاني وهو في خطواته الأولى نحو الحرية والانعتاق.
إن اتخاذ هكذا قرار وتطبيقه ليس أمرا سهلا بل في غاية الصعوبة والمرارة لكنها الحكمة والإصرار على بناء مجتمع معافى من أدران الكراهية والانتقام والأحقاد ليتفرغ أبناءه وبناته لبناء بلدهم المخرب منذ عقود طويلة وهذا ما جرى فعلا فقد تحدت إرادة الخير والبناء والسلام الاجتماعي كل مشاعر الانتقام والكراهية ودمجت تلك القوى والعناصر في عملية التغيير حتى أصبحت جزءاً مهما من عملية البناء هي وأبنائها وأحفادها لتنتهي حقبة الكراهية والانتقام ولكي تنهض كوردستان اليوم بهذا الشكل الزاهي ليس في بنائها الاعماري بل في نسيجها الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الذي وضع أسسه وبذوره الأولى الزعيم مصطفى البارزاني وحوله مسعود بارزاني والخيرين من أبناء وبنات كوردستان إلى مفردات وبرامج عمل للنهوض بالإقليم اجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا وحضاريا.