لستُ بصدد بيان تفاصيل ما جرى في باريس يومي 8 و 9/1/2015 من إعتداء إرهابي على مقر مجلة قتل فيه شرطيان و8 من أشهر رسامي الكاراكاتير في فرنسا وأربعة مواطنين.
أنا هنا بصدد الإشارة الى ردود الأفعال الشعبية الفرنسية والعالمية، حيال ذلك الهجوم الارهابي، التي أخذت منحى الانتقام من مسلمي فرنسا عشوائياً رغم أن معظم الحكومات والمحافل الاسلامية العربية وغير العربية الرسمية وغير الرسمية في فرنسا والعالم قد أدانت العمل الإرهابي.
حصلت اعتداءات على بعض مساجد المسلمين في انحاء فرنسا، وانتقمت احدى الفتيات بحرق القرآن؛ ودعا آخرون الى اعادة طبع ما انزعج منه المسلمون في تلك المجلة الساخرة (تشارلي أبدو) وهي مواد حقيرة واستفزازية حقاً حسب مراقبين محايدين. كتب أحد كتاب صحيفة “النيويورك تايمز” قائلاً بأنه لو نشرت صحيفة جامعية أمريكية مثل تلك الرسوم والتعليقات لما بقيت على قيد الحياة أكثر من ثلاثين ثانية لأن القراء كانوا سيحتجون لدى ادارة الجامعة التي تضطر لحجب التمويل عن المجلة.
أما العالم فقد توترت أعصابه وانشغلت حكوماته وفضائياته ووسائل إعلامه بالحدث.
أخافت ردود الافعال، تلك، واحتمالات تطورها نحو الأسوأ – وزيرَ الداخلية الفرنسي ما دعته الى تحذير الجمهور الفرنسي من مغبة الاعتداء على أي شخص أو مصلحة بدافع ديني. وطالب رئيس الجمهورية الفرنسية الفصل بين الارهاب والاسلام.
حصل هذا في بلد عريق في ديمقراطيته وحرياته المتنوعة، قيادي في العالم، مستقر ولديه أجهزة أمنية متمرسة وكفوءة قادرة على كشف الارهابيين وضربهم بسرعة فائقة لتشفي غليل من حنق من حصول هكذا اعتداءات.
مع هذا، أعتبرُ ما حصل من ردود أفعال يمثل تصرفات إنسانية طبيعية ومتوقعة، رغم أن هناك قدر من الاثارة المتعمدة من جانب أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى لحرف الانظار والتغطية على أزمتهم المستفحلة. تم طمس حقيقة أن أثنين من ضحايا العمل الارهابي كانا جزائريين أحدهما مصحح لغوي في المجلة وآخر كان شرطياً.
نأتي الآن الى بلد آخر وهو بيت قصيدي.
على مدى عشر سنين تُقطع أوصال رجال ونساء وبنات وأبناء وأطفال وشيوخ ذلك البلد يومياً تقريباً – تُقطع أوصالهم بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة واللاصقة والمتفجرات المتنوعة والرشاشات والكواتم والصواريخ والهاونات. فاق عدد الشهداء المائة ألف شهيداً ونصف مليون مصاباً.
ذلك البلد هو العراق الذي لا نرى ذلك الاهتمام الكافي حيال مأساته. وإذا “هرع” البعض لنجدته والدفاع عنه ضد الارهاب فلاستعراض العضلات وإبعاد الشبهات عن الذات والأهم لغايات سياسية غير نزيهة ولا نظيفة. حتى بعض المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان، كثيراً ما أدانت الضحية وانتصرت للجاني الارهابي وكأنها تدعم الاعلام المغرض لشركات النفط ضد الحكومة العراقية لأن الأخيرة أفشلت مشاريع الشركات الاقتصادية والسياسية. لقد اهتزت الثقة بتلك المنظمات وهي لا تابه لأن مستثقفي العراق يشدون أزرها!.
لم يفعل الأبرياء العراقيون ولم يتفوهوا بما يسيء لأحد ولم يعتدوا على أحد. بل على العكس فإنهم أبناء سكنة المقابر الجماعية إبان العهد البعثي، ولما تحرروا قدموا الديمقراطية بدل الدكتاتورية والمقابر الجماعية للطغمويين* الذين ردوا جميلهم بمزيد من المفخخات والمقابر.
يستشيط الناس غضباً وأولهم، بطبيعة الحال، أهالي الشهداء ويغضب المصابون وأهاليهم والمسؤولون الشرفاء بمختلف مستوياتهم واختصاصاتهم من هذه الاعتداءات. وما يضاعف الحنق:
– إن حواضن الارهابيين معروفة ومحددة.
– يصعب اختراق تلك الحواضن بالجهد الاستخباري لأنها محصنة بفتاوى بعض رجال الدين الذين يحرمون التعاون مع الاجهزة الامنية.
– وعندما تحاصر القوى الأمنية أو تقتحم بعض تلك الحواضن يقيم الدنيا ولا يقعدها نواب ووزراء وسياسيون أقسموا بشرفهم على السهر على حماية أرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم ومصالحهم. لكنهم، في التطبيق، يوفرون الحماية للقاتل وليس للضحية.
– استهتروا بارواح الناس فانخرط مسؤولون طغمويون في قائمة الإرهابيين المجرمين وقد ألقي القبض على بعضهم وفلت الكثيرون. المصيبة عندما يكون هناك نواب متهمون بالارهاب ويأبى رئيس مجلس النواب طرح أسمائهم على المجلس لرفع الحصانة عنهم، وهو أمر شكلي، تمهيداً للتحقيق معهم، وهذا ما حصل في دورة البرلمان السابقة.
– والاكثر عندما ينوح القاتل ويصيح أنه “مهمش” و “محروم” من حق القتل المجاني ويؤيده أوباما وجون ماكين.
– ويخرج عليك الحزب الاسلامي ويتهم “الميليشيات” بقتل وهمي، والميليشيات اسم رمزي للضحية في وقت يُلقى فيه القبض على اربعة من ديوان الوقف السني في البصرة متهمين بمقتل ائمة المساجد الذين ناح عليهم الحزب الاسلامي نفاقاً.
– والآنكى أن تأتيك بعض منظمات حقوق الانسان وتتهم المقتول بقتل القاتل الذي لم يُقتل!!
– وفوق كل هذا يصمت المستثقف الذي يفترض فيه أن يكون عين وضمير الشعب وقاضيه ليؤنب المذنب وينتصر للضحية. لكنه يستهين بالضحايا ويعتبرهم “قطيعاً” لأنهم فقراء. إنه المستثقف الفاشل الذي لا يجيد غير الثرثرة ويُكثر الحديث الفارغ الببغاوي عن كَرامشي ودور المثقف العضوي دون أن نلمس منه شيئاً يقترب من كَرامشي!!
كلهم يرقصون على أشلاء العراقي الذبيح.
ومع كل هذا يلملم ذلك العراقي أوصال أحبائه ليدفنها ويحبس غضبه ويعظ على جراحه ويرى كيف يغضب وينتقم الفرنسيون وغيرهم على أمر لا يساوي شيئاً مما هو فيه…. ومع ذلك فهو يحزن ولا ينتقم …… لأنه:
– ذكي يفهم ما يُراد للشعب والوطن وهي حرب أهلية لكي يُقضى على الدستور والديمقراطية ويؤسَّس لدويلات طوائف متناحرة تتوحد فقط تحت راية الراعي الامبريالي الصهيوني يوجهها لتنفيذ مشاريعه في المنطقة بأرواح عراقية واموال عراقية.
– شريف لا يريد الانتقام.
– معلم يريد أن يستنهض المستثقف لإدراك واجبه الوطني والأخلاقي والثقافي ويقلل من جعجعته وثرثرته وعبثه وتبعيته الجديدة للفكر الامبريالي.
– متضامن مع ديمقراطيي المناطق التي تنتخب الطغمويين داعياً إياهم الى رفع وتيرة همتهم ورفع صوتهم ليعلو فوق صوت ذوي المصالح الطغموية الطبقية الضيقة لعزلهم عن الجماهير.
– يناشد ضمائر الجميع ليؤمنوا بالوطنية والديمقراطية ويكفوا عن احتضان القاتلين ويتنافسوا تنافساً ديمقراطياً شريفاً.
إنه المعلم الشريف الكبير…. إنه الشعب العراقي بفسيفساءه الجميل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*):للإطلاع على “مفاتيح فهم وترقية الوضع العراقي” بمفرداته: “النظم الطغموية حكمتْ العراق منذ تأسيسه” و “الطائفية” و “الوطنية” راجع أحد الروابط التالية رجاءً: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=298995
بقلم: محمد ضياء عيسى العقابي