معنى الساسانية وعلاقته بالدولة الفارسية 1 ـ 2
علي الكاش
غالبا ما يتبجح الفرس بما يسمى بالإمبراطورية الساسانية مع محاولة احيائها، على أساس انها من الامبراطوريات الكبرى، وهذا خلاف للحقيقة كما بينا، فالدولة العثمانية التي توسعت اكثر من الفرس مساحة، لم تطلق على نفسها امبراطورية، انها محاولة فارسية لتضخيم الذات وتقزيم الآخرين ليس إلا. ولكن الملفت في الأمر، ان كلمة ساسانية في إهانة للفرس وليس عظمة كما يصورون، فقد ذكر الشربشي” ساسان هو رئيس الشحاذين”. (شرح مقامات الحريري للشربشي3/115). وهذا ما جاء في دائرة المعارف الانكليزية بأن كلمة ساسان تعني متسول، من الصعب فك العلاقة بين الساسانية كأسرة وبين الكدية، طالما ان الكدية تسمى بالفارسية الساسانية، من المعروف ان (ساسان بن بمهن) الذي حرمه ابوه من الملك، وطرده عاش مشردا في البراري، وفقيرا معدما ذليلا، يستجدي العطف والمساعدة، وهناك من يحاول ان يغير البوصلة معتبرا بأن ساسان هذا الذي ينتسب اليه المكدون هو ليس من الاسرة المالكة الساسانية، وزعم (محمد عبدة ) دفاعه عن الاسرة الساسانية بأن اطلاق كلمة الساسانيين على المكدين الغرض منه التشهير والإساءة الى الاسرة الساسانية، وفات عبدة ان هذه التسمية أطلقت على المكدين بعد سقوط الدولة الساسانية بزمن طويل، ولكن هذا حال محمد عبدة، وقد وجدناه في تحقيق نهج البلاغة قد تغاضى عن الكثير من الإساءات التي شملت الصحابة في خطب علي بن ابي طالب، وسوف نستعرض مخطوطة مهمة تكشف حقيقة آل ساسان، ستشكل مفاجئة لمن يتبجح بالإمبراطورية الساسانية، وهي بعنوان (المختار من كشف الاسرار). للعلامة عبد الرحمن بن عمر بن ابي بكر الدمشقي، المعروف بالجوبري المتوفي في القرن الثالث عشر. وقد قمنا بنقلها وتعديل وتصحيح الكثير من الأخطاء التي وقع بها الناسخ.
كشف أسرار بني ساسان
” اعلم إن هذه الطائفة (الساسانية) يدخل فيها جميع الطوائف، ويتعلق بها أكثر الناس، وذلك انها صناعة واسعة الدائرة، تحمل أمور شتى، وهم أصل أصحاب الدهاء والمكر والمحال، ولهم الضجة والتجاسر على كل ما يفعلونه، ولهم ألف باب من أبواب المكر، ولولا خوف الإطالة ذكرتها جميعها، بل نذكر منها مائتي يَستدل بها العاقل على الكل، فمنهم أصحاب النواميس والفقراء المدورين وأصحاب البلاء من الزط وغيرهم، وأصحاب الوحوش مثل الذباب والقرود، والذين يتعاملون مع التيوس والحمير، والذين يؤلفون بين القط والفأر، ويعملون اللحى للنساء، والذين يدعون إنهم كانوا مأسورين، والذين يدعون الخرس، والذين يدعون العمى وكل مرض، ويظهرون الاستشفاء والقروح والجراحات، ولهم أشياء كثيرة مثل ذلك، منهم أهل الحج الذين يركبون الجمل، وأما الوعاظ فأنهم أعلى مرتبة بني ساسان، ولهم الحيل والدهاء والمكر ومع ذلك فإن الإنسان إذا احتاج، احتال! وقد قال الشيخ ساسان” الحيلة عليهم، ولا الحاجة اليهم”. إلا أن بني ساسان أسرع تقدما الى هذه الأفعال، وقد ذُكر انه مكتوب على عصا ساسان” كم جَسَرَ أيسر، ومن أصاب خاب”، ومثل ذلك، وسأبين لك اختلاف أخبارهم، ما ينفي به عن غيره، وسوف أكشف لك بعض أسرارهم وأخبارهم، لتقف عليها، ولتعلم إني قد مارست تلك الأمور، وعرفت حقائق الأشياء وبواطنها.
الباب الأول كشف أسرارهم.
فأما الذين يدعون العمى، فمن ذلك انهم يعمون من غير عمى، فإذا أرادوا ذلك، يأخذون من دم القراد جزءا، ومن الصمغ العربي جزءا، ثم يكتحلون به على أطراف الأجفان، فتنطبق وتلتصق، ولا يشك من يراهم إلا إنهم عميان فعلا، فإذا أرادوا ان يفتحونها (عيونهم)، فيأخذون الصابون وينخلونه (في منخل)، ثم يلقوه في الماء، ويغلوا عليه حتى يذهب الريح (الرائحة) منه، ثم يغسلون وجوههم وأعينهم، فإنها تنفتح.
الباب الثاني كشف أسرارهم.
والذين يجعون الجذام، وقد سبق ذكره في أسرار من إدعى النبوة، فإذا أرادوا أن يظهروا إنهم جذمه، فيأخذون من ورق القلطم جزءا ومن البادروج جزءا، ومن الكبابة جزءا، ومن ورق البيروجج جزءا ومن القلفند جزءا، ثم يغلوا الجميع حتى يذهب الريح (الرائحة)، ثم إنهم يستحمون بذلك الماء، فيُخيل للآدمي إنه جذام أو برص، وليس من ذلك شيئا، وإنما هو حيل ودهاء.
الباب الثالث كشف أسرارهم.
الذين يدعون الاستسقاء والصفار (صفار الوجه والجسم) والعلل الباطنة مثل كبر البطن، فإذا أرادوا ذلك يأخذوا ماء التين، وبيظ النمل، ويفلوا الجميع حتى ينقضِ الريح (الرائحة)، ثم يشربونه، فتكبر بطونهم، وتصفر وجوههم ، حتى يخيل لمن يراهم كأن بهم علة الاستسقاء، فإذا أرادوا ان يذهبوا (يزيلوا العلة)، يشربون الهندبا مع السكر الطيرزد، فإنه يذهب فأعلم ذلك.
الباب الرابع كشف أسرارهم.
وذلك أني رأيت سنة 613 ثلاث عشر وستمائة رجل من بني ساسان، قد أخذ قرد وعلمه السلام على الناس، والصلاة والتسبيح والسواك (تنظيف الاسنان بأعواد السواك) والبكاء، ثم رأيت مع هذا القرد من النواميس ما لا يقدر عليه أحد من الناس، فإذا كان يوم الجمعة أرسل عبد هندي نظيف الملبوس (الملابس)، حسن الشمائل، فجاء للجامع الى عند المحراب، فبسط سجادة حسنى، ثم راح، فإذا كان في الساعة الرابعة أبسط القرد ملبوس خاص، ولبسة (زي) من ملابس أولاد الملوك، وجعل في وسطه حياصة (منديلا) له قيمة، ثم طَيبه بأنواع الطيب، وأركبه بغلة بركب ذهب محلى، ثم مشى بركائبه ثلاثة صبية هنود بأفخر ما يكون من الملبوس، الواحد يحمل وطأ (غطاء) المصلى، والآخر يحمل السرموجة (حذاء يصل الى الكعبين)، والآخر مطرق قدام هذا، والقرد يسلم على الناس طول الطريق، فإذا وصل باب الجامع لبسوه السرموجة، وحضروه (أعدوه)، ونزل العبيد قدامه، وهو يسلم على الناس، وكل من سأل عنه، يقول هذا ابن الملك الفلاني، من أكبر ملوك الهند، وهو مسحور ولا يزال كذلك، حتى يصل الى الموضع الذي فيه السجادة، فيفرش له العبد الوطاء فوقها، ويحط له مسبحة وسواك، فيقلع (يخلع) القرد ملبوسه، ومنديله في وسطه، ويضعه قدامه، ثم يستاك بالسواك، ويصلي ركعتين شكر الوضوء، وركعتين تحية المسجد، ثم يأخذ السبحة ويسبح، فإذا فعل ذلك، نهض العبد الكبير قائما على قدميه، فسلم على الناس وقال: يا أصحابنا من أصبح معاقا في بدنه فإن لله عليه نعمة لا تُحصى، واعلموا ان إبن آدم مُلقى للبلاء، فمن ابتلى فليصبر، ومن عفى ليشكر، واعلموا ان هذا القرد الذي ترونه بينكم والله لم يكن في زمانه أحسن من شبابه، وهو ابن الملك الفلاني، صاحب الجزيرة الفلانية، سبحان من سلبه الحسن والملك، ومع ذلك لم يكن في زمانه أرحم منه قلبا، ولا أطوع منه لله تعالى ، ولكن المؤمن مُلقى الى قضاء الله ، وكان من القضاء المقدر ان زوَجَه والده بابنه الملك الفلاني، فأقام معها مدة كذا وكذا، ثم نقلوا اليها انه عشق جارية عليها، فسألته عن ذلك فحلف لها بالله إن هذا شيء ما كان، فتركته، فتزايد عليها القول في ذلك، فلحقها من الغيرة ما يلحق أمثالها، فلم تجد عن ذلك صبرا، فطلبت منه دستورا (إذنا) تروح تزور أهلها وأمها شهرين من الزمان، فأذن لها في ذلك وجهزها كما يجب لمثلها، فلما حصلت (صارت) عند أهلها، سحرته كما ترون، فلما علم والده ذلك، قال هذا أفتضح به بين الملوك، فأمر بإخراجه من ذلك الأقليم فأخرج وقد تساءلت (أتصلت) زوجته بجميع الملوك، فادعت انها خلفت (تركت) عنده انات (جميع آنية) بقيمة مائة ألف درهم، وقد بقى عليه عشرة آلاف دينار فمن يساعده بشيء من ذلك! فأحرموا هذا الشاب الذي قد عدم الأهل والملك والوطن، وقد أخرج من صورته إلى صورة القرد هذا، والقرد قد جعل المنديل على وجهه، وجعل يبكي بدموع مثل المطر، فترق قلوب الناس لذلك وما منهم إلا من يرفده بشيء، فما يخرج من الجامع إلا بشيء كبير، وهو يدور به البلاد في هذه الصفة، فأفهم ذلك، ونبه فكرك لما يعلمه بنو ساسان من المكر في أعمالهم.
الباب الخامس كشف أسرارهم.
فمن ذلك أني كنت في قرية في بلاد الروم سنة 616 ستة عشر وستمائة فمررت في بعض الشوارع، فنظرت إنسانا وعليه خلق وهو ملقى على جنبه وهو معصب بسرموط (قطعة من الجلد) وهو يئن أنين الضعيف ويقول شهوتي رمانة، فنظرت اليه وقلت: بود الله وعزة العزيز من بني ساسان، ولابد أن أنظر الى أين يبقى وماله، فجلست قريبا منه، بحيث أراه ولا يراني، وجعلت الدراهم والفلوس تنهال عليه، ولا يزال كذلك الى وقت القايلة (منتصف الظهر)، وانقطعت الرجل (الناس) من الرائح والجاي (انقطعت الناس ذهابا ومجيئا)، فلما رأى ذلك التفت يمينا وشمالا فلم يرى أحدا، فوثب مثل البعير التي تشط من عقاله، وجعل يخترق الأزقة وأنا خلفه الى أن انتهى الى دار حسنة البنيان عالية الأركان، فطرق الباب، ففُتح لهم، فهم أن يدخل، فسبقت اليه، فقلت له: السلام عليكم. فقال: وعليكم السلام. فقلت: أتقبل ضيفا؟ فقال: نعم ومرحبا بمن أتى! ثم أخذ بيدي وقال: على خير. فتقدم ودخلنا الى دار حسنة، فنظرت فيها فرشا وبسطا لا تصلح إلا لبعض السعداء (الأغنياء)، فقال لي: اصعد! فصعدت على طراحة حسنة، وأما صاحبي فرمى من رقبته ساق (كيسا) فيه أكثر من عشرة أرطال خبز، وفيه فلوس، وخير كثيرة، ثم شد في وسطه بوشية (جربة) تساوي دينارين، وخلع تلك الخرق، وقدمت له الجارية السخانة ملآنة (إناء للغسل، فتغسل) وطاسة وإبريق، ورأيت له شعرا زائدا على الوصف، ثم لبس قميصا رقيقا وسراويل وقباء (ثوب يلبس فوق الثياب ويتمنطق به) وشاش، ثم رشٌ عليه ماء ورد، وطلع وجلس الى جنبي، وقال: يا فلانة هاتي ما عندك ولا تتكلفي للضيف، بل على حسب العادة. فأحضرت مائدة عليها أربع زباد، كل زبدية لون من الطعام الخاص، وخبز وخبز السميد من أطيب ما يكون، ثم أحضرت سكردان عليه من كل حامض وحلو ومالح وحريق (حار) وغير ذلك فأكلنا وقال أعذرنا، فأنك جئتنا على غفلة، ولكن الكريم مسامح، فأكلنا حسب الكفاية، فرفعت المائدة، وغسلنا أيدينا، ثم أتانا بطبق فيه من جميع أنواع الحلو، ثم تَحلينا وشرعنا في الحديث وأنا متعجب منه، فقلت له: لو فتحت لك دكانا، الدكان أجود لك من هذه الحرفة. فقال: إذا كان تاجر أسفار، أم صاحب دكان، فكم يقع كسبه في اليوم، إذا كان رأس ماله خمسة ألف دينار؟ فقلت: دينارا ونصف دينار. فقال: أنا يقع ليٌ كل يوم خمسة وعشرة وأكثر ما يتبين، أأعمل أنا بالدكان؟ مع أن التاجر لا يخلو من الخسارة في بعض الأوقات، ويكون عليه كلفة، وأنا أربح بلا خسارة، فقلت له: هذا الخبز الذي يتحصل اليك ما أراك تأكل منه، فأي شيء تصنع به؟ قال: نجمعه ونيبسه، فإذا جاءت المراكب نبيعها فيتحصل من كل سنة ما يكفي البيت كسوة. فتعجبت من ذلكّ ثم قال: تقول في هذا؟ فقلت: نعم! فقال: يا فلانة احضري لنا شيئا نشتغل به، فأحضرت آنية شراب تصلح للسعداء من الناس، فشربنا ساعة، ثم قال: يا فلانة أتركي فلانة تنزل، تطيب عيشنا! فنزلت جارية أحسن ما تكون من النساء ومعها عود فلعبت ساعة لعبا طيبا، ثم تركت العود وأخذت الجنك (أداة موسيقية تسمى الطنبور) ولعبت نوبة (فترة)، ولم تزل تبدل الملاهي (ادوات الغناء)، حتى انقضى المجلس، فلما أردنا النوم، قال: أفرشي لسيدك في المخدع، وأغلقي عليه. ففشرت ليٌ فرشة حسنة، وأوقدت بقنديل، ثم أتتني بالطست و(المستية) فاغتسلت ونمت، فلم أزل نائما الى الباكر فانتبهت، فإذا به قد دخل عليٌ وقال: الضيافة ثلاثة أيام فلا تبرح من مكانك حتى أعود اليك، ثم قال للجارية: هاتِ العدة! وأتته بذلك الخلق الشلاق (مخلاة للفقراء والسؤال) والعَصابة، فلبس وعَصَبَ رأسه (شد العصبة)، وخبأ شعره، ثم أتته بمخلاة فيها شيء من تراب مطحون، فجعلت تنفضه عليه، ثم ودعني وخرج، ولن تزل الجارية تتفقدني بالطيب والطيبات الى الظهر، وإذا به قد جاء، وفعل كما فعل بالأمس، وأقمنا على ذلك الى يوم الجمعة، فقال للجارية: خذي سيدك الى الحمام واتركي فلان يخدمه، وقال لي: أريد منك اليوم ألا تصلِ إلا عند المحراب، فإن لي في ذلك غرض، ثم تعود هاهنا بعد الصلاة، ثم لبس عدته وخرج، فقامت الجارية وأخذت معه البساط، ثم عبت حوائج الحمام، فوجدت البساط وفوطة حرير وبوشية وبقجة، فخلعت قماشي (لباسي) ودخلت والغلام قدامي الى المقصورة، فخدمني خدمة حسنة، ثم خرجت فجاءني بمنشفة رومية مخملة ومبخرة ومعطرة ثم خرج خلفي بالطاسة، فصعدت على البساط، وجاءتني الجارية بقدح شراب فشربت، ورجعت الى الدار ، فدخلت والجارية قدامي، فجلست وقدمت لي أشياء للأكل، فأكلت ثم دفعت ليٌ سجادة وقالت: بسم الله الى الجامع! فخرجت وجئت الى الجامع، فبسطت تحت المنبر، كما رسم صاحبي، فلما صعد الخطيب، فلم أشعر إلا وصاحبي قد خرق الصفوف، وهو بذلك الخلق، ثم صعد على المنبر الى عند الخطيب، وأخرج من عبه كيسا احمرا اطلسا (نسيج من حرير)، وقال للخطيب: يا سيدنا أنا رجل فقير ولي عائلة، والله ان لنا اليوم واليومين لم تستطعم بطعام، وقد مضنا (أرهقنا) الفقر، فلما كان اليوم، قالوا العائلة اليوم يوم الجمعة، فقم الى الجامع، لعل الله يفتح عليك بشيء تتقوت به، فقد هلكنا من الجوع، فخرجت طالبا الجامع، فأنا في الزقاق الفلاني، وانا لا أقشع شيئا من الجوع، فعثرت بهذا الكيس، ولا أعلم ما فيه، فسولت نفسيان آخذه، وأرجع الى البيت، ثم قلت يا نفس ملعونة تريدين ان تحرميني (من رحمة) الله تعالى، وآكل الحرام، والله لا أطاوعنك ابدا على ذلك لو تفنيني جوعا، فما عند الله خيرا وأبقى ، وقد حملته اليك تفعل به ما تريد وتحب، ثم ناوله الكيس، فلما رآه الخطيب فتحه فإذا به حلي تساوي جملة، فتعجب الخطيب من أمانة هذا الرجل مع ما هو فيه من الفقر والقلة، ثم أشار الى الناس وقال: أيها الناس إذا كان هذا الرجل وهذه أمانته وعفته على ما هو فيه من الفقر والحاجة، أيكون أحد أعف من هذا؟ فإذا كان مكتفِ غير محتاج كيف تكون أمانته ودينه؟ ومثل هذا لا يصلح أن يكون فقيرا بين ظهور المسلمين، والواجب على كل مسلم إعانته وأن يبره بشيء، وأن يغني فقره، وأريد أن تعينوه كل منكم على قدر حاله وبما يمكنه.
فجعلت الدراهم والدنانير تنهال عليه الى أن قدرت مقدار ما حصل عليه بالتقريب يكون مائتي دينارا، هذا وأنا ألومه وأقول قد حصل له شيئا يساوي ألف دينارا باعه بهذا المبلغ، وما صدقت متى تنقضي الصلاة ونحن في السنة والصحبة قد أخذتنا من كل جانب من صحن الجامع، واذا بامرأة عجوز وهي تصيح وتقول يا مسلمين والله ما أملك قوتي هذا اليوم، وقد كان معي حلى حملته من ناس الى ناس، فوقع مني، والخلق يقولون لا بئس عليك قد وصل عند خطيب الجامع، وهو عنده. ولم تزل تخرق الخلق الى وصلت عند خطيب الجامع، فخرت مغشية عليها ساعة ثم أفاقت، فقالت يا مولاي العفو، ارحمني، يرحمك الله تعالى، وردٌ لهفتي لله تعالى! فقال الخطيب: على مهلك ما الذي عدم عندك (ضاع منك)؟ فقالت: كيس أحمر أطلس صفته كذا وكذا، شراريبه (قماشه) كذا وكذا، وفيه من الحلي كذا وكذا، منها اسورة كذا، وخواتم كذا، وحلي كذا وعقد صفاه كذا وكذا، ولم تزل تعد له قطعة بحضور جماعة من العدول وكلما وصفت عقدا أخرجه الخطيب من الكيس الى أن عبت الجميع وصح ما قالت، فسلم اليها الكيس بما فيه، فأخذته ومضت، والخلق يدعوا لصاحبي، ويتعجبوا من حسن دينه وأمانته، ثم انصرفت وجئت الى الدار كما أوصاني، فوجدته قاعدا يزن ما تحصل له في ذلك اليوم، فإذا به القدر الذي أنا قد حزرته، فلما دخلت جلست، فقال لي: أرأيت اليوم؟ فقلت: أنا لائمك على ذلك. فقال: ولم؟ فقلت: قد وقع لم شيء يساوي ألف دينار وتبيعه بهذا القدر؟ فقال لي: أتعرف المرأة والكيس الذي أخذته؟ فقلت: إذا أبصرته عرفته. فقال: خلوا العجوز تأخذ الكيس وتنزل. فنزلت والكيس في يدها. فقال: هذا الكيس، وهذه هي العجوز، وهي حماتي، والكيس لابنتها، وأنا سيرتها بهذه الحيلة، فلو أقمت طول النهار أطلب ما يتحصل لي مقدار ذلك. فلما وعيت ذلك، تعجبت منه ثم انصرفت من عنده، فأفِهم ذلك؟
الباب السادس كشف أسرارهم.
ومن ذلك انه كان لي صاحب من أهل دمشق يُعرف بالجمال (محمد بن غنم) فغاب عني مدة ولا أعلم ما كان منه، فلما دخلت بلاد الروم اجتمعت به على باب (الموتى)، وهو راكب على بغلته، وعليه ثياب برد حرير (كساء صوفي يلتحف به)، وعلى رأسه عمامة، وعلى أكتافه برد جديدة، وحوله نفر من أهل الحجاز وهم بذلك الزي، فلما رآني عرفني ولم أعرفه، فسلم عليٌ وقال: ألا تعرفني؟ فقلت: ولا أنكرك. فقال: أنا صاحبك (محمد بن غنم)، فعند لك عرفته، فأخذني الى منزله، فأضافني وقال: توافقي فيما أعمل. فقلت: وما الذي تعمل وما بهذا الدست (اللباس) الذي أنت فيه؟ فأحضر صندوقا من خشب الأبنوس، وعليه شيء كبير من الستور(الستائر) التي تكون على الكعبة، وعليه شقة أطلس (شق في وسطه)، وعليه قفل من ذهب، وسواقطه (أطرافه وجوانبه) من فضة، وكذلك مساميره، وقد أخذوا نعلا وهو على صورة نعل رسول الله (ص)، وشراكة (حبائل) من الخوض، وقد سكمره (ثبته) في أرض الصندوق بمسامير من الذهب والفضة، وجعل فيه من أنواع الطيب، وقد زعم ان هذا قدم النبي (ص)، وهو دائر به في بلد الروم، وهو على فرس والصندوق على رؤوس اولئك العبيد، وقد ادعوا انهم من بني شيبة (سدنة الكعبة)، وقد حصل به جملة، فاذا نزل بقوم سنية (من أهل السنة) إدعى انه عدوي (قبيلة عدي من قريش منهم امير المؤمنين عمر بن الخطاب)، واذا نزل بقوم إمامية إدعى انه علوي، وهو على ذلك الحال، فسألني أن أصحبه، فأبيت من ذلك، ثم انصرفت من عنده طالب شيراس (شيراز).
يتبع الجزء الثاني والأخير
علي الكاش