بقلم: نبيل عودة
الفلسفة التجريبية – أمبيريتسيا من اليونانية (empeirikos هي مدرسة فلسفية – تيار فلسفي يؤمن أن كامل المعرفة الإنسانية تأتي بشكل رئيسي عن طريق الحواس والخبرة. تنكر التجريبية وجود أية أفكار فطرية عند الإنسان أو أي معرفة سابقة للخبرة العملية. من ابرز فلاسفته ديفيد هيوم الأسكتلندي (1711 – 1776) كان أول فيلسوف كبير في العصر الحديث يطرح فلسفة طبيعية شاملة تألفت جزئيا من رفض الفكرة السائدة تاريخيا بأن العقول البشرية نسخ مصغرة عن “العقل الإلهي”. وجورج براكلي الإيرلندي (1685 – 1753) كان يدعي انه لا يوجد شيء اسمه مادة على الإطلاق وما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو ان يكون مجرد فكرة في العقل بفعل الإدراك.. وبغياب الإدراك تغيب المادة، وجون لوك البريطاني (1632 – 1704) يعتبر جون لوك أهم فيلسوف انجليزي تنويري في العصور الحديثة وتفتخر به انجلترا مثلما تفتخر بإسحاق نيوتن الذي اكتشف قانون الجاذبية الكونية وغيرهم.
اعتبر هذا التيار في القرن العشرين بأنه تيار منطقي، لكنه لا يختلف كثيرا عن تيار الفلسفة الوضعية، وهو تيار في فلسفة العلوم واللسانيات ظهر في النمسا في بداية القرن العشرين ادعى فلاسفة هذا التيار (الوضعي)ان أكثرية الفلسفات التي ظهرت قبل فلسفتهم هي خاطئة في جوهرها، بل وعديمة الأهمية لأنها لم تعتمد على المعرفة التي تصل للإنسان عبر الحواس والمعرفة التجريبية وان واجبهم بناء فلسفة جديدة.
تعتبر الفلسفة التجريبية جزءا هاما من الأبستمولوجيا التي هي فرع لتيار فلسفي يبحث بمضمون ومجال المعرفة. مثلا ما هي المعرفة؟ كيف نحصل عليها؟ قيمتها لفهم موضوع معين؟ كذلك تشمل الأبستمولوجيا تحليل طبيعة المعرفة والعلاقة بين مفهومي الحقيقة والمعرفة.
الفلسفة التجريبية مناقضة تماما للفلسفة العقلانية (راتسيونال) وتعني قدرة التي الشخص ان يتخذ قراراته على أساس عقلاني. تعتبر الفلسفة العقلانية المفتاح لفهم الحركات الثقافية في أوروبا في عصر النهضة، كانت تعبيرا عن الوعي بأن العالم يعمل بطريقة منطقية أو عقلانية بناء على القوانين الطبيعية التي يمكن للإنسان اكتشافها وفهمها وأيضا على دراسة الطبيعية للمجتمع الإنساني وطبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الأفراد من ناحية وبين الأفراد والحكومات من ناحية أخرى .
اختلف الفلاسفة الطبيعيون في تحليل الطبيعة البشرية. بعضهم وصفوها بمثالية بأنها تمثل الجمال والتسامي الأخلاقي وآخرون وصفوها بالقبح والسوء.
كان ظهور الفلسفة التجريبية (يمكن تسميتها فلسفة الإحساس أيضا) كرد فعل على الفلسفة العقلانية. طبعا التسميات لا تعني شيئا وقد تضلل القارئ بفهم خاطئ لجوهر الفلسفة.
حسب الفلسفة التجريبية مصدر كل المعارف هي التجربة… كل ما نعرفه مصدرة التجربة فقط، والتجربة كما يطرحوها تشمل ليس فقط ما تلتقطه الأحاسيس، إنما أيضا التجارب الذاتية مثل المشاعر والتخيلات.
الفلسفتان التجريبية والعقلانية كانتا محاولتان لبناء المعرفة الإنسانية من الصفر. هذا النهج الراديكالي ميز فلسفة فترة التنوير الأوروبية(الرينيسانس)، التي بتأثير الثورة العلمية المعرفية التي أطلقها العالم نيقولاوس كوبرنيكس باكتشافه ان الشمس هي مركز الكون وليس الأرض،وان الأرض تدور حول الشمس وحول محورها، فأعدمته الكنيسة الكاثوليكية ، لكن انجازه العبقري ونشر كتابه “حركة الأجرام السماوية”(1543) شكل ثورة أسقطت الكثير من الفلسفات السابقة.
ثورة كوبرنيكس شكلت جزءا هاما في أساس الثورة العلمية وفي مجالات ثقافية عديدة وكانت، إلى جانب عوامل أخرى، سببا لتهميش قوة الكنيسة .
لا بد من سؤال: هل يمكن الاعتماد على الأحاسيس في الوصول إلى المعرفة الصحيحة؟
هل اكتشاف كوبرنيكيس كان بسبب أحاسيسه أم نتيجة بحث وتحليل علمي مبني على معطيات علمية ومراقبة حركة الأجرام السماوية؟
حول هذه الفلسفة، وطرح الإحساس كعامل جوهري للمعرفة لدي قصة مناسبة.
**********
الزوجة الصماء- قصة تعبيرية لنبيل عودة
حيرتني زوجتي .. سمعها بات ثقيلا .. لم تعد تفهمني وتثرثر كلمات لا معنى لها.
أقول لها ان كلامك غير معقول .. ما تقولينه ليس صحيحا. لكنها تعيد نفس الجمل بصوت مرتفع ظنا منها أن رفع صوتها سيجعلني أقتنع أخيرا بما تقوله. للأسف عصبيتها تزداد حتى بات الحديث معها مستحيلا.
راقبتها أثناء عملها المنزلي. بالتأكيد لديها مشكلة عويصة.. أتحدث إليها ولا تسمعني، هل يكون السبب مشكلة في سمعها أم ترفض الحديث معي ؟
قلت لها إننا يجب ان نذهب إلى طبيب مختص لفحص سمعها. غضبت مني وثرثرت كلاما لا رابط بين جمله. فهمت منه ومن إشاراتها انها تتهمني بأني أريد أن أجعلها مريضة بالقوة بينما إنا المريض في رأسي .. وقد عافت نفسها من تصرفاتي.
سامحها الله . صرت أقل من الكلام معها حتى لا أربكها.. لكنها كلما مرت بقربي تثرثر بدون صوت، أنظر إليها وأقول: ” سامحك الله ” وهذا يغضبها لسبب لا أدريه ومرة لم أعد أصبر، قلت:
– إذا كان لديك شيء ضدي قوليه لأسمعه.
فانفجرت بالضحك .
– لم أقل شيئا مضحكا ؟
– ….
– قولي بصوت مرتفع وواضح لأسمعك جيدا.
– ….
فأعطتني ظهرها مفضلة الصمت.
شاورت أولادي حول حالة أمهم.. فضحكوا بشدة . سألت : ” ما الداعي للضحك ؟” ابني الصغير كان أوقحهم، قال بصوت قوي جدا مقربا فمه منأذني:
– المشكلة لديك يا أبي .
– كدت تطرشني، لا تفعل هذا مرة أخرى .
قال الابن البكر :
– احجز لأمك هي التي لا تسمع.
– حسنا .. أمي ترفض .. سنشاور الطبيب عن طريقة لعلاجها، أنت ستشرح له المشكلة.
– فكرة جيدة
في اليوم الموعود جاء ابني لمرافقتي، عبثا حاولت إقناع زوجتي لمرافقتنا، ألححت عليها، فصرخت بأذني:
– الله يساعدني عليك.
– أنت حرة .. نريد ان نساعدك ولا تريدين ان تساعدي نفسك.
خرجت من المنزل مع ابني البكر الذي لم يتوقف عن الضحك، ربما بسبب عناد أمه ورفضها العلاج.
استقبلنا الطبيب مبتسما، شرح له ابني مشكلة أمه ولكنه قرر فحصي.
لا أعرف كيف سيساعد فحص الزوج في علاج الزوجة؟
أدخلني غرفة زجاج مغلقة، بعد ان أفهمني ابني بأن أرفع أصبعي كلما سمعت صوتا وهذا ما فعلته .
عندما انتهى فحصي سألت الطبيب:
– كيف سيساعد هذا الفحص زوجتي ؟
ضحك وقال بصوت واضح:
– سيساعدنا على تحديد المشكلة .. ولكن أنت أيضا لديك مشكلة في السمع .
– ربما.. ولكن المشكلة الصعبة لدى زوجتي.. نادرا ما تسمعني !!
نظر الطبيب مبتسما إلى ابني وشاوره قليلا، ثم قال لي بصوت واضح :
– أنت ستساعدنا على علاج زوجتك، بما أنها ترفض المجيء للفحص، سنوكلك بإجراء فحص لها.
– حسنا … كيف أفعل ذلك ؟
– عندما تكون منشغلة قف خلفها على بعد ستة أمتار واسألها:” ماذا تفعلين ؟”، ثم اقترب لمسافة أربعة أمتار واسأل نفس السؤال بنفس قوة الصوت.. وإذا لم تسمعك اقترب لمسافة متر واسألها نفس السؤال وانتبه لا تغير قوة صوتك في الثلاث مرات .. ولنرَ النتيجة ..
– فكرة جيدة..
في اليوم التالي كانت تحضر صينية بطاطا بالدجاج ومشغولة بإعداد الفطائر لأن أحفادنا سيحضرون للغداء عندنا.
وقفت على بعد ستة أمتار وسألتها:
– ماذا تفعلين ؟
لم تسمعني. اقتربت لمسافة أربعة أمتار وسألتها:
– ماذا تفعلين ؟
لم تسمعني. اقتربت لمسافة متر وراء ظهرها وسألتها:
– ماذا تفعلين ؟
التفتت إلي غاضبة جدا يكاد الشرر يطير من عينيها وصرخت بوجهي بقوة:
– للمرة الثالثة أقول لك صينية بطاطا بالدجاج .
انسحبت بهدوء.. غدا سأخبر الطبيب بنتيجة الفحص !!
*ــ فصل من كتاب “ماركس يتبرأ من الماركسيين” (جولة في المفاهيم الفلسفية وقصص تعبيرية ساخرة)
nabiloudeh@gmail.com