بقلم: نبيل عودة
*لم تنشأ الفلسفة لتضحك الناس، بل نشأت لتنشط العقل ، تعمق الوعي، تزيد المعارف توسع الإدراك*
نبيل عودة
تقوم نظرية الثورة الماركسية على مبدأ يقول ان “على الثورة ان تستمر حتى القضاء على الطبقات المالكة بشكل عام” فيما بعد طور ماركس نظريته بقوله أن “الكلام لا يدور حول تغيير الملكية الخاصة او القضاء على قسم من قوانين البرجوازية، بل إنشاء “المجتمع الجديد” طبعا هذا التعريف عقلاني. رغم ذلك عانت الماركسية من عدم وضوح وقصور فكري لقادة “المجتمع الجديد” (الاتحاد السوفييتي) ينبع أساسا من عدم تطوير الماركسية لمفهوم الدولة الاشتراكية، الدولة التي ستبني المجتمع الجديد. وظلت الدولة الرأسمالية هي الجهاز الذي كلف ببناء النظام الاشتراكي الجديد.. كل ما جرى ان السيد تغير ولم يتغير نهج الدولة او النظام. الدولة البرجوازية واصلت تطورها في الغرب، النظام الديمقراطي البرجوازي حقق انجازات هامة جدا،في مجال حقوق الإنسان والمواطن، لكن الدولة الاشتراكية لم تكن إلا أداة قمع، فكريا ضد البرجوازية، المحلية والعالمية وعمليا ضد المواطنين لدرجة ان الشك أصبح قانونا سائدا قد يقود الى القتل بدون محاكمة او التحقيق باستعمال وسائل تعذيب قاتلة، ليعترف المواطن بما يطلب منه، لا أبرياء إطلاقا.. يعقب ذلك، لمن يبقى حيا، النفي إلى مناطق بعيدة للعمل بنظام أشبه بنظام العبيد، او النفي إلى سيبيريا لفترات طويلة قد تصل إلى 25 سنة لمجرد الشك، حيث معسكرات الغولاغ للعمل ألقسري.
قرار ما يسمى أمن الدولة في النظام الستاليني مقدس وساري المفعول وقرارات المحاكم مجرد توقيع على الحكم الصادر من أمن الدولة.. . وإمكانية ان يصمد الإنسان لفترة طويلة مستحيلة إذ ان أنواع العمل هناك هي قتل بطيء للمنفي. كذلك طورت الدولة وأجهزتها وحزبها القائد عقلية الاستبداد وقمع حرية الرأي او التعددية الفكرية.أحيانا لا يصل المنفي للغولاغ لأنه يموت في عربة القطار التي يحشر في داخل كل عربة مئات المنفيين، رجال ونساء سوية،تستغرق الرحلة حتى يصل القطار الى الغولاغ تستغرق أيام كثيرة جدا ، القطار بطيء والمسافة آلاف الكيلومترات.، تقدم وجبة أكل حقيرة كل يوم وماء مرة كل 24 ساعة، وقضاء الحاجة بحفرة مكشوفة داخل العربة . اقرؤوا الرواية التاريخية الوثائقية “ولد 44″،للكاتب البريطاني طوم سميث. التي اعتمد فيها على تسجيلات لرجل أمن سوفييتي، أو روايات ومسرحيات الأديب الروسي (السوفييتي) الكسندر سولجنيتسين عن منافي سيبيريا (الغولاغ) خاصةً روايتيه “أرخبيل غولاغ” و “يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش”.. واليوم هناك فيض من كتب التأريخ والأعمال الأدبية والوثائقية التي تصف ما يمكن اعتباره جرائم قتل بشعة، تحسنت الصورة بعد وفاة ستالين وانتخاب خروتشوف لقيادة الحزب والدولة السوفييتية.. وهناك مصادر كثيرة أخرى صدمتني، لشدة تناقضها مع الفكر الإنساني وفكر العدالة الاجتماعية والتحرر من الاستبداد والاضطهاد الذي طرحته الماركسية.. لكنه استبدل بفكر ستاليني قراقوشي، قاد إلى تصفية ملايين كثيرة من المواطنين السوفييت لمجرد الشك .. وما زال البعض أسيرا للستالينية !!
يمكن تلخيص مفهوم الثورة الماركسي بطريقة بسيطة وسطحية جدا، وسطحيتها من التراث الماركسي نفسه، حيث طرحت الماركسية رؤيتها التي تحدد الثورات بنوعين، او شكلين لحربين أهليتين- اجتماعيتين، الأولى العمال ضد الرأسماليين، والثانية الفلاحين ضد الإقطاعيين!!
هذه النظرية ظلت حبرا على ورق لأن تطور النظام الرأسمالي تجاوزهما بمراحل شاسعة جدا في الاقتصاد ، الرفاهية والخدمات الاجتماعية. بل وتجاوزت الرأسمالية النظام الاشتراكي في تكديس رؤوس الأموال والثروات الهائلة بكل أنواعها.. وأيضا في رفع مستوى الحياة للمواطنين، تعميق الخدمات الاجتماعية والصحية، ضمان الحريات الشخصية وهو ما لم يتحقق في النظام الاشتراكي ، بل بني نظام إرهابي سفاح لا يخجل أي نظام ديكتاتوري استبدادي من أكثرها سوادا في تاريخ البشرية !!
أمام سقوط هذه النظريات الواضح حتى في بداية القرن العشرين، ظهرت نظرية لينين الذي اعتقد انه يجب الانتظار خمسون عاما عل الأقل حتى تصبح البروليتاريا أكثرية.. فكرة انطلقت من فهم نظري خاطئ بأن النظام البرجوازي يقف مكانه ولا يتحرك. لكن التطور نفى البروليتاريا كليا من الصورة الاجتماعية في أوروبا (ولم تنشا بروليتاريا خارج أوروبا، لأنها أصلا ظاهرة أوروبية) إلا إذا اعتبرنا الأطباء والمهندسين ورجال الهايتك والمحامين ومدراء الشركات والبنوك وأصحاب المتاجر والحرفيين بروليتاريين!!.
كل هذه النظريات ظلت حبرا على ورق، بعيدة عن واقع التطور الاجتماعي والفكري ، حتى شهدنا سقوط النظام الاشتراكي بدل ان يحقق انتصاره التاريخي حسب نظريات ماركس ولينين. لكن الاستبداد الرهيب الذي واجهه المواطنين في النظام الاشتراكي هو شبيه بحالة الزوج في هذه القصة:
النظام والشعب ..
عبد الباري تجاوز التسعين عاماً، وأضحت سيرته نموذجاً للبيت السعيد. تزوج في العشرين من عمره، وها قد مضى على زواجه سبعة عقود كاملة، دون أن يسمع إنسٌ أو جنٌّ عن مشكلة بينه وبين زوجته حتى اشتهرت زوجته بالبلد والبلدات المجاورة بصفة “الزوجة الفاضلة الصموتة”، التي يضرب بها المثل وتقدم سيرتها وسيرة زوجها كنموذج للبيت السعيد للذين مقدمين على الزواج، وللأزواج المليئة حياتهم بالخلافات والمشاكل كي يحتذوا بهما، يجري التشديد خاصة على الزوجات اللواتي يُتهمن دائما بتسبيب المشاكل، من طول لسانهن أو قلة إيمانهن كما يقول شيخ البلد الجليل، حتى بدون سماع رواياتهن.
البعض يقول إن “المرأة يزداد وزنها عشرة كيلوغرامات كاملة بعد كل طوشة”، القانون غير المكتوب في بلدنا أن الزوج دائما هو العاقل وهو صاحب القول الفصل وكأنه رئيس جمهورية عربية.. رواية الزوج مقررة في بلدنا، حتى لو كان مخبولاً ولا يعرف تركيب جملتين مفيدتين. ها هي زوجة عبد الباري نموذجاً لكن يا نساء البلد، عرفت قدرها ولم تتجاوز حدودها… فاحترمها زوجها وأجلها وكأنها كنز ذهب وجواهر!!
يقول الشيخ في كل محضر: “زوجة عبد الباري تعرف واجب بيتها واحتياجات زوجها، لا تكثر من الكلام والمماحكة والنق على رأس زلمتها، لا يهمها إلا سعادة بعلها وبيتها وهذا هو نموذج المرأة الصالحة كاملة العقل والدين”.
لم تكن تعرف البلد الشيء الكثير عن عبد الباري وزوجته، نصف ما يقال عنهما لا طريقة لإثباته، لكنه حقا لا يستحق الإثبات لأنه خلو من أشياء مثيرة تشد السامعين. مثلا كلُ ما يعرف عن تلك الزوجة الصالحة ان من عادتها إذا تجادلت مع شخص ويغضبها أن تقول بكل هدوء:
– أقول لك للمرة الأولى… كذا وكيت.
وعدا ذلك لا يعرف عنها سلاطة اللسان أو المشاكسة أو الصراخ أو التدخل بشؤون نساء البلد ومشاكل بيوتها.
حقا كانت تلك جملتها المشهورة، التي قليلا ما تسمع، بسبب حياة العزلة التي تعيشها هي وزوجها بوفاق وحب لا يتعثر، لكن المعلومات القليلة الواردة من عزلة هذا البيت السعيد، تقول أن لفظها لتلك الجملة يجعل زوجها عبد الباري يقفز فوراً بتوتّر ظاهر، كأن لغماً انفجر به، مسارعاً ليسد الطريق على أي خلاف، بين زوجته ومن أسمعته تلك الجملة، مؤكداً أن زوجته على حق كامل، لا تتصرف إلا بالحق وأن زوجته امرأة ولا كل النساء وأن قلبه يؤلمه إذا اضطرت لإعادة جملتها المشهورة بصيغة:
“أقول لكم للمرة الثانية” مثلا، فهي زوجة لا تعرف اللفّ والدوران، استقامتها، كما يقول عبد الباري تفوق الوصف، والذي لا يرضى بكلامه الله وعلي معه.. ليبتعد عن بيتنا”.
ترى أي نوع من النساء هي؟ وهل حقا خلق الله امرأة كاملة العقل والدين كما يقول عبد الباري، مستغلاً كلام الشيخ في الإشادة بزوجته؟ لماذا لم يخلق الله غيرها بهذه الصفات التي تشبه الحلم لكل رجل؟
عبد الباري من شدة حبه لزوجته وغيرته على صوتها، لا يريد أن يسمع أصدق النساء تعيد جملتها مرة ثانية، يقول لمن حوله “الويل لنا من المرة الثانية، هذه الزوجة يجب أن تكون كلمتها نافذة من أول مرة”.. كان يشدد عبد الباري على قوله بطريقة تبدو غريبة بعض الشيء، خاصة حين تكون زوجته على خطأ مبين لا تبرير منطقي له… لكنه لا يتردد بقطع العلاقة مع أقرب الناس صوناً لكرامة زوجنه وكلمتها حتى لو كانت على خطأ، لدرجة أن البعض سخر من “الحب الذي يجعل الرجل مركوباً من زوجته مثل الحمار”.. ولكن تأنيب الشيخ للمتطاولين، أخرس الألسن.
عبد الباري وزوجته يسكنان على أطراف البلد، فوق تله تشرف على بضع قراريط من الأرض، يشتغل عبد الباري من الفجر حتى غياب الشمس في رعاية شؤون مزرعته الصغيرة.. يحرثها يزرعها ويربي فيها الدجاج وبعض الخراف البلدية، ورأسين بقر… يكاد لا يخرج من مملكته، إلا للسوق أيام الاثنين ليبيع بعض ما رزقه الله به ويشتري ما يلزم بيته، لم تكن زوجته ترافقه، بل تكاد لا تغادر البيت والأرض، فيما عدا ذلك يبقى ملتصقاً بزوجته وأولاده، لا ينتفض مذهولا بشكل غريب إلا إذا قالت زوجته الفاضلة لأحد زوار المزرعة الصغيرة، أو حتى لقريب يزورهما واختلفا على موضوع، أو لابن عصى أمرها..
– أقول لك للمرة الأولى..
هذا الأمر لاحظه كل من كان بصلة قرابة أو بهدف تجاري مع عبد الباري وزوجته، لكن أقاويل غير مؤكدة تشكك أن في الأمر سراً لا تفسير له، شيخ البلد يقول “اتركوا الناس في همومهم، هذا بيت صالح، لا تتحرّشوا في أسرار البيوت ولا تفسدوا ما بين الصالحين”. لكن البلد، المليئة بالمشاكل بين المتزوجين والأقارب والأصحاب، حيرها أمر عظيم: كيف يمكن لزوجين مضى على زواجهما ما يزيد عن نصف لقرن، لم يسمع أحد عن خلاف أو مشكلة بينهما؟؟ هل هم ملائكة؟؟
لم يتجرأ أحد أن يفاتح عبد الباري بالموضوع ، الذي كان ينتفض غضباً للتدخل في شؤونه الخاصة، ويسارع بالابتعاد عن السائل والسائلين وكأنهم مصابون بالطاعون القاتل.
الحق يقال إن سيرته حسنة، يبتعد عن المشاكل ويعيش بشبه انعزال منذ تزوج.
لكن المقدر قد وقع، انتقلت الزوجة إلى رحمة ربها نظيفة من كل ذنب، رغم أنها كانت تبدو بنت معيشة وزوجها الذي يدبّ على عصاتين قريب من حافة قبره: “إن لله في قراراته شؤون لا تخصّ العباد” صدر حكم الشيخ لمنع التساؤلات.
في أيام العزاء لاحظت البلد أن عبد الباري العجوز الذي قارب التسعين استعاد صحته، ظهرت الحيوية على وجهه، بل صار يضحك ويغمز على زوجته، يتحدث بطريقة لم يعهدوها به، فهل هي صدمة الفراق أفقدته عقله أم الشيخوخة هبّت رياحها دفعة واحدة فأفقدته وعيه؟ بل ويتندر أهل البلد انه صار يلبي دعوات الزيارة ويدعو الناس لزيارته، لا يبخل بمدّ الموائد التي لم يشاهدها أحد سابقاً أيام زوجته، يبدو أن أولاده أيضا أكثر حرية وسعادة، أمر غريب يلفت الانتباه. أين اختفى الحزن على فراق أفضل الزوجات وأكثرهن إخلاصاً لزوجها وبيتها؟
في فجر أحد الأيام أنتشر خبر يقول أن عبد الباري أصيب بتوعك صحي صعب ويبدو أنه يودع هذه الحياة. سارع الشيخ لزيارته وفي ذهنه أن يفهم سر هذا التغيير، كيف صمد على وفاق مع أم الأولاد ستة عقود كاملة، حتى صار يضرب ببيته المثل عن البيت السعيد والزوجين النموذجيين اللذان لم يخلف بينهما شيء على الإطلاق.
كان عبد الباري يتنفس بصعوبة، أولاده وأحفاده حوله، بعد أن ألقى الشيخ التحية وقرأ الفاتحة فوق رأسه وتمنى له حسن الختام، سأله:
– البلد كلها تريد أن تعرف كيف يمكن بناء علاقات زوجية لفترة ستة عقود بدون خلاف بل بوفاق كامل لا نعرف له حالة في عالمنا؟! أعطنا ما نصلح به بيوت العباد المتنازعين والمتقاتلين حتى على كلمة.
بعد أن تنهد عبد الباري بعمق، محاولاً أن يأخذ نفساً طويلاً يعينه على حديثه، إلا أنه ظل يلهث، ومن بين لهثه وأخرى وبتقطع في السرد، شرح سر هذا البيت الذي يضرب المثل بسعادته ووفاقه، قال:
– يا شيخنا الجليل المسألة بسيطة، عندما تزوجنا لم تكن سيارات، عدنا بعربة يجرها حمار إلى بيتنا، الطريق وعرة كما تعلم وكلها صعود مرهق مما أرهق الحمار، فوقع أرضاً، عبثاً حاولت أن أنهره ليواصل، زوجتي لم تصبر، نزلت من العربة، أمسكت الحمار من أذنيه، نظرت في عينيه وقالت له: “أقول لك للمرة الأولى قم وتحرك” وما هي إلا لحظات حتى قام أبو صابر وواصل جرنا بالعربة نحو البيت، بعد مسافة ما كبع الحمار مرة أخرى، ففتحت فمي لأنهره، فأسكتتني بيدها، نزلت وأمسكت الحمار من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: “أقول لك للمرة الثانية قم وتحرك”، كما بالمرة الأولى، أنتفض أبو صابر وعاد يجرنا بتثاقل واضح وإرهاق كبير نحو البيت، لكن وعورة الطريق أسقطته أرضاً مرة أخرى، كالمرة الأولى والثانية نزلت عروستي وأمسكته من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: “أقول لك للمرة الثالثة ولن تكون مرة رابعة، قم وتحرك” مضت لحظات والحمار المسكين غير قادر على الحركة، فإذا هي تخرج مسدساً من حقيبة ملابسها، وبلا مقدمات أطلقت رصاصة على رأس الحمار، ومن يومها لم أضطرها لتقول لأحد ما، أقول لك للمرة الثانية، المرة الأولى تكفي!!
nabiloudeh@gmail.com