بالرغم من أن هناك أسئلة كبيرة يمکن للإنسان أن يطرحها علی نفسه اليوم كالسٶال عن الإنسان والوجود والمجتمع الی أين ، إلا أن السٶال الأهم يبقی كما هو ، نحن نعيش اليوم إنفجارات وتحولات جذرية متسارعة وثورات وصدمات متلاحقة علی كافة الأصعدة منها الحضارية والتقنية والثقافية أو المعرفية والسياسية والإجتماعية ، أما يحدث ويتشكل هو عکس الإدعاءات ، فاليقينيات تنهار والمثاليات تبتلع والأمر يخلق وعياً حاداً بوجود أزمة تطال أشكال المشروعية الخلقية بقدر ما تشمل مختلف مناحي الحياة ، لماذا سقوط مجتمعات العالم العربي في إمتحان الفردية والمواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني وتراجعها عما كانت علیه قبل عقود ، بالرغم الدساتیر والقوانين والأنظمة ذات المسميات الجمهورية أو الديمقراطية؟
الدولة الإسلامية في العراق والشام أو مايسمی بـ”داعش” الحاملة نواتها أيديولوجية فاشية دينية هو تعبير عن الأزمات القصوی في الوقت الحاضر ، تضافرت فيها عوامل داخلية وخارجية كثيرة. وهي تعبير عن معاني كثيرة وإرث كبير وواقع سياسي وعسكري موجود في شتی مجالات الحياة بعد فهم الواجب بشكل معكوس و بطريقة مقلوبة وبعد التظاهر بمثاليات وقيم قد تنطبق علی أي شخص إلا هم. داعش كمشکلة كانت موجودة في التاريخ ولايزال وإن لم تكن متبلورة تحت هذا المسمی.
ففي الغرب تمكن العقل الغربي من إحداث ثورة في البنية التحتية للفكر فشهد عصر الميتافيزيقيا و عصر فلسفات العلوم و عاش الحداثة و مابعدها وهو الآن يسعی الی الحفاظ علی الوجود بعد أن صرف وقتاً في دراسته وهكذا تمكن من الإنتقال من الكليات والمطلق البحت الی جمع الأجزاء في إطار كلي واحد.
أما في العالم العربي فنری العقل العربي المتقوقع في عصور الخرافة وزمن إغتيال الفلسفة بإسم الدين والسياسة خوفاً من النقد والحرية ، الكامن في الجزئیات الشيطانية ، يطلّق التأمل ويهجر التفكير وهكذا تغيب الأسئلة الكبرى عند هذا العقل وهو في حالة اندهاش دائم.
فالمنتمي الی العقلية الداعشية لايعترف بحدود لمكان وتاريخ لزمان وقدسية لأحد ، يسقط الكل تحت المطرقة ولا كرامة لأحد عنده. مذاق المٶسسة الدينية الداعشية ، إن كانت هناك مٶسسة ، يولّد إيديولوجيات مقفلة مناسبة لهوس الزعيم الأوحد ، الخليفة ، الساعي الی تهديد السلام العالمي وتخريب العمران البشري. فجرثومة داعش الإصطفائية تصنع اليوم كل الكوارث والممارسات البربرية.
صحيح بأن الانسان لا يولد داعشياً بالفطرة ، فالفطرة السليمة تتنافى مع مفاهيم وسلوكيات داعش، وأن ظاهرة داعش ظاهرة مؤقتة تصل الى ذروتها لتنتهي في الهاوية ، لکن ظهور داعش هيأ بيئة خصبة لكل مأزوم نفسي وكل حاقد وسادي ومتنطع يحب البروز وكل منبوذ اجتماعي وكل فاشل في حياته ، يری في التنظيم فرصة ليعوض تكرار فشله وإختيار هذا الطريق، وصار هذا الظهور مكة لزیارة الذين عانوا أزمات الهوية والانتماء والثقافة والتهميش الاقتصادي والفقر. أما الحركات السلفية بدعواتها الی الجهاد القائم علی العنف فهي الأخری شكلت من جابنها أرضية حاضنة للجهادية التكفيرية.
في العالم العربي لاوجود للعمل الدائم علی الإنتماءات والقيود والضغوط لتحسين شروط الوجود أو تغير ظروف العيش ، لأن ذلك يحتاج الی كسر منطق الفرديات المنعزلة والجماعات المغلقة والهويات المتوحدة أو الذوات الوحدانية ، فمنذ زمن بعيد ولی مسألة الخيار بين الفردنة والجمعنة ، أي بين التوحد مع الذات والذوبان في الجماعة.
وختاماً نقول: كفاكم الأمل بحل إسلامي بعد حروب الجوامع ومراقد الأنبياء وغزوات لهتك العروض وقتل الأبرياء، التي فضحت هذا المشروع الكاذب وعلی العالم العربي المنتقل الی ماقبل التاريخ الإعتراف بالواقع ، إذا أرادت أن تبقی في التاريخ ، التشخيص والإعتراف والتعقل والتدبر. ففي ضوء تجارب داعش المريرة والمدمرة فقدت المشاریع الإسلامية مصداقيتها علی أرض الواقع ، لأن دعوتهم كما نعیشها اليوم أصبحت إستراتيجية قاتلة و كلمة “لا إله إلا الله” الجامعة الی غزوات وفتن أهلية وخلافات وحشية ودمار شامل والصحوة الی عتمة دامسة والهوية الی محمية عنصرية شوفينية.