ميثاق مناحي العيساوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
أكثر من 25 سنة كانت كافية للانقطاع الدبلوماسي بين السعودية والعراق، لتعيد المملكة العربية فتح سفارتها في بغداد في 30 كانون الاول/ديسمبر2015، وهو اليوم ذاته الذي تزامن مع اعدام السلطات السعودية لرجل الدين السعودي الشيخ نمر باقر النمر! وفي تصريح صحفي سابق للسفير السعودي “ثامر السبهان” في 20/1/2016 قال “إن السعودية تريد إعادة العراقيين الى وضعهم الطبيعي”. دون أن يكشف عن الكيفية التي تفكر بها السعودية لإرجاع العراقيين لوضعهم الطبيعي وإرجاع العراق إلى سابق عهده؟ وربما يعتقد البعض بأن التصريحات الاخيرة التي صرح بها السفير بخصوص “رأي المكون السني في العراق، ووجود الحشد الشعبي، وقضية إعدام الشيخ النمر” هي تعبير حقيقي لما يدور في العقل السياسي السعودي اتجاه العراق، على الرغم من أن وزير الخارجية السعودي “عادل الجبير” فند ذلك، ووصفه بأنه رأي شخصي للسفير ولا يمثل رأي المملكة. وقد إثار السفير في أول لقاء صحفي له في العراق عدة نقاط حساسة منها:
- إنه لمس “غضبا” من سنة العراق، إذ قال “انني لمست غضبا من قبل جميع من قابلتهم من السياسيين والاخوة السنة في العراق على المملكة العربية السعودية”، مشيراً إلى أنهم “قالوا لي أنتم غبتم عنا وجعلتمونا نواجه مصيرنا لوحدنا”.
- عبر السفير السعودي ايضاً عن رأيه في الحشد الشعبي قائلاً “رفض الكرد في الإقليم والسنة في محافظة الانبار دخول الحشد الشعبي مناطقهم يبين عدم مقبولية الحشد الشعبي من قبل المجتمع العراقي”، متسائلا “هل تقبل الحكومة العراقية بوجود حشود سنية كالحشود الشيعية الحالية وبنفس التسليح، ولماذا يوضع السلاح بيد الحشد الشعبي فقط؟”، منتقداً دور إيران في العراق، ودور بعض المليشيات، إذ اتهم السفير السعودي إيران بـ”التدخل في الشؤون العراقية الداخلية بشكل واضح وتشكيلها لمليشيات مسلحة”، مشددا على ضرورة ايجاد حل جذري للبيئة التي ساهمت بظهور داعش والارهاب. مشيراً إلى ما حصل في المقدادية، ومستفهماً دور الحشد الشعبي فيها، ولفت السبهان أيضاً إلى أن “الجماعات التي تسببت بالأحداث التي شهدها قضاء المقدادية لا تختلف عن داعش”. وبشأن مطالبة وزير الخارجية البحريني خالد بن احمد ال خليفة بحل الحشد الشعبي، أكد السبهان إن “من يستمع لخطب الجمعة لسماحة السيد السيستاني وتصريحات السيد مقتدى الصدر يستشعر خطر المرجعيات الدينية الشيعية من ذلك”.
- اشار السفير ايضاً إلى قضية اعدام الشيخ النمر، إذ قال إن “اقدام سلطات بلاده على اعدام رجل الدين المعارض الشيخ نمر باقر النمر يعود إلى ارتكابه “محرمات في الاسلام “.
لو حللنا هذه النقاط الاساسية التي تطرق إليها السفير السعودي تحليلاً موضوعياً، وبما يخدم الدولتين العراقية والسعودية، وصانع القرار العراقي والسعودي في تعضيد العلاقة بين البلدين وتطويرها؛ فأن كلام السيد السفير يؤشر على خلل كبير سواء فيما يتعلق بمنظومة الدولة العراقية وإدارتها، وسياستها الخارجية، ودور القوى السياسية في تعضيد هذا الخلل، على الرغم من أن كلام السفير افتقد للسياقات العامة والاعراف الدبلوماسية المتعارف عليها دولياً، مما سبب ردود فعل متباينة، إلا أنه يشخص بعض الخلل الموجود في عملية بناء الدولة العراقية.
فبخصوص قضية إعدام الشيخ النمر، فأنها تعد قضية داخلية؛ لأن النمر أدين بموجب القانون السعودي، وعليه فأن التدخل في قضية إعدامه رسميا من قبل صانع القرار العراقي “تعد تدخلا بالشأن الداخلي السعودي”، على الرغم من خصوصية الرجل ومكانته الاجتماعية والدينية التي تتعدى الحدود الجغرافية للدول الحديثة، وربما يكون من الأفضل اتباع طرق أخرى في حث او انتقاد السعودية على الحدث وعدم تكراره لما ينتج عن هكذا حوادث من عواقب وخيمة على السلم والامن الإقليمي والوطني.
أما ما يتعلق بكلام السفير عن الحشد الشعبي، فعلى الرغم من ابتعاده عن المهنية والاختصاص والعرف الدبلوماسي، إلا أن الكلام يتطلب تحليل دوافعه ومضامينه بدقة وموضوعية، فالرفض السني والكردي للحشد موجود على ارض الواقع؛ بسبب أن الكرد لديهم قوات “البيشمركة” ولا يرغبون بوجود قوات أخرى تزاحمها في القوة والجغرافيا، وكثير من السنة يطالبون بما يسمونه قضية التوازن في المؤسسة العسكرية، والحشد الشعبي في نظرهم يعبر عن طيف أو مكون عراقي واحد. وعلى الرغم من زج الحكومة لكثير من ابناء العشائر السنية في صفوف الحشد الشعبي، الا ان واقع الحشد يشير الى ان مرتكزه الأساس هو المكون الشيعي، وعدم تأطير قوات الحشد الشعبي بقانون ينظم عملها ويحدد صلاحيتها ويبعدها عن الساحة السياسية المتحزبة، وعدم اخضاعها لقانون المؤسسة العسكرية العراقية لحد الآن، على الرغم من ارتباطها برئيس الوزراء، ينعكس سلبا على نظرة بعض الأطراف الداخلية والدولية لهذه القوات، ويقود الى ظهور انتقادات إقليمية ودولية وحالات من عدم الرضى الداخلي والخارجي، وتصريحات السفير السعودي تدخل من هذا الباب، فهو يدعو الى أن تكون هناك مؤسسة عسكرية رسمية في العراق متمثلة بالجيش وقوى الامن الداخلي، ولكن لو كان السفير أكثر دبلوماسية، وموضوعية وينظر بعين محايدة لركز أولا على الانتصارات الرائعة التي حققتها قوات الحشد، ومنعها لسقوط العراق بيد الإرهاب الداعشي، ومنع تمدده إقليميا ليشمل بالضرورة السعودية، ولحرص على مباركة هذه الانتصارات، ومن ثم توجه بالنصائح وليس الانتقادات له من اجل تقويم وتطوير عملها.
ومن ناحية العتب السني على المملكة السعودية، فهذا يعبر عن رأي داخلي للقوى السياسية السنية، وهو بنفس الوقت يشير الى هشاشة القوى السياسية السنية، التي رأت نفسها مجبرة على ذلك؛ بسبب حالة التشتت التي عاشها المكون السني في العراق بعد العام 2003؛ فالسنة شعروا بحالة الفراغ نتيجة الانقطاع السياسي العربي عن العراق ولاسيما السعودية، فضلاً عن تراكم بعض السياسات الخاطئة للحكومة العراقية السابقة وافتقاد المكون السني في العراق بشكل عام إلى القيادة السياسية والدينية الناجحة غير المؤدلجة.
أن فتح السفارة السعودية في بغداد يؤشر على تحول كبير في السياسة الخارجية العراقية اتجاه المحيط العربي، إلا أن هذا التحول بحاجة إلى تعضيد وتطوير اكثر من كلا الطرفين، فالسعودية يمكن أن تلعب دورا إيجابيا كبيرا في العراق للتخفيف من حدة التوتر الطائفي وتحقيق التعايش السلمي، ومن الممكن أن تكون طرفا فاعلا لحث سنة العراق على الاندماج السياسي، وهي مطالبة ايضاً بكسب ثقة الشيعة، كما هو الحال بالنسبة لإيران المطالبة بمد جسور التواصل مع المكون السني في العراق واستعادة الثقة بين الطرفين؛ لأن الصراع “الإيراني-السعودي” بالتأكيد سيسهم في زيادة التخندق الطائفي في العراق، ويؤثر على عملية التعايش السلمي وإدارة الدولة وعدم الاستقرار.
وهذا يتطلب ايضاً إرادة وطنية حقيقية للقوى السياسية العراقية، وسياسات حكيمة من قبل الحكومة العراقية “داخلياً وخارجياً”، وادراك حقيقي لدى صانع القرار العراقي اتجاه كل ما يحصل، ومغادرة العشوائية في التصريحات الإعلامية، والسيطرة على كل التشكيلات العسكرية غير الرسمية وحصر السلاح بيد الدولة فقط، واعتماد الموقف الحكومي الرسمي اتجاه كل الاحداث الدولية والإقليمية والقضايا الداخلية؛ لأن من اكثر الاخطاء واكبرها التي تؤشر على الحكومة العراقية هو الانقسام الداخلي اتجاه كل الاحداث الإقليمية والدولية، مما يتسبب بالتغييب المتعمد للدور الرسمي للحكومة العراقية، وربما يضعها في حالة من الاحراج، مما يضعف الدولة العراقية إقليمياً ودولياً.
إذاً امام السعودية وصانع القرار السعودي فرصة كبيرة في لكسب الثقة العراقية، إذا ما ارادت ذلك، في حال وظفت السعودية دورها في دعم الدولة العراقية بعيداً عن لغة المكونات والتخندقات الطائفية، وبعيداً عن كونها تمثل مركز الثقل العربي السني، بل باعتبارها دولة عربية وإقليمية تمثل أحد الركائز في عملية الاستقرار في العراق والمنطقة.
كذلك العراق بحاجة إلى لملمة البيت الداخلي ومن ثم التعاطي مع الدول الإقليمية والدولية بشكل ايجابي واستعادة دوره العربي. ولكن ستبقى الأسئلة المطروحة على طاولة العلاقات السعودية – العراقية هي: هل أن السعودية قادرة على توظيف مكانتها العربية في تخفيف حدة التوتر الطائفي في العراق والمنطقة؟ وهل الخارجية السعودية جادة في دعم العراق وارجاعه إلى وضعه الطبيعي أم أنها عازمة على مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة عن طريق العراق، لاسيما بعد فشلها في لبنان وسوريا؟ وهل أن الحكومة العراقية قادرة على التعاطي الايجابي مع السعودية بعيدا عن مخلفات التاريخ والجغرافيا والصراع الإقليمي والدولي؟ هذا ما ستجيب عنه الشهور القادمة من العلاقات بين الطرفين، ليرى الجميع بعدها هل كان وجود السفارة السعودية في العراق عاملا مساعدا في دفع العلاقة بين الجانبين الى الامام أم سببا إضافيا في اتساع الفجوة بينهما؟