عرفتك مناضلا وليس زبوكا يا رجل

علي الكاش

بلا أدنى شك إن التغييرات الزمانية والمكانية تترك ظلالها على شخصية الفرد، وغالبا ما تطرأ ‏بعض التغييرات والإنعطافات في الشخصية بحكم الظروف التي يعيشها الإنسان، فأي فرد يتفاعل ‏اراديا او لا اراديا مع المجتمع الذي يعيش فيه فيؤثر به ويتأثر به، لحد الآن الأمر طبيعي، ولكن ‏احيانا تنزلق الشخصية إلى انعظافات حادة لا يمكن تفسيرها او قبولها، وربما تفسر لغير صالح ‏الشخصية نفسها، في المجتمع العراقي خاصة والعربي عموما تمتاز الشخصية بالإزودواجية التي ‏تحدث عنها بإستفاضة د. علي الوردي في رسالته (شخصية الفرد العراقي)، والأمر لا يتعلق ‏بالأزدواجية فحسب، بل يمكن الحكم عليها بأنها شخصية مضطربة وغير مستقرة، تتصارع بها ‏الأهواء كريشة في مهب الريح، وهذه الإضطرابات تكون في غالب الأحيان جمعية، أي لا تقتصر ‏على الفرد الواحد، والتغييرات في المجتمع العراقي بعد الغزو تمثل أبلغ صورة واضحة عن هذه ‏الإضطرابات الجمعية.‏
ولأن الأمر معروف ولا يحتاج الى إستفاضة وإسهاب بحكم الشواهد التي بلمسها أي فرد في ‏المجتمع، سنتحدث اليوم عن حالة فردية، تصلح كنموذج يمكن الإستشهاد به للحالة الجمعية. فقد ‏عشنا أحلى فترات حياتنا في السبعينيات من القرن الماضي، انه فعلا زمن العمالقة في كل ناحية من ‏نواحي الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والعمرانية والرياضية، ولا يمكن لأي ‏عراقي ان ينكر هذه العهد الجميل الذي إستمر الى بدء الحرب العراقية الإيرانية، فبدأ التغيير في ‏ملامح المجتمع العراقي الى سيء فالأسوأ بعد الغزو الامريكي عام 2003.‏
الحقيقة ان بوادر التغيير السلبية في المنطقة حطت عندما حظ الخميني المقبور أقدامه في ايران بعد ‏دعم كبير من دول الإستكبار العالمي التي انقلب عليها، كما انقلب على العراق الذي آواه لعدة ‏سنوات، وعلى المعارضة الايرانية التي مهدت له السبيل للحكم. وصار الأمر بعد الغزو الأمريكي ‏مألوفا فقد تبين ان رجال الدين هم رجال سياسة بعمائم مزيفة وان زهدهم كاذب يوهمون به عوام ‏الناس، وهم يعملون لدنياهم ومصالحهم وليس دينهم، بل هم المسؤولون عن تدمير وتشويه صورة ‏الإسلام داخل اوطانهم وخارجها، وما أصحاب العمائم اليوم إلا نسخة طبق الأصل من إمامهم ‏الخميني وخلفه الخامنئي.‏
تعرفت على صديق طيب السريرة في منتصف السبعينات من القرن الماضي، كان شابا يا نعا ‏رشيق القوام دائم الإبتسامة، هاديء الطباع، وفي قمة الأخلاق والرفعة. كان نموذجا حيا لطيبة أهل ‏محافظة المثنى، المدينة التي ينحدر منها، والتي هي اليوم من أفقر واسوأ محافظات العراق دون ان ‏يكلف نفسه بالدفاع عنها وبيان المسؤول عن تخلفها العمراني والاقتصادي والثقافي. كانت حالته ‏المادية الوسط، ويسكن في مدينة بغداد، في أحد الأحياء الفقيرة، لغرض اكمال دراسته الجامعية. ‏تقاربنا فكريا وصرنا أصدقاء لا نتفارق يوما، وكلما مرت الأيام توطدت علاقتنا أكثر فأكثر، ‏واستمر بنا الحال الى ان فرقتنا الخدمة العسكرية، ومع بداية الحرب العراقية الايرانية انقطعت ‏العلاقة بين الأصدقاء الأشقاء ولم نعد نسمع أحدنا عن الآخر، لكن تبقى الصورة الجمالية لصداقتنا ‏مطبوعة في الذاكرة، ولا يمكن ان تغادرها، فهي لم تكن أياما بل سنوات جميلة قضيناها معا في ‏زمن الجمال العراقي.‏
هذا الصديق العزيز كان يدرس في احدى الجامعات في بغداد، وكان مناضلا بمعنى الكلمة، شيوعيا ‏حتى النخاع، وكان الإتحاد السوفيتي السابق يمثل له القدوة، ولابد للدول العربية ان تنحو الطريق ‏الاشتراكي كطريق أوحد لتحقيق الرفاه لشعبها، (وطن حر وشعب سعيد) هذا هو شعار التقدم وانهاء ‏العبودية وتحرير الشعوب من الامبريالية العالمية، وكان يبغض النظام الرأسمالي كل البغض ‏ويعتبره نظام عبودي استغلالي بشع، وما يدعية من حرية لا حقيقة لها في الواقع، وانما هي ‏شعارات فارغة، وهذا رأي الشيوعيين عموما.‏
غالبا ما كان يتابع احداث الوطن وينتقد بعض الممارسات وفق رؤيتة الشيوعية وعبر صحيفة ‏‏(طريق الشعب) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي العراقي، ونتناقش دائما حول الأوضاع الجارية ‏سيما السياسية، كانت المجموعة من الشيوعيين بإستثنائي، فقد كنت مستقلا، وكانوا يستغربوا من ‏معلوماتي الكبيرة عن الفكر الماركسي ولا أنتمي للحزب الشيوعي، وكانوا يستعيروا مني بعض ‏الكتب عن الماركسية، فقد كانت لدي جميع كتب ماركس وانجلز وعشرات الكتب التي كتبت عن ‏الماركسية، وكانت تلك الكتب محظورة حينها، وكان كتاب (الناس والعلم والمجتمع) طباعة موسكو ‏ينتقل دائما من يد لأخرى بين المجموعة لسهولته، وتفصيله للفكر الماركسي بطريقة مبسطة ‏ومفهومة، علاوة على كتاب تطور الفكر الماركي للياس فرح. كنت أمازحهم القول بأنه إذا مطرت ‏السماء في موسكو فأن الشيوعيين في الناصرية والمثنى يفتحوا المظلات تعبيرا عن الولاء للإتحاد ‏السوفيتي السابق، وهذه نفس القاعدة التي تطبقها اليوم الاحزاب الشيعية الولائي فالولاء لايران ‏وليس لأوطانهم. كانت صداقتنا متينة جدا رغم الأختلاف الفكري بيننا، وكنت اتعاطف مع الظروف ‏القاهرة التي يعيشوها والضغط الذي تمارسه الأجهزة الأمنية من خلال متابعة تحركاتهم ورصدها ‏أول بأول، على الرغم من ان نشاطهم كان سلميا، وكان يشدني اليهم إصرارهم على البقاء ‏كشيوعيين اصلاء رغم معاناتهم المستمرة وملاحقتهم والتضييق عليهم.‏
علمت خلال الحرب ان أحد أصدقائنا من المجموعة أسرته القوات الايرانية، وكان وقع الأسر قد ‏آلمني كثيرا، سيما انه كان يعيش علاقة حب جميلة مع احدى الفتيات الشيوعيات وكان يأمل الزواج ‏منها بعد التخرج من الجامعة لكن ظروف الحرب أجهضت مشروعه، وانتهى أمره بالأسر مع ان ‏فتاته حسب علمي حينها بقيت في انتظاره ورفضت الزواج ممن تقدم لها، ولا أعرف بقية ‏المعلومات عنها او عن صديقنا الأسير فيما إذا عاد او لا سامح الله حصل له أمر ما. ومازلت اترقب ‏سماع أخباره بشوق ولهفة، ولا منجد مع الأسف لحد اليوم.‏
دارت الأيام ولم أعد اسمع أي شيء عن مجموعتنا، لغاية قبل سنوات قلائل، فقد قرأت في موقع ‏كتابات مقالات بإسمه، مع صورة صغيرة للكاتب لا توضح ملامحه جيدا، ولكني على الفور عرفته، ‏لم يغير مرور السنين الكثير من ملامحه، سوى النظارات وشيب قليل وقلة في الرشاقة عن السابق، ‏بدأت بمتابعة ما يكتب، وكأني اشهد شخصية لا علاقة لها بماضيه، بل انحرف عنها بزاوية 80 ‏درجة. فقد كان وهو الشيوعي الملحد يدافع بضرواة عن المرجع السيستاني ويعده تاج رأسه، بل ‏ويدافع بشراسة عن الحشد الشعبي ويعتبره مقدسا على الرغم من جميع الانحرافات التي جرت بعد ‏الحرب مع تنظيم داعش الإرهابي والإنفتاح على التجارة عبر المكاتب التجارية والسيطرة على ‏المنافد الحكومية، وعندما عرفت بأنه يعيش في بلد رأسمالي وهو الشيوعي المعادي للنظام ‏الرأسمالي إنتابتني الحيرة أكثر.‏
كنت اظن اني سألتقيه يوما في احدى دول المنظومة الاشتراكية السابقة، هو او اي فرد شيوعي من ‏مجموعتنا السابقة، وعشت سنوات في تلك الدول ولم التقِ بأي منهم مع الأسف، اما يكون احدهم ـ ‏الشيوعي المخضرم ـ يعيش في بلد رأسمالي، فهذا ما لم يخطر على بالي مطلقا. ‏
خلال لقاءات حوارية معه تأكد لي بأنه نفس الصديق القديم شكلا، وغيره شخصية، فقد إنقلب على ‏ذاته وتأريخه ونضاله بشكل مريع لا يمكن تصوره مطلقا. ولكن في الحقيقة عندما تتبعت مسيرة ‏الحزب الشيوعي العراقي بعد الغزو الأمريكي الغاشم، تأكد لي بأن الأمر لم يقتصر على شيوعي ‏فرد بل على الحزب كله، حزب شيوعي يُقاد من قبل دولة استعمارية ورأسمالية، ويتعاون مع قوات ‏الإحتلال! ويغير شعاره الى (وطن محتل وشعب تعيس). كنت اتساءل: هل يمكن ان يتخلى الحزب ‏عن نضاله بهذه الطريقة الساذجة؟ وماذا عن آلاف الشهداء الذي ضحوا بحياتهم من أجل الحزب ‏لينضم حزبهم الى حظيرة خنازير المحتل؟ الحقيقة هذا الأمر لا يقتصر على الحزب الشيوعي بل ‏على الأحزاب الحاكمة اليوم ومنها حزب الدعوة وغيره.‏
الذي آلمني أكثر ان تظهر صورته من ضمن مجموعة الزبابيك التي أطقها عليهم الاعلامي المبدع ‏فنان الشعب أحمد البشير، فهم ذيول لإيران، ومتاجرون كبار في ما يسمى بسوق المقاومة ‏الموهومة. وقد أحسن البشير في اطلاق تسمية الزبابيك عليهم، فهذا أقل ما يقال بحقهم، زمرة ضالة ‏وخائنة من اصحاب الاقلام المأجورة باع دينهم ووطنهم وشرفهم.‏
أردد مع نفسي: هل يُعقل ان يتحول المناضل الى زبوك؟ وهل يعقل ان يؤجر قلمه ولسانه ‏وضميره الى زمرة من العملاء لفظهم الوطن وبصق في وجوههم الصفراء، وداس على روؤسهم ‏الخاوية؟
ما الذي سيقوله عنهم ابنائهم واحفادهم في المستقبل، وهل فكر الزبابيك في هذه المسألة؟ وهل ‏يتشرفوا بتأريخهم المخزي والعار الذي سيلاحقهم واحفادهم كظلهم؟
صحيح ان الظروف تغير الإنسان كما أسلفنا، لكن ان يتحول المناضل الى زبوك، فهذا صعب على ‏التصور والخيال لأصحاب العقول والضمائر الحية.‏
اقول مع نفسي رغم امتناعي عن الإستضافة في أي حوار او لقاء تلفازي، رغم الطلبات التي ‏وصلتني، اقول كيف سيكون الأمر لو اجتمعت مع هذا الصديق الغالي على قلبي في حوار مباشر؟ ‏وهل يمكنني ان أتحاور معه في أية مسألة؟ أم سيتلعثم لساني وتتعثر الكلمات في فمي، وينهمر ‏دمعي مستذكرا صورته السابقة.‏
اسأل الله تعالى ان لا يتحقق ذلك، افضل ان تبقى صورته السابقة في مخيلتي، وليس تلك الصورة ‏المسخ التي طرأت عليه، سبحان اللهّ مغير الأحوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله عما نشهده اليوم من ‏أحداث وتغييرات في شخصية الفرد والمجتمع العراقي.‏
عرفنا ان الصفة الإنقلابية من صفات الأحزاب الثورية، لكن لم نيدر بخلدنا انها تعني الإنقلاب ‏على الذات والمعايير الاخلاقية والوطنية.‏
اتمنى يا أخي العزيز لك الصحوة وان تأخرت، وان تنزع عنك جلباب الزبابيك، وترجع الى ‏أصلك الرفيع، ويستفيق ضميرك من سباته العميق، عد يا رجل الى تأريخك الجميل وليس الى ‏حزبك العميل، عد الى عراقيتك الأصيلة فهي جذورك الحقيقية، عسى أن يغفر لك العراقيون ‏المعروفون بطيبة قلوبهم ذنوبك. ‏
ان الإصرار على الذنب يفاقم الذنوب ويثقل تأريخ الإنسان، ويحبط عمله، ولك الخيار يا من كنت ‏من الأخيار، علينا النصيحة ولك القرار.‏
كلمة أخيرة لأخي الحبيب: ودي واعتزازي بك كمناضل سابق، وعزائي فيك كزبوك لاحق.‏
علي الكاش