عالم الغموض والجريمة المعقدة في روايات” أجاثا كريستي!!!
عبدالجبارنوري
وشغفتُ أيام الشباب بمغامرات هذه الكاتبة الجريئة ذات الأفكار الخيالية الفنتازية ، والواقعية الحاضرة الغائبة في أختيار ( الزمكنة ) بشكل بارع حيث يكون المكان ذو نكهة ملطفة ومخففة من الجو الخانق للجريمة ، وعنصر الزمن تحبُ فيه أن يكون عتيقا بتقادم عمرالسكوج الأسكتلندي ، ولا ادري كيف بدأت تخبوهذه الرغبة في القراءة بعدٍ تنازلي مع تخضيب شعرالقُمة ببياض قمة أفريست ، وقد أقتنيتُ حينها بضعاً من كتبها منها جريمة في الصحراء ، ساعة الصفر ، عدالة السماء ، الرجل الغامض ، ومقتل روجر أكرويد ، من مجموع 72 رواية بوليسية ، ومن هواياتها المحببة رحلات بأتجاه الشرق ، كما تقول في مذكراتها :
أحببُ الشرق لفضاءاته المشمسة ومفازاته الشاسعة ، وحقاً أستفادتْ ” أجاثا كريستي ” من تلك الرحلات ، وكتبت أجمل الروايات ، تصف فيها طبيعة الشرق ، والأسواق الصاخبة ، وطبائع البشر ، ومشاهدة الآثار واللقى التأريخية والكنوزالثمينة التي تحتويها بلاد المشرق ، نُقلتْ رواياتها من الأنكليزية إلى عدة لغات أهمها الروسية والصينية واليابانية والعربية ، وقد تمّ تصوير بعض رواياتها كأفلام سينمائية ولاقت رواجا واسعا في شبابيك التذاكر، وقد ضربت رقماً قياسياً في بيع رواياتها حيث وصلت إلى مليار نسخة في جميع أرجاء العالم ، والآن الكاتبة متوفاة منذ أكثر من 45 سنة وما زال الطبع والنشر مستمر مع دور النشر العربية .
ثمة هاجس طفولي يفرض نفسهُ على ذاتي ويتعايش أرهاصات الحداثة الفنتازية والواقعية الجدلية والذي هو : أتجاه كريستي الأنثى الرقيقة في أقتحام عالم الجريمة وخاصة التأريخية منها والتي تلفها الغموض والأثارة والترقب ؟!
-لقد تعاملت كريستي مع رغبة المتلقي الجارفة والعارمة ولأغلبية المجتمع الأنكليزي في تقبل القصص البوليسية ذات المحتوى الغامض ، وتتبع مسار الجريمة للوقوف على محركها السوسيولوجي ، وأكبر دليل لشغف ( القراء ) في أقتناء كتبها يخبرنا العم غيتس بوصول مبيعات كتبها لرقم ملياري وبخمسة لغات !!!؟؟؟
– ثم هي من مواليد 1890 عايشت خضم صراعات الحربين الكونيين وفواجعها المليونية .
– فوبيا الموت الذي أصاب فايروسهُ اللعين أغلب عباقرة الفلسفة وعظماء الأدب ، فهو غريزة طبيعية رديف كل كائن حي بيد أنه أحياناً يتغلب عليه ربما يكون شراً ولكنه ليس عبثاً ، ولكن كريستي شرنقت الموت بلغة التأمل حينها تمنح المتلقي شعوراً بالطمأنينة ربما تكون مؤقتة .
طقوس كريستي في الكتابة
-تلجأ الكاتبة إلى تكنيك روائي مميّز يرتكز على الخداع السينمائي في التشويق المفعم بالغموض والذي يشد القاريء إلى متابعة الحدث وحتى تضطرهُ لنظرية الأحتمالات في التأويل والتفسير لأقتحام اللغز والرمز في سرديات الرواية وبتشكيلٍ متقن مسبقا في المحور الأساسي للبناء الدرامي .
– كروائية بوليسية لم تستمد نصوص لرواياتها من سجلات الشرطة أو المحاكم كما هو متداول في كتابة الروايات البوليسية ، وأكثرية كتاباتها من وحي تأملاتها وخيالها الخصب بذهنٍ واسع الخيال مبدع يلهم الحياة بالحيوية ، وذاكرة قوية متمكنة على تتبع الأحداث حيث تتفنن في تحريك أبطالها وفق السياق الدرامي الذي أختارتهُ لكل رواية .
– لقد أستعملت الألغاز والخرافات والحقائق التأريخية والمعاصرة وبذات النفس الطويل والصبور في وضوح الرواية وغموضها ، أستعمال الكم الهائل من الألغاز والحبكات الدرامية الغامضة في البناء القصصي والمعمار الدرامي او في سرديات الحوار لشخصنة أبطال الرواية .
– أختيار مسرح الأحداث غالباً ما يكون في جميع رواياتها مشوّقة تبعث على التأمل كأن تكون مواقع أثرية ، مدن شرقية ، معابد ، قصورفخمة فنتازية ، فنادق مشهورة ، قطارات ، طائرات ، مضايق مخيفة ، صحارى مقطوعة .
– تعتمد في أغلب رواياتها على العامل السايكولوجي ( الفرويدي ) لأسر الذات عند المتلقي بأساليب أنثوية حوائية لأغواء آدم في قضم التفاحة لسحب المتلقي في مواصلة أحداث الرواية بشوق وحرص شديدين .
– وفلسفتها في الحياة هي { أن الشر عرض محض ، لابدّ من تقبلهِ } وقد يقع القاريء في دوامة أستعصاء في أيجاد الحل ، فتبرز بعفويتها المبدعة لتشيرعليه بأيماءة غير مباشرة منبعثة من قوّة حبكة دراما الرواية ( النقر) على الرابط الوهمي بأستعمال الحواس الذكية للقاريء لتظهر له صورة جديدة تحل اللغز وتكشف الجريمة في قالب درامي ممتع وشيّقْ .
وقدمت روايات بوليسية عن بغداد مثل: “رواية وصلوا إلى بغداد ” They Came To Baghdad ، وهي رواية تحقيق لأجاثا كريستي نُشرت لأول مرّة في 5 مايس 1951 {والتي تبدأ روايتها بهذه الأغنية السمفونية الجميلة —- كم من الأميال تبعد بلاد بابل ؟ / أنّها تبعد ثلاث مسافات زائد عشر/ هل أستطيع الوصول إلى هناك عند العشية ؟ / أجل والعودة أيضاً } —- تروي فيها قصة أكتشاف العميل السري البريطاني أن سلاحا سريا قد تمّ تصنيعهُ ، وأن هناك كميات هائلة من الأموال قد سُرقتْ ، وكذلك كميات كبيرة من المجوهرات ، وتحتوي الرواية سلسلة من الجرائم المترابطة التي شغلت مجموعة من المنظمات السرية والتي كشفتهم ملابسات التحقيق بألتقائهم في بغداد ، والحل يدور حول لغز مهم على المتلقي والقاريء أكتشافهُ بقراءة بين السطور ، ويبدو لي حلا وهو قابل للخطأ والصواب :
هو أن أكثر أفراد شخوص الرواية أذا أردنا تغيير صورهم إلى الحقيقة الملموسة أنهم جميعا مزيفون وأصحاب شركات أستثمار في أكتشاف الآثار وجواسيس دول كبرى ، وباحثون عن البترول ، فوقع أختيارها لجغرافية الرواية مدينة بغداد ، الغافية على ضفاف دجلة الخير ، حينها وفرتْ جمال الطبيعة والتي تقتضيها الرواية وتكاملت أسس حبكة الرواية عندها بالعنصر الثاني التقادم التأريخي ، وتوفرت الفرصة لعقد أجتماع سري يضم قادة الدول العظمى بعد الحرب العالمية الثانية ، غير أن هذه المعلومات تسربت – لسوء الحظ – فوصلت لمنظمة سرية تسعى إلى أفشال هذه القمة التي هدفها حماية الجنس البشري من كوارث الحروب ، عندها تقع بطلة الرواية في الشبكة العنكبوتية لعصابات الجريمة المنظمة ، ويشارك المتلقي الممثلين توترهم وأحباطهم ، وكون فتاة الرواية جريئة وطموحة وتعشق المغامرة بشكلٍ تفوق توقعات المشاهدين ، تصل وجمهور المشاهدين لحل (لغز) الرواية الذي تبين أنه مكتوب على ظهر جمل أبيض محمل بالشعير ، أنتقل من قارة إلى أخرى ثُمّ أستقر في كربلاء التي تصلها البطلة بعد أقامة مطوّلة ومغامرات في بغداد والبصرة ، ثُمّ لا يسلم الشيخ ” حسين الزيارة ” وهو الرجل الذي يحفظ اللغز والوثائق التي تدين التنظيم الخطير ، وشفرة الرواية عجز أحد أبيات المتنبي {زد- هش هب أغفر أدنِ سُرّ صل}// وشطرهُ— أقل أنك أقطع أحمل عل سل أعد} ولا تتوضح نهاية الرواية ألا بعد أن يتلوعليه صديق الجاسوس القتيل ( كار مايكل ) سر الليل كما يعمل به في العسكرية ، وليس المهم وثائق شيخ كربلاء ، فالأهم كيف وصلت هذه الجنيّة ” أجاثا كريستي ” إلى هذا البيت من شعر المتنبي لتجعلهُ عقدة روايتها ، وهو بالفعل أعقدْ ما أبتكرتهُ المخيلة الشعرية العالمية ، وهي تخاطب القاريء كما تبدو لي شخصياً :
{تبدي لك الأيام ما كنت جاهلا —- وتأتيك أجاثا كريستي بالأخبار قبل أن يصلوا} .
في مايس 2023/ستوكهولم