ما بعد إسقاط أنظمة القائد الضرورة وملك ملوك أفريقيا ومن ماثلهم في دول المختبر الديمقراطي، انبثقت مؤسسات وحكومات وبرلمانات أقل ما يقال عنها هو المثل العراقي الدارج ( عاب شي ما يشبه أهله ) أي إن كل هذه المؤسسات أتت مطابقة لكل ما اعتادت عليه شعوبها من سلوكيات وثقافة وتقاليد اجتماعية وسياسية، فما أن بدأت أنسام الربيع العربي تعطر الأنوف وتطرب الأسماع في تهاوي أنظمة الزعيم الأوحد والحزب القائد والجمهوريات الوراثية، حتى عاودت فيروسات تلك الأنظمة بالانتشار في المفاصل المهمة من الهياكل الجديدة التي حاولت ملأ فراغات ذلك الإخطبوط، الذي هيمن لعشرات السنين إن لم تك مئات السنين على صدور وعقول ملايين البشر المقموعين جينيا بأفكار البداوة والقبيلة والغزوات، لا من اجل البقاء فقط بل من اجل الزعامة حتى وان كانت زعامة ثلة من السراق والقتلة، وقد رافق عملية سقوط تلك الأنظمة نشوء تنظيمات وعصابات وأحزاب ومنظمات ووسائل إعلام ونقابات من رحمها ومنظومتها الفكرية، لكي تحتوي أو تلتهم ما سمي في حينه بثورات الربيع العربي، التي سرعان ما تحولت إلى ما نراه اليوم في ليبيا وما فرخته في سوريا واليمن وغيرها من دول المنطقة، ولعله اخطر ما امتلكته تلك الفايروسات تحت مظلة الانفتاح الديمقراطي وحرية تأسيس وسائل الإعلام، هو الفضائيات وخاصة هنا في العراق وفي سوق ” المريدي “ الشهير، والذي تخصص بعد سقوط نظام صدام حسين بمنح الشهادات العلمية وخاصة الدكتوراه لكبار مسؤولي النظام الجديد في سلطاته الثلاث، وبالذات التنفيذية والتشريعية في المركز والمحافظات، ناهيك عما يسمى بهيئة الإرسال العراقية المفترض أن تكون ملكا للشعب العراقي ومن يمثله واقصد هنا وبنية صافية برلماننا العتيد، لكنها في غفلة من الزمن أيضا تم تأجيرها لحزب السلطة الجديد صاحب ما يسمى بالكتلة الأكبر، والوريث المتطابق لسابقه أيام القائد الضرورة المتحول إلى مختار العصر، الذي يصر مريدوه على استنساخ مجموعة منه وتوزيعها على الدول العربية والإسلامية والأوربية والأمريكية، لكي لا تفقد فرصتها الذهبية في امتلاكها فلتة زمانه وعصره.
هذه الفضائيات المفترض أن تكون وسيلة إعلام متحضرة، تعوض سنوات القهر والاستلاب الفكري والثقافي والسياسي، أنتجت مجموعة ما يسمى بالبرامج الموجهة لتوعية وتطوير الرأي العام باتجاه قبول الآخر وحرية التعبير، خاصة بعد قيام النظم الديمقراطية المفترضة كبديل لتلك التي حكمت بثقافة تكميم الأفواه وخنق الآراء والتعبير، وافتراض وجود مساحة لتلك الحريات، وعلى هذا الافتراض أنتجت كما قلنا مجموعة برامج حوارية على شاكلة مجلس عراقي والأستوديو التحليلي أو منابر متعددة أو سميها ما شئت، حيث تستضيف ” دقاقي الثوم بعكوسهم “ كما يقول المثل الموصلي إشارة للفضوليين ومساحي الجوخ والملكيين أكثر من الملك نفسه، لكي تفرض مجموعة أفكار لا تقل في شموليتها عما كانت تقدمه قنوات ووسائل الأنظمة السابقة، خاصة وكنموذج لتلك الاستخدامات السوداء للإعلام هنا في العراق ومن خلال شن حملات عنصرية طائفية طيلة أشهر عديدة قبل سقوط ثلث العراق بيد داعش، ضد الكورد من جهة وأهالي الموصل والانبار وتكريت وديالى من جهة أخرى، مستخدمة شعارات وطنية وقومية كما كان يفعل صدام حسين في إبادته للكورد وانفلتهم باعتماد آيات من القرآن الكريم، ثم تكتشف إن تركيا وقطر والسعودية ومصر والباكستان وجزر الواق واق عملاء للصهيونية والامبريالية، وان كوردستان أصبحت ملاذا للبعثيين وداعش والامبريالية الأمريكية ( طبيخ مكادي ) كما يقول أهل الموصل، في توصيفات بائسة تستغل بها عقول الأكثرية الجاهلة والجائعة لتنشر الحقد والكراهية ولتوسع بيئة انتشار داعش وغيرها كما حصل فعلا.
هكذا نجحت طواقم إعلام تلك الأنظمة الفاسدة أن تتوغل في هياكل الأنظمة الجديدة وتؤسس لها موضع قدم لتنطلق بذات الثقافة الشمولية والاقصائية في معظم برامجها الموجهة، معتمدة على إثارة الغرائز والعدوانية وبناتها في الكراهية والأحقاد، واضعة بيوضها الإرهابية في بيئة طائفية وشوفينية جاهزة للتفقيس في أي وقت تشاء، لإثارة كل النعرات وقبول أكثر أشكال الإبادة الجماعية كما حصل للكورد الايزيديين والمسيحيين والشيعة والسنة في كل أنحاء البلاد، حيث مارسوا تعتيما إعلاميا مريبا على واحدة من أبشع عمليات الجينوسايد بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تعرض لها الايزيديون بمئات الآلاف إلى القتل الجماعي والنهب والسلب واسر نسائهم وأطفالهم، بل وبيعهم في أسواق النخاسة، دون أن تثير فيهم هذه الجرائم أي وازع أخلاقي أو إنساني أو حضاري، بل إنهم تعمدوا في إغفال دور البيشمه ركة وعدم التطرق لها في كل عمليات تحرير آمرلي وسليمان بيك وسد الموصل وسنجار ومخمور رغم معرفة قادتهم بدورها الرئيسي في مقاومة الإرهاب وطرده من كثير من المناطق.
وعادت حليمة إلى عادتها القديمة بعد ربيع دامي بإعلام قاتم ومجاميع سياسية وبرلمانية من المشوهين الفاشلين والمعاقين ثقافيا وأكاديميا وأخلاقيا، تدير أو تشرف على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى وسائل إعلام مريضة حتى النخاع بالجهل والفساد وتتمتع بدعم كبير من السلطة تحت مسميات عديدة، سواء كانت أحزاب أو جهات متنفذة أو هيئات مستقلة، وخاصة في الإعلام التي كان يراد منها أن تكون على شاكلة هيئة الإذاعة البريطانية، فتحولت بعد أشهر من تشريع قانونها إلى وسيلة لحزب السلطة ورئيسه بإكسسوارات مظهرية تشبه ما كان يفعله نظام البعث في تعييناته لمعارضين أو مشاركين على مقاساته، وصدق من قال في الدارج العراقي:( عابَ شيءٌ لا يشبه أهله )