لا يعد بين قصار القامة ولا يحسب ضمن طوال القامة.. وإنما هو بين بين.. اسمر الوجه تخالط سمرته حمرة خفيفة تجعل لونه رائقا عذبا.. وهذه الحمرة هي دليل الحيوية والنشاط وكثرة الحياء..
بعيد ما بين الكتفين تعرفه موليا كما تعرفه مقبلا، يترنح في مشيته ذات اليمين واليسار، هادئ السعي بطيء الحركة الى حد الجمود.. له نظرات نفاذة من عينينه السوداوين وهما سر جاذبيته بسوادهما ووسعهما وبريقهما..
جمهوري الصوت في القائه تمطيط وترجيع وتحريك.. لذا فالجميع يعرفون الدكتور مصطفى جواد إذا ألقى حديثا من دار الإذاعة ولو لم يذكر اسمه.. وحتى إذا ألقى عنه بالنيابة فيعرف له أيضا لكثرة ما يردد في أحاديثه من الأسماء الطويلة العويصة الغريبة على السمع والذوق.. وقد مثلت مرة فرقة الزبانية من دار الإذاعة رواية هزلية على طريقة إلقاء الدكتور مصطفى جواد فكانت نكتة الموسم.
يسير رخوا والابتسامة لا تفارق شفتيه ورجلاه ترسم في الطريق نصف دائرة لكثرة ما يبعثها يمينا ويسارا. وندر أن شاهدته مسرعا في سيره وإنما هو يمشي رخوا هادئا مبتسما ذاهلا إذا كان مشغولا بالبحث عن كلمة جديدة او مفاجأة لغوية حديثة.
الدكتور مصطفى جواد الآن عضو في المجمع العلمي العراقي وفي المجمع العلمي العربي بدمشق وأستاذ في دار المعلمين العالية منذ آكثر من (15) سنة وآخر ما قام بتحقيقه ونشره من الكتب هو كتاب (الجامع الكبير) لابن الأثير وهو الآن في سبيل إصدار كتاب في (فقه اللغة على الأصول العلمية الحديثة).
يقول الدكتور مصطفى جواد انه ولد سنة (1904) أي أن عمره الآن (52) عاما في حين أن الدكتور علي الوردي الذي يدخل الآن في شيخوخته المباركة كان تلميذا للدكتور مصطفى جواد في الابتدائية ما بين سنتي 1927 – 1928 ويعلل الدكتور مصطفى جواد هذا بأنه كان معلما مبكراً وكان الدكتور الوردي متاخرا ولا غرابة اذا تساوي عمر المعلم والطالب..
ولد الدكتور في (دلتاوة) قضاء الخالص الآن وكان في بدء كتاباته يوقع هكذا: (خادم العرب ولغتهم مصطفى جواد) وتوقيعات اخرى لا مجال لذكرها الآن لأنها تكاد تكون مضحكة في هذه الأيام.
يروي الدكتور الوردي انه عندما كان طالبا في الابتدائية ومعلمه الدكتور مصطفى جواد انه كان يحلق رأسه بالموس (نمرة صفر) كمودة طلاب ذلك الزمان ومرة اعتدى عليه احد الطلاب بنقره على (صلبوخته) بأصابع يده فشكاه للدكتور مصطفى جواد وكان في ذلك الوقت يحمل في يده (كرباجا) مطاطيا فعاقب الطالب بضربه عدة (قرابيج) ومع كل (قرباج) كان يقول له يا (مستبعر) يا (مستحمر) يا (مستبقر) إلى آخر الكلمات و(القرابيج). ويقول الوردي إن هذه الحادثة كانت من الحوادث النادرة التي يعاقب فيها الظالم على ظلمه..
تقرع على الدكتور مصطفى جواد باب داره وهي دار متواضعة قرب ساحة الوصي فيخرج اليك وبيده قلم حبر وبالأخرى ورقة ليبرهن لك انه أما مشغول او قام على عجل ففتح لك الباب، أما إذا استعرت منه كتابا فلا يمكنك أن تقرأه لكثرة ما تجد عليه من الهوامش باللون الأحمر، ولا يزال الدكتور يحب الكتابة على: (ركبة ونص)..
زار لندن ومصر وباريس وأميركا ومدنا أوروبية وشرقية أخرى.. ويتحدث عنه خلصاؤه بان نساء مصر وباريس اعجبن بالدكتور كثيراً.. ونحن لاندري اي جانب من جوانب شخصيته كان موضع إعجابهم ولكن الذي ندريه أن الدكتور يتذوق الجمال وينشده ويبحث عنه ويتهالك عليه.. وله ذكريات رائعة في باريس وحماماتها وغزلانها النفارة.. وله صبوات وبدوات في القاهرة ولندن. وقد ترك في أكثر عواصم الدنيا قلوبا تهتز وتضطرب لذكراه.
الدكتور مصطفى جواد لغوي وباحث قل أن يجاري وهو معجم العراق في اللغة وجغرافية الأماكن والأشخاص وتلفونه مشغول ليل نهار في الرد على السائلين والمستفسرين والمعجبين والمفتونين بأدبه وخلقه السمح الرضي.. وهو زاخر المعلومات ولكنه صعب العبارة غير مشرق الديباجة تعجبك وتدهشك معلوماته ولكن أسلوبه لا يرضيك فهو معقد غير واضح يحشر فيه كلمات وعبارات اصلب من الحجارة على القلب والفؤاد والذوق.. وهو شاعر أيضا ومن حسن الحظ انه مقل ولو جئنا بنماذج من شعره هنا على أكثر القراء.
للدكتور مصطفى جواد شهرة مدوية في البلاد العربية ولدى دوائر الاستشراق في العالم ببحوثه وكتبه القيمة وتحقيقاته النادرة ويعرف له أدباء مصر مكانته العلمية ولازلت أتذكر محاضرته في القاهرة عن المآخذ في كتاب النثر الفني للدكتور زكي مبارك حيث أدهشت كل أديب في مصر. والدكتور علم من إعلام اللغة والفصاحة والبلاغة والبيان وفخر العراق في التفكير ودقة البحث.
ناعم نعومة الحري إذا لمسته.. ولكنه يكون كالموج الهدار إذا أثرته، قليل الاختلاط، يبتعد عن الخصومة ويمقت الضجيج والإعلان عن نفسه ولا يسعى وراء منصب.. طيبة في القلب وسلامة في الخلق.. حلو المعشر طريف الحديث خفيف الروح رفيق النفس نبيل اللسان.. ترى فيه وداعة الحمام ولم اره مرة غاضبا وإنما في كل ما أراه أجده ضحوك الوجه يحب المداعبة ويطرفك بألوان النكت من كل لون.
وكان الدكتور مصطفى جواد من رفقاء العلامة الكرملي وكتب له كثيرا في مجلة (لغة العرب) وعند سفره الى مصر كان قد استقرض من الكرملي مبلغ (20) ديناراً احتاجها الدكتور في ذلك الوقت. وعند رجوعه من مصر الى بغداد كان في جملة مستقبليه الكرملي وكان أول سؤال وجهه للدكتور: أين العشرين ديناراً. فبهت الدكتور مصطفى جواد وأجابه حقيقة أن أخلاقك أخلاق (مطيرجية) مشيراً إلى مسكن الكرملي في سوق الغزل الذي هو رواد باعة الطيور وهواتها: وكان هذا الحادث سبب القطيعة بين الدكتور مصطفى جواد والكرملي مما سبب تشاؤمهما على صفحات الصحف والمجلات.
لا يحب أن تدفع عنه إذا صحبك في باس أو سينما أو مطعم.. يصفه بعض أصدقائه بأنه غير ميال لعمل الخير للمحتاجين إلى مساعدته ووساطته وانه يتهرب من ذلك.
له مكتبة فيها بعض المخطوطات النادرة بقلمه استنسخها في باريس ولديه بعض الكتب القيمة.. ويرتاد دور السينما، محب لأسرته وأولاده عطوف عليهم، وله شخصية مرموقة بين الطلاب والاساتذة والادباء والصحافيين.
هذا هو الدكتور مصطفى جواد وجه من وجوه العراق المشرفة.
جريدة الزمان البغدادية نيسان 1955
صورة قلمية قبل 55 عاما : مصطفى جواد
Related Posts
كتاب: احمد الجلبي في ذكراه السنوية الاولى: تأملات ما بين الرجل، والظاهرة
تاب صدر بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة الدكتور احمد الجلبي. تم توزيع بعض النسخ الورقية من الكتاب في ذكرى التأبين الذي اقيم البارحة في بغداد. الكتاب يتضمن سلسلة من المقالات التي…
ذكريات البغدادي: الحاج محمد الخشالي صاحب مقهى الشابندر
لقاء اجراه زين النقشبندييعتبر الحاج محمد الخشالي صاحب مقهى الشابندر في شارع المتنبي من أقدم من سكن وعمل في هذه المنطقة ، فهو من مواليد (1932) ، وقد كنا نلتقي…