💥صحيفة المدينة .. أول دستور في الاسلام
بقلم / د. نبيل أحمد الأمير
ونحن اليوم نسمع الصيحات والهتافات والاعلانات للدستور . . والمصالحة والتسوية التاريخية وضرورة العمل بهم ، لفرض التعايش السلمي بين مكونات المجتمع وأطيافه وأديانه ، تذكرنا صحيفة المدينة التي آخا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين وأهل المدينة من العرب واليهود .
فقد تم كتابة صحيفة المدينة فور هجرة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ – إلى المدينة المنورة ، وهو يعتبر أول دستور مدني في التاريخ ، وقد أطنب فيه المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي ، واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية ، ومَعْلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني .
إن هذا الدستور يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة المنورة ، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم ، حيث يتصدى بمقتضاه المسلمون و اليهود وجميع الفصائل لأي عدوان خارجي على المدينة .
وبإبرام هذا الصحيفة صارت المدينة المنورة دولة توافقية (وفاقية) رئيسها الرسول(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) ، وصارت هي المرجعية العليا للشريعة الإسلامية ، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة ، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر ، والمساواة والعدل .
يقول المستشرق جيورجيو :
“حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا ، كلها من رأي رسول الله . خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين ، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى ، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان .
وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية ، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم ، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء .
بنود صحيفة المدينة :
سنقف هنا وقفات سريعة على أهم معالم القيم الحضارية التي نراها جلية في هذه الصحيفة :
أولا ً: الأمة الإسلامية فوق القبلية . . .
قالت الصحيفة بالخصوص :
“إنهم [أي الشعب المسلم] أمة واحدة من دون الناس”.
وبهذا البند اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم وأنسابهم إلى الإسلام ، فالانتماء للإسلام فوق الانتماء للقبيلة أو العائلة ، وبهذا نقل رسول الله العرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة .
ثانيًا : التكافل الاجتماعي بين فصائل الشعب بمكوناته . . .
وفي هذه القيمة كُتبت البنود التالية:
“المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين” .
“وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين” .
“وبنو سَاعِدَةَ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف ، والقسط بين المؤمنين…
“وبنو جُشَمٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف ، والقسط بين المؤمنين..
“بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف ، والقسط بين المؤمنين..
“وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ..
“وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ” .
ثالثا ً: ردع الخائنين للعهود . . .
وفي هذا الحق كُتب البند التالي :
“وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعا ، ولو كان ولد أحدهم” .
وهذا نص في جواز حمل السلاح على أي فصيل من فصائل المدينة إذا اعتدى على المسلمين..
وبموجب هذا النص حُكم بالإعدام على مجرمي قريظة – بعد معركة الأحزاب (في ذي القعدة 5 هـ/إبريل 627 م ) – ، لما تحالفوا مع جيوش الأحزاب الغازية للمدينة ، وبغوا وخانوا بقية الفصائل ، على الرغم من أنهم أبناء وطن واحد .
رابعا : احترام أمان المسلم . . .
وجاء في هذا الأصل الأخلاقي البند التالي :
“وإن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس” ..
فلأي مسلم الحق في منح الأمان لأي إنسان ، ومن ثم يجب على جميع أفراد الدولة أن تحترم هذا الأمان ، وأن تجير من أجار المسلم ُ، ولو كان المجير أحقرهم .
فيُجير على المسلمين أدناهم ، بما في ذلك النساء ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأم هانئ :
” أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ ” .
خامسا : حماية أهل الذمة والأقليات غير الإسلامية . . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة ، غير مظلومين ولا متناصر عليهم” .
وهو أصل أصيل في رعاية أهل الذمة ، والمعاهدين ، أو الأقليات غير الإسلامية التي تخضع لسيادة الدولة وسلطان المسلمين . . فلهم –إذا خضعوا للدولة– حق النصرة على من رامهم أو اعتدى عليهم بغير حق سواء من المسلمين أو من غير المسلمين ، من داخل الدولة أو من خارجها .
سادسا : الأمن الاجتماعي وضمان الديات . . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل) ، وإن المؤمنين عليه كافة ، ولا يحل لهم إلا قيام عليه” .
وبهذا أقر الدستور الأمن الاجتماعي ، وضمنه بضمان الديات لأهل القتيل ، وفي ذلك إبطال لعادة الثأر الجاهلية ، وبين النص أن على المسلمين أن يكونوا جميعًا ضد المعتدي الظالم حتى يحكم عليه بحكم الشريعة .
“ولا شك أن تطبيق هذا الحكم ينتج عنه استتباب الأمن في المجتمع الإسلامي منذ أن طبق المسلمون هذا الحكم” .
سابعا : المرجعية في الحكم إلى الشريعة الإسلامية . . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله –عز وجل- وإلى محمد…
“وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله ، وإلى محمد رسول الله ، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره” .
ثامنا : حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر مكفولة لكل فصائل الشعب بمكوناته . . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته” .
تاسعا : الدعم المالي للدفاع عن الدولة وهو مسؤلية الجميع . . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين” .
فعلى كل الفصائل بما فيها اليهود أن يدعموا الجيش ماليًا وبالعدة والعتاد من أجل الدفاع عن الدولة ، فكما أن المدينة وطن لكل الفصائل ، كان على هذه الفصائل أن تشترك جميعها في تحمل جميع الأعباء المالية للحرب .
عاشرا : الاستقلال المالي لكل طائفة . . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم” .
فمع وجوب التعاون المالي بين جميع طوائف الدولة لرد أي عدوان خارجي ، فإن لكل طائفة استقلالها المالي عن غيرها من الطوائف .
الحادي عشر : وجوب الدفاع المشترك ضد أي عدوان . . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإن بينهم النصر على من دهم يثرب “.
“وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة” .
وفي هذا النص دليل صريح على وجوب الدفاع المشترك ، ضد أي عدوان على مبادئ هذه الوثيقة .
الثاني عشر : النصح والبر بين المسلمين وأهل الكتاب . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم”[22].
فالأصل في العلاقة بين جميع طوائف الدولة ، مهما اختلفت معتقداتهم ، هو النصح المتبادل ، والنصيحة التي تنفع البلاد والعباد ، والبر والخير والصلة بين هذه الطوائف .
وقد اشتملت الدستور على قيم حضارية أخرى .
الثالث عشر : حرية كل فصيل في عقد الأحلاف التي لا تضر الدولة . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه”[23] .
الرابع عشر : ووجوب نصرة المظلوم . .
وجاء في هذا الأصل :
“وإن النصر للمظلوم.” .
الخامس عشر : وحق الأمن لكل مواطن . .
“إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة ، إلا من ظلم وأثم ، وإن الله جار لمن بر واتقى ، ومحمد رسول”.
هذه بعض معالم الحضارة الإسلامية في دستور المدينة، تبين لك كيف سبق النظامُ الإسلامي جميع الأنظمة في إعلاء قيم التسامح والتكافل والحرية ونصرة المظلوم .. وغيرها من القيم الحضارية التي يتغنى بها العالم في الوقت الراهن دون تفعيل جاد أو تطبيق فاعل .
نص ميثاق صحيفة (دستور) المدينة :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو الحارس (من الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو سعادة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
وبني الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وأن لا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه .
وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم .
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن .
وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم ، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم .
وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم .
وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهم بعضا ً.
وأن المؤمنين يبئ بعضهم عن بعض بما نال دماؤهم في سبيل الله .
وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه .
وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن .
وأنه من اعتبط مؤمناً قتلاًَ عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولى المقتول (بالعقل) ، وأن المؤمنين عليه كافة لا يحل لهم إلا قيام عليه .
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه ، وأنه من نصره أو أراه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل .
وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد .
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته .
وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف .
وأن ليهود بن الحارث مثل ما ليهود بني عوف .
وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف .
وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف .
وأن ليهود بني الأوس مثل ليهود بني عوف .
وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته .
وأن جفته بطن من ثعلبة كأنفسهم.
وأن لبنى الشطبية مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم .
وأن موالى ثعلبة كأنفسهم .
وأن بطانة يهود كأنفسهم .
وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد .
وأنه لا ينحجز على ثأر جرح ، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا .
وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم .
وأنه لا يأثم أمره بحليفه وأن النصر للمظلوم .
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة .
وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وأن لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها .
وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره .
وأن لا تجار قريش ولا من نصرها .
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب .
وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه ، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين .
على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم .
وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره .
وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو آثم ، وأن الله جار لمن بر واتقى ، ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .