يحظى الناس في شهر رمضان الكريم، بالحقوق والامتيازات المجانية أو شبه المجانية، سواء كانت تلك البركات تأتي من الله مباشرة أو تأتي من الناس الآخرين ممن حثهم الله على البذل والعطاء، وسواء كانت تلك الحقوق مادية تقدم على شكل غذاء أو ملبس أو أموال، أو معنوية على شكل تربية وتزكية للنفس، وتنظيم الوقت، والاهتمام بالصحة، وتحسين الصلات والعلاقات مع أفراد المجتمع، وسواء قدمت هذه الحقوق في الدنيا أو أجلت إلى الآخرة، كجزء من سياسة التحفيز الرباني على عظيم الأجر الذي يحصل عليه الإنسان في الحياة الأخرى.
ما هو شهر رمضان؟ ولماذا يحظى بهذا القدر الكبير من الاهتمام عند المسلمين؟ وما هي الحقوق التي يحصلون في مقابل التزامهم بالتعبد لاسيما الصيام؟ وماذا ينبغي أن يؤدي الناس لكي يحصلوا على حقوق وامتيازات من الله والعباد معا؟ وكيف يمكن أن نستقبل رمضان ونودعه كشهر له هذه المنزلة الرفيعة؟
يُعد شهر رمضان أفضل شهور السنة عند المسلمين، وهو يحتلُّ التَّرتيب التَّاسع في التَّقويم الهجريّ، فيقع ما بين شهريّ شعبان وشوّال، وهو شهر الصيام والامتناع عن تناول الطعام والشراب لمدة معينة من الوقت، والتي تكون من آذان الفجر وحتى غروب الشمس، كواحدة من العبادات التي تقرب المسلم من ربه، وتزيد في حسناته وتدخله الجنة.
ومما جاء في القرآن الكريم عن شهر رمضان، قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام) أنه قَالَ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، فَغُرَّةُ الشُّهُورِ شَهْرُ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ وهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ، وقَلْبُ شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، ونُزِّلَ الْقُرْآنُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَاسْتَقْبِلِ الشَّهْرَ بِالْقُرْآنِ. وعنه أيضا: شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يُشْبِهُهُ شيء مِنَ الشُّهُورِ، لَهُ حَقٌّ وحُرْمَةٌ، أَكْثِرْ مِنَ الصَّلَاةِ مَا اسْتَطَعْتَ.
يحصل المؤمنون الصائمون والعابدون-في شهر رمضان-على ثلاثة حقوق، هي: حق البركة، وحق الرحمة، وحق المغفرة، وهي من أعظم الحقوق التي تفضل بها الله على عباده المطيعين لأوامره وخصهم به. ففي خطبة النبي (ص) (أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ. هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ. أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ).
ولكن لا يحصل الناس على هذه الحقوق من البركات والرَحَمات والغفران التي أقامها الله لهم مالم يؤدوا جزء من الذي عليهم من الواجبات والالتزامات إزاء الناس الآخرين: مثل حسن الخلق، وحفظ اللسان وكف الشر عن الناس، وصلة الأرحام، والتصدق على الفقراء والمساكين، وإكرام الايتام، والتطوع للصلاة المستحبة والإكثار منها، وقراءة القرآن الكريم، وغيرها.
فقد قال رسول الله: “أيها الناس من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازا على الصراط ويوم تزل فيه الأقدام، ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحما وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور”.
يقول أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام): عَلَيْكُمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِكَثْرَةِ الاسْتِغْفَارِ والدُّعَاءِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ فَيَدْفَعُ عَنْكُمُ الْبَلَاءَ، وأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَتُمْحَى بِهِ ذُنُوبُكُمْ.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) «إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحدهما، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم عمّا حَرَّمَ الله، ولا تنازعوا، ولا تحاسدا، ولا تغتابوا ولا تسابّوا، ولا تشاتموا، ولا تظلموا، واجتنبوا قول الزور، والكذب والخصومة، وظنّ السوء، والغيبة، والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة، منتظرين لأيامكم، منتظرين لما وعدكم الله، متزوّدين للقاء الله، وعليكم السكينة والوقار، والخشوع والخضوع، وذلّ العبيد الخيف من مولاها خائفين راجين».
وفي الواقع، يمكن لكل إنسان أن يستفيد من أجواء شهر رمضان المبارك، ويغير حاله نحو الإحسان، أو يشارك في تغير حال الآخرين نحو الأفضل، أو يقوم بمبادرة اجتماعية ما من شأنها أن تعزز ببيئة الأواصر الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فالظروف متهيئة لتنبي أعمال الخير والبر بعيدا عن الحسابات النفسية والمادية. فمهما كان الإنسان بعيداً عن الخير والصلاح والتقوى، يمكنه أن يستفيد من أجواء شهر رمضان المبارك لتغيير نفسه، فإن الله تعالى أودع هذه القدرة في الإنسان، وشهر رمضان فرصة مناسبة جدّاً لهذا الأمر.
وكذلك يجب أن يسعى المؤمنون إلى تغيير حال الفقراء نحو الأفضل، وينبغي العمل الدؤوب على مساعدتهم في بناء أنفسهم بالصورة التي تليق بالإنسان المؤمن، لاسيما أن هذا الشهر الفضيل يساعد على ذلك، فهو مليء بأجواء الإيمان، وقد جعله الله تعالى شهراً للخير والكرم والتعاون بين الجميع.
يقول المرجع السيد صادق الشيرازي: إن كل مؤمن في هذا الشهر الكريم (شهر رمضان المبارك) قد جُعل من أهل كرامة الله تعالى. وهذه الكرامة لا تخصّ الصائمين فقط بل هي لكل مؤمن، سواء أكانت وظيفته الصيام فصام، أم لم تكن وظيفته الصوم كالمسافر والمريض. إن هذه الكرامة هي لهذا الشهر الكريم، للياليه وأيامه، وكل ساعاته. فالعناية الإلهية تشمل الجميع، ولكن من صفات الله تعالى المهمة وأسمائه الحسنى «الحكيم» أي إنه تعالى يضع الشيء في موضعه، وهذا معناه أن التوفيق الإلهي وإن كان شاملاً في شهر رمضان لكل العباد، ولكن قدراً منه يرتبط بمقدار همتنا وتوجهنا وجهدنا. فعلى الإنسان أن يحاول في هذا الشهر المبارك أن يعمل حتى يبلغ مرحلة يعتقد فيها أنه تغيّر فعلاً وأنه أصبح أحسن وأفضل وأن فرقاً حصل عنده.
نخلص مما تقدم
إن شهر رمضان فرصة ربانية ونفسانية واجتماعية واقتصادية، هيئها الله تعالى لعباده جميعا دون استثناء، ويستطيع أي إنسان رجلا كان أو امرأة، غنيا كان أو فقيرا، أن يستثمرها أيا استثمار نحو تغيير الذات وتغيير العلاقات.
لا شك أن كل إنسان يتمنى لنفسه التغيير نحو الأفضل، ولكن المسألة ليست بالأماني، فبالأماني وحدها لا يتحقق التغيير، بل هو بحاجة إلى عزم وتصميم ومتابعة ومثابرة وجدّ واجتهاد. فهل يعقل أن يضع الإنسان نفسه موضع الرحمة بأن ينبري لطاعة الله والتقرب إليه، ثم لا يرحمه الله؟! حاشا لله، فهذا محال في منطق الحكمة والعقل، ولا إمكان له، فضلاً عن الوقوع، ولكن على الإنسان أن يصدق مع نفسه ويسعى في هذا المجال. يقول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «من طلب شيئاً ناله أو بعضه».
إن الصلوات والأدعية والزيارات والأعمال الواردة في شهر رمضان المبارك بنفسها معدات لتحقق بناء الذات، فليخصص المرء كل يوم من شهر رمضان بعض وقته يخلو فيه، ويراجع ما مضى منه خلال الساعات الماضية، فينظر ما عمل وما قال وما سمع وما رأى وما أخذ وما أعطى، وكيف تصرف مع زوجته وأطفاله وأصدقائه وزملائه؟ وباختصار فيم صرف وقته؟ فيصمم على أن يزيد من حسناته ويقلل من سيئاته.
إن الإسلام يريد منا أن نتحسس وضع الفقراء والمحتاجين والمعوزين، وألا نهدر أموالنا فيما لا يرضي الله، فأموالنا يجب أن نصرفها في مرضاة الله ولا نهدرها بالحرام، بل نساعد بها أصحاب الحوائج حيثما أحوجتهم الحاجة، خصوصا أولئك الذين يعوزهم الطعام، ولذا جاء من مستحبات شهر رمضان إفطار الصائمين لقول النبي (ص) (أيها الناس مَن فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه). فيكف بإعالة عائلة واكساء جماعة من المؤمنين وما أكثرهم في هذا الوقت.