د. احمد غالب الشلاه/مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية

 

يشير مفهوم التحول الديمقراطي الى عملية الانتقال من الحكم السلطوي الى الحكم الديمقراطي، وبذلك فهو يعني وجود مرحلة وسط بين نظامين من خلال المرور بعملية تفكك للنظام الديكتاتوري وصولاً الى ترسيخ دعائم الحكم الديمقراطي، حيث يشترط في الاخير ان يرتكز على جملة اسس (متطلبات) ابرزها تحقيق مفهوم الدولة القانونية (أي دولة المؤسسات)، واقرار مبدأ التعددية السياسية القائمة على التداول السلمي للسلطة، فضلاً عن وجود مجتمع مدني فاعل ومستنير، وثقافة سياسية تؤمن بمبدأ الديمقراطية فكراً وسلوكاً.

وبناءاً على متطلبات التحول الديمقراطي يحدد (فرانسيس فوكوياما) اربعة مستويات يمكن بناءاً عليها تعزيز عملية التحول الديمقراطي، وهذه المستويات هي: المستوى الاول وهو المستوى المعياري (الاكثر سطحية) الذي يقوم على الايمان المبدئي بالشرعية الاخلاقية للديمقـراطية، والمستوى الثاني وهو مستوى المؤسسات السياسية اللازمة للتحول الديمقراطي، اما المستوى الثالث فهو الذي يشتمل على المجتمع المدني (الطوعي والاستقلالي) الموجود خارج نطاق سيطرة الدولة، ثم يأتي المستوى الرابع والاخير وهو مستوى الثقــافة السيــاسيــــة (الاكثر عمقاً) والذي يتضمن تبلور وعي سياسي قادر على استيعاب مفهوم (الديمقراطية) بكل ما تنطوي عليه هذه المفردة من منظومة قيمية، وبشكل يكون مبنياً على اساس فكرة المواطنة وليس على اساس الانتماءات الفرعية.

وبالتطبيق على الواقع العراقي، وإنطلاقاً من فرضية (فوكوياما) في التحول الديمقراطي نجد ان مستقبل التحول الديمقراطي في العراق في خطر بسبب عدم اشتماله على الاسس والمقومات (السالفة الذكر) اللازمة لذلك التحول.

 واذا ما كان العراق قد لامس في عملية تحوله نحو الديمقراطية المستويات الثلاثة الاولى وإن كان بشكل سطحي (فوقي) لا يعبر سوى عن مظهر دون الجوهر، فأن المستوى الرابع (الثقافة السياسية) لا يزال هو العقبة الاكبر بوجه عملية التحول تلك بسبب عدم تبلور مفهوم الديمقراطية – لحد الان- في الوعي الجمعي العراقي ولأن هذه الديمقراطية لم تكن وليدة بيئتها، وبالتالي لم تكن تعبر عن خصوصيات المجتمع العراقي. فلقد شهد العراق عملية تحول نحو الديمقراطية تمت بعد اسقاط النظام الشمولي فيه في التاسع من نيسان 2003 لكن هذا التحول لم يتم بفعل داخلي وعلى اياد وطنية بل انه جاء بفعل تدخل خارجي على يد الولايات المتحدة الامريكية وبالتالي فأن هذا التحول لم يكن حصيلة تطور داخلي ولم يتأت على شكل صيرورة اجتماعية- سياسية وانما تم فرضها من اعلى ولم يسمح للديمقراطية ان تنبت في التربة المناسبة لها.

ولو اخذنا فرضية (روبرت دال) حول التحول الديمقراطي والذي يرى فيه بأن ((تنافس النخبة الذي يسبق المشاركة الشعبية قد يوجد بعض الخبرة للانتقال للديمقراطية)) لوجدنا ان معظم اعضاء النخبة الحاكمة لايزالون يعانون من قصور واضح في فهم الديمقراطية، لابل انهم يحاولون في كثير من الاحيان القفز على قواعدها وسلوكياتها من خلال فرض رؤية واحدية الامتثال والسلوك.

هذا على صعيد النخب، اما على صعيد الجماهير فأن عامتهم بات يشكك في الشرعية الاخلاقية للديمقراطية التي جاءت بها الولايات المتحدة والغرب بفعل ما افرزه واقع الاحتلال من محاصصات عرقية وطائفية كانت المواطنة العراقية هي الخاسر الاكبر فيه.

أما على صعيد المأسسة السياسية (المستوى الثاني) فعلى الرغم من ان العراق قد تمكن من ان يقطع شوطاً مهماً نحو قيام بنية مؤسسية (الهيئات التشريعية، التنفيذية، مؤسسة الدستور) إلا ان تلك المؤسسات لا تزال تفتقر الى الاستقرار والفعالية بسبب غياب قاعدة اساسية من الثقة بين اعضاء النخبة السياسية الحاكمة وجعل تلك المؤسسات خاضعة للتوافقات والتساومات، الامر الذي اصاب عملها بالشللية مما افرغ القيمة الديمقراطية لتلك المؤسسات من مضمونها الحقيقي.

وبخصوص المجتمع المدني (المستوى الثالث) فلا يزال التقليدي في العراق يطغى على الحديث والعصري. صحيح ان انخراط المؤسسات التقليدية (المؤسسة العشـــائرية، المؤسسة الدينية) في العملية السياسية يمثل الشرط اللازم للحراك الاجتماعي الذي يمثل بدوره الشرط اللازم للحراك السياسي المطلوب للتحول الديمقراطي، الا ان طغيان منظومة القيم التقليدية لتلك التنظيمات على منظومة القيم الديمقراطية قد وقف حائلاً بوجه تحقيق السلوك السياسي المدني للدولة العراقية التي تمر بعملية تحول نحو الديمقراطية.

واذا ما علمنا بأن الثقافة السياسية هي اكثر المستويات عمقاً، والتربة الأكثر صلاحية لغرس البذور النابتة للمؤسسات الديمقراطية -بحسب فوكوياما– وان الثقافة السياسية كعادة اخلاقية لا تتغير بسرعة وانما مع تقدم الاجيال من خلال انتقال التقاليد والاعراف، فأننا سنكون امام النتيجة المنطقية وبناءاً على المعطيات السابقة الذكر بأن التحول الديمقراطي في العراق لم يتحقق بعد لأنه لم يجد الشروط الموضوعية الملائمة لإنباته لا سيما الاستعداد النفسي والذهني اللازم لإنضاج المشروع الديمقراطي، فلا ديمقراطية من دون وعاء يحتويها وينضجها وينميها على صعيد الفكر والسلوك والممارسة. يمكن ان نكون الان في مرحلة التحول نحو الديمقراطية ولكننا لسنا في مرحلة تحول ديمقراطي.

كما نعتقد أن التحول الديمقراطي في العراق لن يتحقق في المستقبل القريب بل انه يحتاج -على اقل تقدير- الى اكثر من جيل ولعقود عديدة لاحقة.

لكن علينا أن لا نصاب بالإحباط طالما ان هنالك بادرة امل لتحقيق ذلك مستقبلاً – وان كان على المدى البعيد- فما هو غير قابل للتحقيق اليوم يمكن ان يتحقق مستقبلاً شريطة أن يتم تشذيب سلبيات المرحلة الحالية، واتباع الاجراءات التالية التي تختزل المدة الزمنية اللازمة للتحول الديمقراطي وهي:

1- العمل على مأسسة الدولة والابتعاد عن شخصنتها وذلك يفترض وجود مؤسسات ثابتة ومستقرة تتمتع بصفة الفاعلية وان عليها ان تخرج من حالة الشللية التي هي عليه الان.

2- بناء قاعدة اساسية من الثقة بين القيادات والنخب السياسية الموجودة على الساحة لكي ينسحب ذلك الامر على العلاقة بين التكوينات الاجتماعية والمذهبية والدينية.

3- تفعيل دور المجتمع المدني باعتباره المقوم الرئيسي الذي تستند عليه عملية التحول الديمقراطي لما يقوم به من دور في الحد من الاستبداد السلطوي للحكومة ومراقبة عملها بشكل مستمر لئلا تتجه نحو الاستئثار والانفراد.

4- الاهتمام بالتعليم لما له من دور بارز في تعزيز عملية التحول نحو الديمقراطية، حيث من خلاله يمكن نشر ثقافة سياسية مساهمة، ونشر قيم التسامح والحوار والقبول بالآخر، بالشكل الذي ينشئ جيلاً جديداً متشرباً بمبادئ الديمقراطية ليأخذ على عاتقه بدوره ترسيخ مبادئ الحكم الديمقراطي بما يعود بالنفع على العراق والعراقيين اولاً واخيراً.