مخيم يروي حكاية الليالي التي اطفأت دف ء الكلمات، صوب رائحة البلاد المستباحة
..سنون مرت لم تكن تخلو من الجوع وأكواب البكاء على ريح البلاد ، حجبوا عنهم ضياء الشمس وأغلقوا كل الشبابيك ..
الجرح عميق .. قلوب ٌ ضاعت في الشتات تفيح بريح الفقر والشقاء ، وحوش الليل قتلوا صوت الأنين ، والعالم الحضاري يترك الدم يجري كالماء وسط ركام القهر ، ويبقى أناس المخيم يحفرون في صخر الجبال قصصا ً ويرسمون لوحات لا تغادر الذاكرة .. لا يمكن للذئب أن يغدو انسانا ً ويستحيل أن يصبح الثعلب قاضيا ً ..
رواية صبحي فحماوي ” سروال بلقيس ” (مكتبة كل شيء ، حيفا ،2014) ترتبط بالحدث العميق في مسيرة الشعب الفلسطيني ومسار قضيته ، وهي نكبة 1948 .. تشتّت أبناء الوطن الواحد في جهات الأرض الأربعة لا يعرفون لماذا.. والى متى ؟!..
” سروال بلقيس ” تحمل الكثير من الألم والتشرد والنزوح ، هذه الحالة التي عاشها الفلسطيني في بداية هجرته والتي أستمرت معه منذ أيام الخيم التي عاشها في بيوت الصفيح فكان حرها يأكل جسده صيفا ً ويقرصه بردها شتاء ً ..
تتألف رواية ” سروال بلقيس ” من فصل استهلالي قصير غير مرقم وسبعة فصول مرقمة من ” 1 – 7 ” ..
امرأة خمسينية العمر أسمها ” بلقيس ” تدور حول نفسها بعمل شاق تقطف الأعشاب البرية وجمع حبات الزيتون وهي الفرصة الوحيدة المتاحة ايضا أمام نساء المخيم لكسب أقوات عيالهن .. وحمدة المحمودية الأرملة الأربعينية التي أستشهد زوجها وترك لها ثلاثة أطفال ، كيف تستطيع أن تطعم أطفالها وتكسو عريهم وتحميهم وتتساءل من يساعد أرملة الشهيد على مواصلة الأنفاق على أيتامه وجعلهم يواصلون حياتهم بكرامة .. وصالحة السمراء الثلاثينية المتعلمة والنازحة مع زوجها أبو خضر من مدينة الناصرة ..
أما عن الرجال فلا تجد لديهم فرصة عمل الا الأعمال الشاقة ومكانها الوحيد هو كسارات الحجارة التي كان معظمها في السابق ملكا للشؤون العسكرية الأنجليزية ، ولكن في واقعة الهجرة دخل رجال المخيم الى الأشغال الشاقة بأرجلهم ..
حين يكون الجرح على هذه الدرجة من الفداحة فان الألم سيأخذ مداه في الحنين الى فلسطين كوطن لا تزال صورته ماثلة في الروح ، فاللاجئ الفلسطيني ليس مجرد مواطن خسر أرضه ولو الى حين ، بل انه بخسارة الأرض خسر أمانه الشخصي حتى أنه أصبح عاجزا ً عن التنقل بين البلاد كباقي البشر ، أن اللجوء الفلسطيني أخذ بعدا ً رمزيا ً بموازاة وطأته الواقعية .. كان لمخيم اللجوء من وجهة الأعداء مهمة
محددة هي أن ينقرض الفلسطينيون وينتهوا ..
وصف الروائي صبحي فحماوي في ” سروال بلقيس ” قوة المرأة الفلسطينية وأظهار معالمها وأبراز سماتها النفسية والأجتماعية من ناحية تكاتف المرأة والرجل في تحمل أعباء التهجير والتشتت الفلسطيني في بوتقة المخيم ، في البحث عن لغة العيش من أجل البقاء ..
يقول غسان الشكعة :
” عند الحديث عن المخيمات الفلسطينية ، فان ذلك يعني الحديث عن مأساة شعب وأمة كاملة ، فمئات الآلاف الذين هجروا وشردوا من بيوتهم وأراضيهم في النكبة الأولى والثانية وطردوا من القمع والتنكيل ليعيشوا مرارة الغربة وقسوة الحياة والظروف الجديدة التي وجدوا أنفسهم مكرهين عليها ويحملون الأمل بالعودة يوما ً الى أرضهم ووطنهم وبيوتهم ” ..
لم تكن هذه العذابات كلها لتتم الا لهدف البقاء ، مجرد البقاء ، وذلك لتوفير الماء والطعام ، والابقاء على أضعف الايمان من صور الكرامة ، فالجوع الكافر يتحرك في أمعدة اللاجئيين كلهم ، فكيف بالأطفال الذين ينتظرون الغذاء لينمون ، وبالكبار الذين يحتاجون الغذاء لمواصلتهم العمل والحياة ، وتحمل مسؤولياتهم ، وأما عن العجائز الآملين بطول العمر وبرحمة ربنا ، والذين لا يجدون الدواء لآلامهم وأمراضهم ، فهم أكثر الناس انتظارا ً للقمة تسد رمقهم وتحقق لهم البقاء ، مجرد البقاء ، ولو موجوعين مرضى ..
يشكل كل من المكان والزمان أحد المكونات الأساسية في بناء الرواية ، أن المكان هو عالم الثوابت بينما يندرج الزمان في عالم المتغيرات ..
يصور الروائي صبحي فحماوي المكان كخصوصية بالنسبة للرواية والتي تتحدث عن مكان مغتصب وعن أمكنة اللجوء بين حلم الوطن وحقيقة المنفى ..
لقد غطت رواية ” سروال بلقيس ” الكثير من المساحات الزمنية أثر نكبة 1948 وكيف ترك الروائي صبحي فحماوي الزمن ليضع بصمته على شخصياته ..
فالشخصية هي المحور الرئيسي في أطار العمل السردي ، فالحوار هو حديث الشخصية والشخصية تتحرك ضمن الفضاء الزماني والمكاني .. فقد استطاع صبحي فحماوي أن يضبط حركة شخوصه وخاصة شخصية بلقيس بما يلائم ما أسند اليها من دور في الرواية ، فهي جادة التصرفات ودائمة المبادرة لعمل شيئ من أجل أنقاذ ما يمكن أنقاذه .. فنراه ينفذ الى أعماق الشخصية ويستنبطها ويثريها بالنمو والمفاجأة ، وهناك شخصيات ثانوية أهميتها كأهمية الملح للطعام وهي تتطلب نوعا ً من التوازن بينها وبين شخصية البطل ، ومنها شخصية ابو مرزوق والذي يعمل في كسارة أبو شهوان الواقعة بين المخيم والمدينة ، وشخصية أبو خضر البغل وجسده الطويل والضخم وشواربه الكثة الغليضة وشعروجهه يتشابك مع رأسه.
وهناك شخصيات بسيطة تخلو من التعقيد والمفاجأة وتتميز بطابعها الفكاهي وتساعد على حركة الشخصية المستديرة ، ومنها شخصية أبو حشيش وأبو كرش تلاقيهم دائما يتصايحون بالكلام القذع ، الأقسى من القسوة ، ليس لقبح أخلاقهم أو فواحش أجتماعية متأصلة فيهم ، ولكن ليتناسوا همومهم العائلية ومآسي الزمن الرديْ الذي داهمهم فجأة وتجد رؤوسهم مدفونة في ورق اللعب ..
وهناك الشخصية النمطية والتي كانت مجرد رمز يرمز الى صفة من الصفات بحيث لا يشعر القارئ بالشخصية ذاتها وأنما يحس بالصفة أو السمة التي يريد الكاتب أظهارها ، كما في شخصية مسعف الشاب الصبي الوسيم الذي التقى بحمده المحمودة تحت شجرة وارفة الظلال في موسم الزيتون .. وشخصية طائل الهلباوي والذي يعمل مراقب عمال في كسارة أبو شهوان ، ووحيد أبن الأرملة الذي أستشهد والده على يد المحتلين لفلسطين ..
هكذا عشنا في المخيم ، هذا المكان الصغير في مساحته والممتد عبر تضاريس متعددة في فلسطين وخارجها .. المخيم كلمة لم تكن كلمة عادية في قاموس الشعب الفلسطيني ، ولم تمر على الأدباء مرورا ً عابرا ً ، كيف ولا هم من أبناء هذا الشعب يعيشون معه كل لحظة ويعايشونه في كل تجربة ..
* ” سروال بلقيس ” رواية للروائي صبحي فحماوي
الناشر : مكتبة كل شيئ ــ حيفا
الغلاف : للفنانة الفلسطينية ــ ريما المزين ــ
الطبعة الأولى 2014 ..
بقلم: توفيق الشيخ حسين