– عجيبة، يا أم بشارة.. استيقظي.. القديسة العذراء الممتلئة بالنعمة… بارك الله اسمها… باركت بيتنا. استيقظي يا أم بشارة.. !!
انطلق صوت أبو بشارة من المفاجأة غير المتوقعة، لم يصدق ما تراه عينيه واخذ يردد مبتهلا:
– مريم العذراء يا اُمي الحنونة، كم من مرةٍ اخطأتُ وتُسامحيني
وكم من مرةٍ ابتعدتُ عنكِ وعندما أعودُ بكُلِ شوقٍ تستقبليني.
لم يسمع قط ان احداً التجأ إلى حمايتِك وطلب معونتكِ ورُدّ خائباً
هكذا انطلق صوت أبو بشارة في فجر احد الأيام، من المفاجأة غير المتوقعة، كان ينظر مذهولا الى تمثال السيدة العذراء، المثبت في زاوية احد عمدان البيت، غير قادر على تصديق ما تراه عينيه، من زيت زيتون فاخر، يرطب قاعدته، في البداية لامس السائل بأصابعه، طأطأ رأسه ليتأكد بالشم أيضا أن الزيت الذي يرطب قاعدة تمثال السيدة العذراء التي اختارها الله لتلد ابنه المخلص، هو زيت الزيتون المقدس حقا، يمتد الزيت من قاعدة التمثال حتى نصف متر على الأقل تحت القاعدة، حيث وضع تمثال السيدة العذراء داخل حفرة شقت خصيصا منذ أيام والده ليوضع فيها تمثال العذراء المكرمة.
كان الزيت يتزايد ببطء شديد.. تأكد هذا حين جفف قاعدة التمثال بفوطة خوفا من ان يكون ما يراه خدعة بصرية.
هو حقا زيت الزيتون المبارك كنسيا، تأكد له هذا الأمر باللمس والشم، بل وبتذوقه لأطراف أصابعه لمزيد من التأكد.
ارتعشت قسمات وجهه، بانت السعادة على محياه من هذه المفاجأة في هذا الصباح الربيعي المشرق. كان متأكدا أن دعواته وصلواته هو وأهل البيت وجدت آذان صاغية عند العذراء، ها هي الإشارة تجيئ في هذا الفجر الزاهي دليل على ان الله يرعاه ويرعى أهل بيته،لأن الله يعرف ما في القلوب والضمائر ولا تضلله المظاهر والخدع، ها هو التأكيد يجيء من حيث لم يتوقع بابلغ شكل واقوى صورة، زيت الزيتون المقدس “يطفطف” من تحت تمثال السيدة العذراء ويرطب قاعدته وعمود البيت حيث حُفر فجوة داخل العامود المقابل لمدخل البيت، ليتسع لتمثال السيدة أم المسيح ابن الله ليتبارك اسمها واسمه واسم الرب، تماما في مواجهة كل من يدخل بيت أبو بشارة.
لا يعرف إذا كان قد كرر ندائه لأم بشارة أكثر من مرة، فقد أيقظ صوته المنفعل مما يرى والمرتعش من المفاجأة جميع أهل البيت.
تجمعوا في الديوان الرحب متثائبين من إيقاظهم ساعتان قبل الوقت، متوجسين من أمر غير مرغوب لا يدرون كنهه، قد تكون حالة مرضية ألمت بأب البيت، فهم لم يستوعبوا من صوته المتهدج إلا أنه حدث ما يثير التوجس من مكروه، أو مفاجأة لا يعلمون وقعها جعلت أب البيت الذي يستيقظ قبل الجميع بساعتين على الأقل يطلق صوته المنفعل في ساعات مبكرة من ذلك الفجر الزاهي.
لم تمض إلا ثوان قليلة حتى أصابهم ما أصاب أب البيت وعمدته من المفاجأة السارة لمرأى السيدة العذراء تبارك بيتهم بزيت الزيتون المقدس، “هي علامة لاستجابة الرب لأبنائه المخلصين” كما كان يقول بتهدج وتوتر من السعادة عمدة العائلة أبو بشارة.
نسوان الحارة هن أول من عرف بخبر العجيبة… والنساء لمن لا يعلم هم أفضل جهاز إعلامي عرفته البشرية. في ذلك الصباح أسرعت ام بشارة تدعوا جاراتها لتناول قهوة الصباح ورؤية عجيبة العذراء في بيتها. جئن بشيء من الاستهجان، فزمن العجائب قد ولى، لكن ما شاهدنه بالعين ملأهم برهبة الإيمان وخشوعه، فتمتمن بشكل جماعي بصلاة “السلام عليك يا مريم”، ثم تباركن بقطع قطن مبللة بالزيت المريمي دليل قاطع لمكرمة العذراء لبيت ابو بشارة، وتيمنا وأملا ان قطعة القطن بما تحمله من زيت مريمي قداسته مؤكدة، هي أفضل مباركة للمنازل والأهل وكل من تطوله مسحة من زيتها.
كادت أم بشارة تفقد توازنها وهي تحدث نسوان الحارة عن العجيبة ومعناها والتي اختصتهم بها العذراء ليتبارك اسمها. قالت كلاما عاقلا وكلام لا يدخل العقل ويصنف في ظروف أخرى “بكلام مجانين”. لكنها العجيبة التي أغلقت كل مسارات التفكير العاقل.. من شدة مفاجأتها وإثباتها بالرؤية واللمس والتذوق لمن أراد مزيدا من الإثبات العملي.. وها هن نسوان الحارة تشل المفاجأة ألسنتهن، فلم يتحدثن عن فلانة التي خطفت، وابنة فلان التي لم تبق شاب من شرها، وزوجة فلان “المشلطة”، وابو جعفر، الله يستر، الذي يصرف ما يربح على بنات الشوارع في المدينة المجاورة.. وقصص لا يعلم الا الله مصدرها وصحتها.
الزيت المقدس يتزايد ببطء شديد تحت قاعدة تمثال العذراء، تأكد الجميع انه زيت فاخر مثل الزيت الذي يستعمل في الكنيسة في جميع المناسبات الدينية. زيت تثبت رائحته وطعمه انه من النوع الفاخر جدا مثل زيت كرم زيتونات أبو بشارة المعروف بجودة زيته. كل الدلائل العملية تبرهن إنها حقا عجيبة، إشارة سماوية إلى رعاية العذراء لأهل بيته واعترافا بإيمانهم الطاهر وطاعتهم لتعاليم المسيح.
كان قد شفي ابن ابو بشارة قبل سنة تقريبا من مرض خبيث، يقال أن عدد من يشفيهم الطب من ذلك المرض الملعون لا يتجاوزون ربع المرضى وأن صلاة ابو بشارة وأهل بيته للعذراء والمسيح والإله في علاه قد استجيبت. ها هي الإشارة الحاسمة تجيء بدون توقع في فجر ذلك اليوم الربيعي.
نساء الحارة تباركن بقطع قطن رطبنها بالزيت الذي يرطب قاعدة التمثال، كان هذا برهانا لا يمكن نقضه، يُعتمد علية كمصدر إخباري موثوق لحقيقة العجيبة التي اختص الله بها جارتهم وحارتهم، الحادث في بيت ابو بشارة أضحى شعورا بالفخر لكل أهل الحارة،العجيبة حلت في حارتهم، تخص كل البيوت بالتأكيد،هذا رفع حماس النسوان للتفاخر بين الأقارب البعيدين والقريبين غير آبهات بان الاتصالات لساعات طويلة مع المعارف في الداخل والخارج وتكرار الثرثرة عن التفاصيل الدقيقة للعجيبة، التي ثبتت بالكامل بالرؤية والشم واللمس والتذوق ستكون تكلفتها المالية كبيرة وستضر بميزانية البيت.
بدأت عملية انتشار تفاصيل العجيبة بطريقة تعجز عنها حتى الدعاية الصهيونية والإمبريالية التي تسيطر على وسائل الإعلام العالمية، كما قال احد كفار البلد الذي يسكن لحظهم السيئ في حارتهم ويلقب ب “سمير الكافر”، يدعي في كل مناسبة ان الصلاة هي مضيعة للوقت، لا تخدم مطالب السكان من السلطات المسؤولة، بل تخدعهم بأوهام ان الفرج سيأتي من السماء، السماء كما يقول سمير الكافر هي خدعة بصرية تفوقت على المنطق مما يضر بالوعي الاجتماعي وتنمي الخيالات والخرافات، كلمات من الصعب استيعابها قوت الشك باتزانه العقلي. لكن من أين لكافر مثل سمير ان يغير حقائق الإيمان ورعاية الله لأبنائه المؤمنين؟ لعله الآن أمام هذه العجيبة المؤكدة بالعين واللمس والشم سيصمت للأبد!!
أصبح حديث العجيبة هو حديث البلد الوحيد، بدأت تفاصيل العجيبة المثيرة تصل للبلدات المجاورة، بل ويشاع أنه تتوارد اتصالات تلفونية من خارج البلاد على الأقارب في البلد تستفسر حقيقة الخبر، وترجو تزويدها بالمعلومات الصحيحة، لأنه إذا ثبت خبر عجيبة زيت العذراء سيأخذون أول طائرة متاحة للوصول إلى البلاد وزيارة بيت أبو بشارة والتبارك بزيت العذراء المقدس. يبدو ان مصدر معلوماتهم لم يعتمد على ثرثرة النساء فقط، انما على ما بثته وكالات الأنباء العالمية مثل “رويترز” و “البي بي سي” وتلفزيون “الجزيرة” و “وكالة الأنباء الفرنسية” وغيرها من وسائل الإعلام الكبيرة، علم أيضا ان بعض وكالات الأنباء وشبكات التلفزيون أرسلت طواقم من المراسلين والمصورين لتسجيل عجيبة العذراء في بيت أبو بشارة المبارك من السماء.
اثار نشر وسائل الإعلام لخبر أولي عن عجيبة زيت العذراء في بيت أبو بشارة، اعتمادا علي مصادر موثوقة تستند بالتأكيد على روايات نساء الحارة الحاصلات على قطع قطن رطبت بزيت العذراء المبارك، “هيصة” كبيرة قلبت كل الحياة الرتيبة في البلد والبلدات المجاورة.
كثرة الاتصالات التلفونية ذلك الصباح سببت ضغطا على شركات التلفونات، نشأ خوف حقيقي من انهيار شبكة الاتصالات التلفونية. غرق البريد الالكتروني لوسائل الإعلام بكم هائل من الاتصالات والمراسلات تستفسر عن حقيقة الحدث، فنشروا إعلانات ترجو من المتصلين بالتريث ومتابعة الأخبار على شبكاتهم التلفزيونية او مواقعهم على الشبكة العنكبوتية وأن طواقمهم تعمل جاهدة للوصول إلى مكان الحدث لتغطيته ونقل التفاصيل الكاملة للمشاهدين بالصور ايضا.
الازدحام في شارع الحارة حيث منزل أبو بشارة فاق التصور، انتشر الازدحام في الشوارع المحاذية.. بل والبعيدة أيضا، أصاب البلد تخثر في شرايين السير. بل شوارع البلد كلها ازدحمت وأصيبت حركة السير بجلطة في الشرايين. البعض بقول انه سمع في نشرة أخبار الساعة الثامنة أن الشرطة توجهت للمواطنين ان لا يدخلوا البلدة بسياراتهم، قال مسؤول بلدي ان البلدية اتفقت مع شركات الباصات على زيادة عدد الباصات لنقلهم الى داخل البلد، لأنه لا يمكن إيجاد مكان حتى لربط حمار في هذا الازدحام غير المتوقع الشديد والمجنون.. لكن المشكلة انسداد الشوارع بالاف السيارات. عليه وجه رئيس البلدية نداء عاجلا عبر الراديو المحلي يرجو جميع أصحاب السيارات التي دخلت المدينة الخروج منها الى الضواحي وان البلدية أعدت باصات نقل مجانية للجميع .. لكن نداءه لم يلفت انتباه أحد لأن تكرار تفاصيل العجيبة أغلق السمع عن أي موضوع. انسداد الشوارع ازداد تأزما والجميع يريد ان يكون سباقا لمشاهدة العذراء والتبارك بزيتها المقدس.
في تمام الساعة السادسة صباحا جرى إبلاغ خوري الطائفة على وجه السرعة عن عجيبة زيت العذراء في بيت أبو بشارة، لم يكترث للأمر في البداية، ظل مستلقيا على سريره بين نائم وصاح، لكن الشماس أبلغه أن المسألة حركت البلد كلها والمئات من كل الطوائف يتدفقون على الحارة، ونوه ان بعض رجال الطائفة المحترمين تحققوا من الموضوع وأبلغوه أهمية تحرك أبونا الخوري لزيارة بيت أبو بشارة والتأكد بحكمته ان الموضوع رباني حقا. صحيح ان النساء لسن مصدرا موثوقا للمعلومات، لكن رجال الحارة أيضا يؤكدون صحة أخبار نساءهم. لأول مرة يتفق الجانبان بدون نقر ونقير على رواية واحدة.
الذي شكك في بداية الأمر بالحكاية لم يعد يستطيع الصمود حين تحول الزيت الذي “يطفطف” من تمثال العذراء إلى خبر دولي تناقلته وسائل الإعلام العربية والأجنبية، جرى التأكيد في المواقع العربية ان الموضوع هذه المرة ليس دعاية صهيونية إمبريالية معادية للعرب، أو خبر انتصار وهمي لنظام عربي على العدوان الصهيوني.
راديو إسرائيل أذاع الخبر بدون إضافة أو تزوير أو تدخل مقص الرقيب، او إضافة تجعل العجيبة انجازا للديمقراطية الإسرائيلية وتنفيذا لوعود الحكومة في المساواة بين المواطنين العرب واليهود.!!
دبت الحماسة بالخوري حين فتح التلفاز وشاهد الازدحام في الشوارع ونداءات رئيس البلدية والشرطة ونشرات الأخبار المطولة واللقاءات مع نسوان الحارة اللواتي يلوحن بقط القطن ويتحدثن بحماسة وكان نصر الله قد أنجز للعرب. سارع الخوري، أمام هذه الحقائق الدامغة، بعد ان أيقن من أخبار التلفاز صحة ما نقله إليه الشماس، إلى ارتداء ملابسه الكهنوتية والتوجه لبيت أبو بشارة. هاله وهو في الطريق هذا العدد الهائل من التجمعات أمام البيت وعلى مدخل الحارة وشلل حركة السير بالسيارات التي أغلقت الشوارع بالوقوف العشوائي، كان حديث الشارع الذي تلتقطه أذنيه عن العجيبة فقط. وقد وسع المواطنين الطريق للخوري ليصل لبيت ابو بشارة دون ان يجهد بشق طريقه بالقوة.
سر الخوري أن الناس تحتفظ باحترام رجال الكنيسة رغم انف سمير الكافر.. سارع بخطواته شاعرا بأنه أمام حدث عظيم، الجميع ينتظرون تأكيد حدوث العجيبة من مصدر روحي موثوق، شكر الله الذي خصه بدور بالغ الأهمية قد يساهم في ترقيته من خوري بلدة صغيرة إلى مطران كبير الأهمية في إحدى المدن الكبيرة.
كل ما استطاع الخوري ان يقوم به أمام تمثال العذراء المبللة قاعدته بالزيت المقدس الذي يمتد حتى نصف متر تحت قاعدة تمثالها، كرم الله اسمها، انه التقط قطعة قطن صغيرة رطبها بزيت العذراء، شمها مرتين أو أكثر، مسح بها كفة يده، شم كفة يده، أشرق وجهه بابتسامة كبيرة، صلبّ على وجهه ثلاثة مرات، بدون مقدمات بدأ بصلاة قداس بارك فيها العذراء والسيد المسيح وأبيه الذي في السموات وبيت أبو بشارة، الأمر الذي اعتبر بمثابة إقرار رسمي من الكنيسة لحقيقة العجيبة وأهميتها المقدسة… وسرعان ما انتقل خبر إقرار الكنيسة بحقيقة العجيبة من المتواجدين في بيت ابو بشاره الى العالقين في جلطة السير حتى أطراف البلدة خلال دقائق مما ضاعف الرغبة في الوصول لبيت ابو بشارة وكأن الناس في سباق مارتون اولمبيادي للحصول على الجائزة الذهبية.
بادر أبو بشارة وأولاده لتنظيم الدخول إلى البيت بنظام ليتم التبارك بزيت العذراء بشكل حضاري بلا مزاحمات. ابنهم البكر اشترى كل مخزون القطن في الدكاكين المجاورة، ووفروا بذلك آلاف قطع القطن الصغيرة وصندوق لوضع التبرعات كما أمر الخوري من أجل إقامة احتفال كبير يحضره سيادة البطريرك، ربما يتحمس الحبر الأعظم بابا الفاتيكان أيضا للحضور والوقوف على العجيبة بنفسه، هدف الاحتفال كما شرح الخوري، تكريم السيدة العذراء على إشارتها الواضحة انها لا تهمل المؤمنين الذين ضحى ابنها بحياته من أجلهم وإنها راعيتهم وشفيعتهم عند الله.
ما حدث وصفته بعض الصحف بأنه أشبه بهزة أرضية من العيار الثقيل، لو عاد ريختر الى الحياة لأضاف الى سلمه خمسة درجات جديدة لتلائم الهزة الإنسانية الهائلة التي سببتها عجيبة الزيت في بيت ابو بشارة.
امتلأت المتاجر بالزبائن الراغبين بشراء تماثيل السيدة للعذراء، أو تماثيل للعذراء وابنها المخلص يسوع المسيح، أو صورا مقدسة، لنصبها في بيوتهم تيمنا بما حدث في بيت أبو بشارة، بل والكثيرين توجهوا الى الكنيسة ليبارك الخوري ما اشتروه من تماثيل وصور، ضمانا للطهارة والقداسة، وأضافوا قطع القطن المبللة بزيت العذراء المقدس بأكياس نايلون صغيرة الصقوها بخلفية التماثيل والصور. سر الخوري بامتلاء صندوق الكنيسة بالتبرعات أالتي منحت للكنيسة بكرم من اجل الحصول على مباركته لتماثيلهم وصورهم الدينية، يمكن القول ان تماثيل العذراء أضحت أهم تجارة لمدة عدة أشهر، فيما بعد استوردت تماثيل العذراء من الصين الشيوعية البوذية الكافرة بواسطة تجار يهود لأن سعر الصين ارخص أربعة مرات من التماثيل المصنوعة في ايطاليا المسيحية، ملأوا بها السوق بأسعار تزيد عشرة أضعاف على الأقل عن تكلفة استيرادها وتوزيعها في المحلات. بعض الفنانين العرب واليهود استغلوا الموقف ورسموا العذراء وطبعوا رسوماتهم، وربحوا أضعافا مضاعفة عن أي لوحة فنية باعوها سابقا.
ابن أبو بشارة البكر جاءته فكرة عبقرية، منع المراسلين من التقاط الصور داخل البيت، قام هو نفسه بالتقاط صور ملونة للعذراء بالكاميرا البيتية، والزيت واضح حول القاعدة وتحت القاعدة وهي أهم وثيقة عن العجيبة، طبع من الصور آلاف النسخ بحجم كبير، كرر الطباعة مرات كثيرة وبرر ذلك بالحفاظ على كرامة العذراء من التصوير التجاري. بيعت الصور بأثمان تكفل له ولكل أفراد العائلة جولة حول العالم في أفخر القوارب البحرية.. وهذا مكرمة من السيدة العذراء بدون أدنى شك.
الآف دخلوا للتبارك والحصول على قطع قطن مبللة بزيت العذراء، ما بخلوا عليها بشيء، تبرعوا بالمال والذهب، انتشرت أخبار عن شفاء العديد من المرضى بعد مسح جبينهم بقطعة القطن المبلولة بزيت العذراء المقدس، مما شجع المترددين لزيارة التمثال والتبارك بزيته والحصول على قطعة قطن مبلولة بالزيت المقدس ولسان حالهم يقول:”إذا لا تفيد لا تضر”.
امتلأ الصندوق أمام العذراء بالأموال وحلي الذهب، افرغ عدة مرات، همس بشارة الابن البكر لوالده انهم هم أولى من الخوري بما يتبرع به الناس، لأن العجيبة حصلت في بيتهم وليس في بيت الخوري أو لتماثيل العذراء في كنيسته. اكد ان لديه معلومات تقول ان صندوق التبرعات في الكنيسة أيضا امتلأ مرات عديدة بشكل غير مسبوق، هذا بفضل عجيبة “عذراء بيتنا”، حسب قوله. وشرح لوالده ان هذا يعني شأن رباني نحن لا نعلمه، ان طرق الله غير معروفة لنا نحن البشر، يجب عدم التفريط بما يصل للعذراء من تبرعات والكنيسة ليست فقيرة ليزيدوها غناء على غناء. ان ما طلبه الخوري، رغم قداسته واحترامه، كان متسرعا بسبب المفاجأة، وانهم هم أهل البيت الذي خصه الله بعجيبة العذراء، على استعداد لتبني الاحتفال ومصروفاته. كما كرمتهم العذراء يكرمونها بأفضل قداس وأفضل احتفال.
أحد الأبناء يلح للحصول على مبلغ ليجدد سيارته، لكن والده يشير عليه بالتمهل، إذ ليس من المناسب الآن والآلاف من عامة الناس ورجال الدين الأفاضل يتدفقون على البيت، الحكاية ما تزال في أوجها، من العيب ان يستعملوا فورا التبرعات التي توهب للسيدة العذراء لأمورهم الشخصية وأن الصبر مفيد في هذه الحالة.
الحكايات التي انتشرت بان قطعة القطن المبلولة بزيت العذراء المقدس حققت الشفاء لمرضى عجز الأطباء والمستشفيات من علاجهم، خاصة ما قامت به بعض الصحف والمواقع الالكترونية بنشر صور عشرات الأشخاص الذين يؤكدون ان قطعة قطن الزيت المقدس شفتهم من أمراض صعبة، بل وروى البعض حكاياتهم مع إمراضهم العصية عن الشفاء وكيف اختفى المرض بعد مسح جبينهم بالزيت المريمي المقدس، كل هذا أحدث تدفقا غير متوقع لزيارة بيت أبو بشارة وعذرائه التي لا يجف زيتها، بل وفي بعض الأحاديث ان التبرع للعذراء واجب من أجل ضمان الشفاء، لأن من لم يتبرع لا يشفى مريضه. تكررت زيارات الكثير من الزائرين السابقين ليتبرعوا ويحصلوا على قطعة قطن أخرى علها تساعد في شفاء أعزائهم.
كان أبو بشارة كل ليلة، بعد ان يستأذن العذراء، يفرغ الصندوق من الأموال وقطع الذهب والفضة وغير ذلك من الأحجار الكريمة. قر رأيه ان لا يسلم الخوري أي شيء. امتعض الخوري ولكنه لم يتفوه بأي كلمة. يبدو، حسب معلومات غير مؤكدة، ان الخوري بدأ بحملة مضادة لإقناع الناس ان وراء حكاية العذراء والزيت سرا لم يكشف بغد. “تمهلوا ولا تصدقوا الشائعات عن الشفاء من الأمراض فلا شيء مثبت”، كما كان يهمس للمقربين له.
مضت أيام وخف القادمين للتبارك بزيت العذراء المقدس. بدأت الحياة تعود الى رتابتها السابقة، رغم ان الزيارات للعذراء والتبرع لها لم يتوقف تماما .
لكن، المجد لله في علاه، الزيت لا يتوقف، بل انتشر حول قاعدة التمثال ومن جانبيه بشكل متزايد وامتد نحو الأرض، حول العمود الذي حفر فيه مكان حيث اجلس التمثال، وهو عمود لعقد قديم واسع مقسم إلى عدة غرف، والعمود نفسه مليء بالتراب الذي لا يرتوي بسهوله وضخم جدا ويكاد يكون متر ونصف المتر عمقه من كل جانب. والعقد لارتفاعه الكبير، أقيمت فيه علية حيث تخزن مؤونة البيت، في وقتنا لم يعد استعمال للعلية لتخزين مؤونة البيت كما كان الحال أيام زمان، أصبحت العلية مخزنا لكل ما لا يستعمل يوميا. هناك درج خشبي، بلصق حائط العقد يقود إلى العلية الواسعة، التي لا ينفك ابنهم الأصغر يطالبهم بتحويل قسم منها إلى غرفة نوم وفتح نافذة خاصة للغرفة، لكن الحال المادية لم تكن جيدة لهذا المشروع، ها هو ابنهم يعود، بعد ان غيرت العجيبة حالتهم المادية ويصر أن يستقل بغرفة على قسم من علية العقد الواسعة.
انشغل أهل البيت كل في مشاريعه. الأب يحذرهم: “لا تنسوا الصلاة للسيدة العذراء، هذا خيرها الذي نزل علينا”.
حكاية عجيبة زيت العذراء أضحت أمرا عاديا، ما عدا سمير الكافر لا يجرؤ أحد على التشكيك بحقيقتها.
كلما سؤل أبو بشارة في نادي المتقاعدين عن آخر أخبار العذراء والزيت يتحدث بفخر ان الزيت لا يتوقف بل يزداد تدفقا، وانه عندما جدد طرش البيت، لم يطرش العمود بل حافظ عليه كما هو، لأنها مشيئة العذراء كرم الله وجهها. قال أيضا انه بلل الكثير من الفوط بالزيت الذي بدأ يسح على الأرض أيضا، ويحتفظ بالفوط بمكان نظيف لأنها مبللة بالزيت المقدس، وان البعض يأتي لشرائها، خاصة السواح الأجانب الذين سمعوا عن عجيبة عذراء بيته، لكن السعر الذي يطلبه لا يشجع أبناء البلد على شراء تلك الفوط. قال ان السواح لا يجادلون حول السعر وان سعر الفوطة مع الصورة الملونة للعذراء تكفي وجبة غذاء لأهل البيت في مطعم.
لكن لم يعرف احد ان الوقت يخبئ لهم مفاجأة أغرب من الخيال.
أم بشارة صعدت للعلية لأخذ حاجتها من زيت الزيتون، من خابية (الخابية هي جرة كبيرة تتسع لأكثر من 50 – 80 لتر من الزيت كانت تستعمل في البيوت الفلسطينية القديمة لتحزين الزيت وما زالت بعض البيوت تستعملها).
تفاجأت ام بشارة ان الخابية فارغة حتى النصف:
– أبو بشارة.. الخابية تقريبا فارغة.
– يا امرأة انا ملأتها بأربعة “تنكات” (التنكة 17 ليتر) حتى العنق.. لم نستعمل بعد الا نصف تنكة؟
– انها نصف فارغة.. أين ذهب الزيت؟
– الله يستر.. ربما لا ترين جيدا.. مدي يدك.
– إنا في كامل قواي العقلية، لا تجعلني مجنونة وعمياء. لا أرى زيتا إلا في القاع.
– هل سرق زيتنا؟ هل يجوز ان ما ظهر تحت تمثال العذراء هو زيتنا؟
تحسست أم بشارة الجرة فوجدت سطحا كبيرا في مكان منخفض رطبا بالزيت.وعلى أرضية العلية بقعة زيت كبيرة تماما فوق العمود الذي وضعت في داخل حفرة فيه تمثال السيدة العذراء. احتارت هل تضحك أم تبكي على ضياع مخزون الزيت.. لكن العذراء ليتبارك اسمها عوضتهم بأموال كثيرة.
– كشفت سر زيت العذراء يا أبو بشارة.
– ماذا تخرفين يا امرأة؟
– الجرة “مسطوحة” والزيت يتسرب منها ببطء إلى عمود البيت، والنقطة التي حفرت للتمثال داخل العمود، خرج منها الزيت.
– إذن زيت العذراء هو زيت خابيتنا؟
تجمع الأولاد على صوت والديهما يتداولان حول المصيبة. قال الابن البكر مبتسما:
– هذا الكلام ممنوع ان يصل للناس. فاهمين؟ سنتهم ان فعلتنا بزيت العذراء مقصودة.
بعد تفكير قصير أثنى أبو بشارة على كلام ابنه، وأضاف:
– لا تظنوا ان الجرة فرغت من الزيت بالصدفة، انها مشيئة الله، هل تظنون ان الله ينتج زيتا ليقدس المؤمنين به؟ هذا لا يغير شيئا من حقيقة العجيبة. لو شاء الله لفاضت الجرة وأغرقت ارض البيت.. لكن حكمته أن يصل الزيت لتمثال العذراء. القصد الإلهي هنا واضح. انعم الله علينا بالعجيبة وحسن أوضاعنا استجابة لصلواتنا فليكن اسمه مباركا!!
بقلم: نبيل عودة