اعداد : لمعان عبدالرحمن

نبغ في بغداد فنان اسود في النصف الأول من القرن التاسع للميلاد، بعدها رحل الى افريقيا فالاندلس ، كما إنه من اشهر من عرفته بغداد من الموسيقيين فكان له أثر عظيم في تطوير الموسيقى العربية وآلاتها وفي إدخال فنون العيش البارعة في حياة الناس، ولم يقتصر نفوذه الجمالي على العالم العربي، بل تعداه الى البلدان العربية التي أخذت عنه الكثير في حياتها الفنية لأجيال متعاقبة . إنه الفنان ابو الحسن بن نافع الملقب بـ (زرياب) الذي أمتدت شهرته الى أقاصي الدنيا واشترك بنقل ما عرفته بغداد من ضروب الادب والعلم والحياة الاجتماعية والفنية الى بلاد الاندلس بعد رحيله عنها. كما إنه لقب بزرياب وذلك لسواد لونه وفصاحته تشبيهاً له بطائر غرد اسود وتعني كلمة زرياب بالذهب وهي معربة عن الفارسية، وقد سبق أن أُطلق اسم زرياب على مغنية ليست بسوداء اللون وهي (زرياب الواثقية) إحدى المغنيات الشهيرات في العصر العباسي الأول (توفيت في 883م) حيث لم يتطرق أحد الى تأريخ مولد زرياب شأنه شأن الكثيرين من الشعراء والفن العباقرة وأعلام الأدب الذين لم يعرفوا إلا بعد أن علا قدرهم كما لم يذكر شيء عن موطن أسرته الاصلي او من نزل من عشيرته مدينة بغداد، سوى انه أحد موالي الخليفة المهدي (577م- 785م) ومن مجموع التواريخ التي تصادفنا في اخبار حياته يظن أن ولادته كانت نحو عام (160هـ- 777م) أي إنه عند وفاة الخليفة المهدي كان ما يزال صبياً لا يتجاوز التاسعة من عمره، فقد كانت فصاحة لسانه مبرراً لانعتاقه وتمتعه بالحرية في فجر حياته، فعاصر كلاً من الخليفتين الهادي وهارو ن الرشيد الذي أمتدت خلافته من (170هـ – 786م/ 193هـ- 809م) فاشتهر في زمانه وغنى بين يديه. أما بالنسبة للبيئة فقد كان لها الاثر الكبير في صبا أبي الحسن بن نافع فجعلته يطلع على ضروب المعرفة وألوان الخبرة بشؤون الحياة، فكان بجانب نبوغه الفني في مجال الموسيقى والغناء شاعراً مطبوعاً عالماً بسير الخلفاء واحوال الملوك وبوادر الادباء والعلماء ومحدثاً لبقاً اكتملت فيه صفات الندماء، فكان لمعلميه ابراهيم الموصلي وابنه اسحق الفضل في شفافيته واحاطته بتجارب الحياة، الى جانب معاصرته لأعلام الموسيقى والغناء، وانعكاس حياة بغداد العلمية والاجتماعية عليه، ولقد كان يسير على نهج معلميه ابراهيم واسحق سواء أكان ذلك داخل قصور الخلافة والامراء ام  خارجها. وقد عرف عن ابراهيم الموصلي وابنه اسحق انهما كانا من انصار القديم شعراً وموسيقى وتعصباً  لأساليب المدرسة القديمة وبذلا غاية الجهد في الدفاع عن مذهبهما هذا في مجالس الخلفاء والامراء، بينما كان يمثل الإتجاه الجديد لمدرسة التجدد ابراهيم بن المهدي أخ الرشيد، والذي عرف عنه إجادته العزف على الآلات الوترية والمزامير والدفوف فكان احذق الناس بفنون الموسيقى علما ً واداءً ، فاستطاع أن يمزج الألحان العربية بالالحان الفارسية ليخرج لوناً جديداً وكان ممن يؤيده في اتجاهه هذا الى جانب زرياب مخارق ويحيى البرمكي وابن جامع وغيرهم من مغنيي الدولة العباسية. بعدها هاجر زرياب الى الاندلس ويرجح الكثيرون من المؤرخين أنها حصلت بسبب الجفوة التي وقعت بينه وبين استاذه اسحق الموصلي مغني هارون الرشيد، فقد أبدى زرياب من المهارة في العزف والغناء في مجلس الخليفة ما جعله يحصل على حظوة كبيرة عنده ، اثارت حسد استاذه فراح يكيد له ويتصدى لمبادراته الفنية في مجال التجدد والتطوير، فشهرَّ به وهدده بالاغتيال فرأى أن من الافضل ان يخرج من العراق متوجها الى المغرب. حيث بدأ زرياب رحلته سرا من بغداد، ومر بالشام ومصر واجتاز صحراءها الى المغرب واستقر في القيروان، لكن في اواخر عهد ولاية ابراهيم بن الاغلب وكان عمره في نحو الخامسة والثلاثين وعندما توفي ابراهيم عهد بالامارة الى ابنه عبدالله، ولقد ذاع في عهده صيت زرياب في جميع الولايات الافريقية حتى ان مدينة القيروان انقسمت الى حيين متناقضين، احدهما اطلق عليه تسمية “الحي الزريابي” الذي كان  مجمعا للفنانين من مغنيين وموسيقيين والآخر سمي بـ “حي الزهاد” نسبة لمعارضي زرياب من رجالات الدين والعلماء المحافظين. فقد غنى زرياب لامراء فخلعوا عليه خلعاً نفيسة وكثيراً من الدنانير فهو كان بأمس الحاجة اليه في ترحاله وتنقلاته، وكانت حياته رغيدة مطمئنة حتى غنى ذات يوم في حضرة الوالي زيارد الله قول عنترة مفاخراً بالسواد:

فإن تك امي غرابية                      من ابناء حسام بها عبتني

فإني لطيف يبيض الظبا                  وسمر العوالي اذا جئتني

ولولا فرارك يوم الوغى                لقدتك في الحرب او قدتني

فغضب عليه وامر بضربه وابعاده، فكان لا مفر له سوى الرحيل عن القيروان، الا انه شاءت المصادفات ان يقدم عليه في تلك الاوقات الحرجة منصور المغني اليهودي مبعوثا من قبل خليفة الامويين في الاندلس الحكم بن هشام موجها اليه الدعوة للحضور الى بلاطه في قرطبة في اواخر عام 206-821م. فرحل مودعا مدينة القيروان في صحبة منصور وسار براً حتى ميناء سويتا شمال المغرب وعبر بحر الزقاق الى جبل طارق وما ان وطأت قدماه ارض لاندلس حتى وافاه نبأ وفاة الحكم فاغتم واراد الرجوع فألح عليه منصور متابعة الرحلة وكتب بدوره الى عبدالرحمن بن الحكم الذي تولى الملك بعد ابيه يخبره بمقدم زرياب فجاء الجواب مرحبا بمقدمه واوصى عماله ان يستقبلوه ويكرموه خلال تنقله بين المدن والولايات حتى دخل قرطبة فاستقبله عبدالرحمن بنفسه في ظاهر المدينة وانزله في احسن دار وهيأ له اسباب الراحة واجرى له راتبا شهريا قد  مائتي دينار ولابنائه الاربعة ثمانين ديناراً زيادة عما منحه له على سبيل الكرم والهدية وجعله من أخصائه وجلسائه.

 كما كان يدعي أن الجن تتقمص شخصيته فتوحي له بالشعر واللحن وهو نائم فما ان يستقيظ من نومه حتى يسرع في دعوة جاريتيه “غزلان” و “هنيدة” فتأخذ كل واحدة عوداً هاوياً ويأخذ هو عوده، فيطارحهما ليلة اللحن والغناء، ومن ثم يكتب الشعر المناسب ويعود الى مضجعه، وقد اثر عنه انه كان يحفظ عشرة آلاف مقطوعة من الاغاني لحنها مقتديا في ذلك ببطليموس الذي قيل انه ابتدع هذه العلوم، الا انه لم تكن مواهبه متوقفة عند الاجادة في الغناء والمهارة في العزف والقدرة على النظم بل تخطتها الى صناعة العود وتحسينه فزاد على اوتاره الاربعة وترا خامسا صبغه باللون الاحمر استكمالا للنغمات الخارجة منه لتستوفي به الطبقات الصوتية وجعله بمثابة النفس من الجسد. اما بالنسبة للاوتار فهي الزير الذي كان يصبغ باللون الاصفر ليكون بمنزلة الصفراء في الجسد وهو اكثر الاوتار حدة ، والمتن وهو في الغلظ ضعف الزير وكان بمنزلة الدم في الجسد وهو احمر اللون والمثلث الذي ترك ابيض اللون وجعل ضعف المتن في الغلظ اما الوتر الرابع فقد كان اسود اللون وجعله بمنزلة السوداء من الجسد وسمي البم.

كما اخترع زرياب مضراب العود “الريشة” من قوادم النسور معتاضا بها عن مرهن الخشب فابدع في ذلك للطافة قشر الريشة ونقائها وخفتها على اصابع العازف وسلامة الوتر، وبعد هدوء احواله استطاع ان ينقل الى الاندلس كل ما سبقت الى معرفة بلاد الشرق من آلات الموسيقى والتفنن بابتكارها وصناعتها. لذا فقد استعان بابنائه وجواريه على تكوين مدرسة موسيقية خاصة به بعد قدومه الاندلس فجعل للغناء مراسم لها بداية معينة وخاتمة مقررة وشرع بتعليم الغناء واصوله لتلامذته ومن رأى الاستعداد فيه على ممارسته والنبوغ به. لكن زرياب لم يكن مقتصرا على تطوير الموسيقى والغناء وتجديده فيهما ونشر صناعة الآلات الموسيقية، فقد كان عالما بالنجوم وتقويم البلدان وطبائع اهلها وتصنيفهم وتقلبات مناخها وتشعب بحارها. وبالاضافة الى ذلك فقد كان له حظ عظيم من ادب اللياقة وفنون الادب ولطف المعاشرة وطيب المناداة والمحادثة وله ذوقه الخاص (الذي شاع بين الناس) في الملابس كل على وفق ما يلائم الفصول والطقس، وتصنيف الموائد وتنظيمها باستعمال اكواب الزجاج بدل اكواب المعدن في الشراب وصنع الاصص للازهار من الذهب والفضة، وادخال الصنوف المحببة من الاطعمة التي كانت بعيدة عن تناول اهل الاندلس، ومنها الحلوى التي حملت اسمه “زريابية” والتي تعرف حاليا “بالزلابية” كما قلده الكثير من اهل قرطبة في تحذيق “الشعر” وتنظيمه وتصفيفه وقد كانوا يرسلونه مفروقا وسط الجبين ، كذلك اشاع استعمال انواع من المركبات التي تستخدم لتطبيب الجسم من العرق وذلك لان الناس كانت تستخدم الورد والزهر والريحان لكن ذلك يترك اثرا على ملابسهم فدلهم على ما يزيل الاثر، كما انه ابتكر انواعا من المفارش اللينة الناعمة بدلا من ملاحف الكتان واختار سفرة الجلد لتقديم الطعام على الموائد الخشبية وذلك لأن آثار الاطعمة تزول عنها باقل مسحة، فكل ذلك جعل اهل قربة ينسبون اليه كل ماهو جديد متصلا بالجمال والظرف وحسن الاختيار ومن ذلك “حمام زرياب الذي يعتبر اعجوبة قرطبة من حيث فخامة بنائه وجمال ريازته وبداعة معماره وهندسته.  وقد اشاع عنه بعد مقدمه الاندلس كل ما له صلة بألوان الترف والتجدد فعلم جواريه نظم الشعر ونقشه على اثوابهن والالات الموسيقية مما لم يكن لاهل الاندلس عهد به وذلك زيادة في التأنق، كما تألقت الموسيقى بفضله في بلاط عبدالرحمن الاوسط، حيث كان عدد كبير من خيرة الشعراء والادباء ممن تضمهم مجالس اللهو والعلم في قصور الخلافة في سباق مع الجديد، وفي مقدمتهم يحيى بن الحكم الملقب بالغزال وتمام بن علقمة وحسانة التميمية بنت الشاعر ابي الحسن وابن عبدربه صاحب العقد الفريد وعباس بن فرناس الذي قام باول محاولة للطيران بجناحين من ريش.

لقد كان لزرياب من الذكور ثمانية هم، عبدالرحمن وعبيدالله، ويحيى، وجعفر، ومحمد، وقاسم، واحمد وحسن ، ومن الاناث علية، وحمدونة، وكلهم شغف بالغناء وممارسة الصنعة، كما عرف عن ابنته حمدونة انها شاعرة وفنانة وزوجة لسعيد وزير هشام بن عبدالعزيز، وقد اشتهرت بفصاحة اللسان، وكانت آخر من بقى من ابنائه وبناته فكانت المرجع الاخير لرواية فن ابيها .  ومن تلاميذه الجارية “منفعة التي ذاعت شهرتها وكان لها دور في النهضة الموسيقية ، عرفت بثقافتها وقدرتها على نظم الشعر ومن شعرها:

يامن يغطي هواه                 من ذا يغطي النهارا

قد كنت املك قلبي                  حيث علقت فطارا

ياو يلتنا اتراه                    لي كان او مستعارا

اما مصابيح فهي جارية الكاتب ابي حفص عمر بن قلهيل التي اعجب بها صاحب العقد الفريد لجمالها وعلو نفسها. الا ان الكثيرات من جواري القصر اللواتي استدعاهن عبد الرحمن الاوسط الى قرطبة فكن فيها رواد الموسيقى والغناء، اسبغ عليهن زرياب من التعليم والتدريب والتوجيه ما جعلهن في طليعة اعلام هذا الفن فهن فضل” التي كانت جارية لاحدى بنات الرشيد، نشأت في بغداد وتعلمت فيها اصول الغناء ، ثم اعتقت ورحلت الى المدينة حيث ذاعت شهرتها واستدعيت الى الاندلس، وهي صبية وتعلمت الغناء حيث برعت فيه وكانت على جانب عظيم من فصاحة اللسان والمقدرة البيانية و “قمر” التي كانت رائعة الجمال وثيقة المعرفة بفنون الموسيقى والغناء اديبة شاعرة قدمت من بغداد .

عانى زرياب في فترة حياته الكثير من حقد الحاقدين ابتداءً بموقف الحقد في قلوب اصحاب النفوذ  ممن يتمتعون بمنزلة عند الخليفة ، وكان في مقدمتهم يحيى بن الحكم “الغزال” شاعر البلاط المقرب الى خلفاء قرطبة وابن الاندلس وربيب الدولة الاموية فيها، فقد كان شاعرا مجداً ومحدثا لبقا وصف بحكيم الاندلس وشاعرها وعرافها وسفيرها في بلاد اوربا، وقد لقب بالغزال لجماله ! وبلغ من افتتان النساء به ان غزا قلوب نساء بلاط ملكة الدانمارك حيث اوفد في سفارة اليها من قبل عبدالرحمن الاوسط وكان ان اعجبت به الملكة “تود” فتعلقت به وتعلق بها وله في ذكرها شعر منه هذه الابيات:

يا تود يبا ورد الشباب التي     تطلع من ازرارها الكواكبا

يا بأبي الشخص الذي لا ارى  احلى على قلبي ولا أعذبا

ان قلت يوما ان عيني رأت     مشبهه لم أعد ان اكذبا

لكن الغزال نظم قصيدة هجاء بحق زرياب فلما بلغ الخليفة ذلك غضب على الشاعر وامر بنفيه من الاندلس فرحل الى العراق ولم يرجع اليها الا بعد وفاة زرياب وذلك في عهد محمد بن عبدالرحمن الاوسط.

لقد كان لزرياب وابنائه وتلاميذه اثر ملحوظ في نشر الموسيقى والغناء في الاندلس، و كان له ولمدرسته اعظم دفع فني وتأثير في خلق ألوان من الشعر الاندلسي الجديد، مع انه لم يكن من ابطال الشعر المختصين به غير ان تجديده في الموسيقى كان بحاجة الى ايجاد لون جديد من الشعر يناسب التطور الموسيقي ومسايره اللحن الجديد، فكان الموشح والزجل. وساهم كل من ابن معاني القبري وابن عبدربه صاحب “العقد الفريد” وغيرهما في ابتكار وتدعيم اللون من الشعر المستحدث. ، ولقد خلف زرياب من التراث الموسيقي اكثر من عشرة آلاف لحن ضاع اكثرها فلم يتناولها التسجيل والقلم، كما ان الآلات الموسيقية التي عرفت في زمانه وشارك في صناعتها وتطويرها بقيت وأمتد استعمالها الى ارجاء اوربا ولا زالت حتى وقتنا هذا تحمل تسميتها العربية ومنها:

العود iute والقيثار guitaro والنقاور nakrto والدف adufe والصنوج sonajas والرباب rebee والنفير  anafil والطبل taber ,  والقرن horn والبيانو والشقير echiquier.

لقد عاش زرياب مجهول التأريخ فلا يعرف مولده فقد مات ولم يعرف احد على وجه التحديد تأريخ وفاته، والغريب انه لم يعين احد من المصادر التي تناولت سيرته وحياته واخباره قديماً تأريخ وفاته، كما  لم يُذكر شئ عن اخباره طخوال عهد الخليفة محمد بن عبدالرحمن لذا فالارجح ان وفاته كانت نحو سنة 238هـ- 852م اي معه انتهاء حكم عبدالرحمن الاوسط.

اعتمدت مُعدّة الموضوع على :

مجلة “العاملون في النفط ” لسنة 1962