أتذكر جيدا ونحن صبية صغار وقبل أن نعي معنى الوطن والناس ونفهم كنه التاريخ من إننا وفي مراسم أحياء شهر محرم وإستشهاد الإمام الحسين “ع” أو في ذكرى إستشهاد الإمام علي “ع”، كنّا نتحرك ونحن نسكن منطقة باب الشيخ في شارع الكفاح البغدادي بإمرة شباب يكبروننا بالسن لنصرخ كل مساء بالقرب من أبواب الشيخ الصوفي والزاهد الجليل “عبد القادر الگيلاني” بهتافات كـ ” إمام أول علي، نعله على قاتلك يا علي، أّوّل وآخر علي ، قاتل كفار علي ، فاتح خيبر علي” وغيرها من الشعارات التي كانت محل ترحاب المتخلفين والجهلة، وإنتقاد وإشمئزاز الشباب الواعي في تلك المنطقة التي رفدت الحركة الوطنية العراقية بخيرة المناضلين منذ عشرينيات القرن الماضي، والتي وقفت بعد إنقلاب شباط الاسود تقاوم آلة البعث الهمجية وحرسه القومي المجرم دفاعا عن ثورة تموز وقادتها.

 

لم يكن إستفزازنا نحن الصبية الشيعة “بإتخاذنا رأس حربة” للمكّون السني بعيداً عن صراع طائفي موغل بالقدم ويعود لفترات انقسام الإسلام على نفسه وللأبد منذ سقيفة بني ساعدة، هذا الإنقسام الذي ساهم ببحار من الدماء على مر القرون الأربعة عشر المنصرمة نتيجة الصراع السنّي – الشيعي والمستمر لليوم والذي سيستمر مستقبلا. كما وانه لم يكن بعيدا عن إستفزاز بعض رموز السلطات السنّية للشيعة على الأقل في فترة ما بعد أعلان الدولة الوطنية. ومنها إصدار كتاب “العروبة في الميزان” لمؤلفه “عبد الرزّاق الحصان” سنة 1933 والذي أرجع فيه أصول الشيعة الى “المجوس” الاوائل، والذي أدّى الى قيام إحتجاجات ومصادمات عنيفة في المدن الشيعية وخصوصا المقدّسة منها ما أجبر السلطات حينها على مصادرة الكتاب. كما حصلت مصادمات عنيفة بين الأهالي والسلطات بمدينة الكاظمية إثر قرار السلطات سنة 1935 ببناء دائرة للبريد على أرض مقبرة شيعية ، وكأن الأراضي قد خلت في تلك المنطقة ولم يبقى الا بهدم قبور الموتى الشيعة!!

 

هذه الإستفزازات كانت إستفزازات موسمية أو مؤقتة أو كانت تحصل نتيجة لوضع سياسي معّين وبالتالي لم تكن إستفزازات ثابتة، الّا إننا نستطيع الإشارة الى العشرات من رموز الإستفزاز الشيعية والسنّية الثابتة والتي تتطور بإستمرار وهذه الرموز هي المراقد المقدّسة عند الطائفتين والمناسبات التي تجري فيها. ونتيجة لكثرة المناسبات المذهبية الشيعية وتنوعها فأننا نرى أنّ الدولة كانت تشترك كطرف في بعض المناسبات المذهبية السنية وتنقل مراسم إجرائها من خلال التلفزة، كما في مراسم أحياء المولد النبوي الذي يقام عادة في “مسجد الإمام الأعظم”. حتّى أنّ المتابع لأمور هذه المناسبات وأجرائها كان يلمس عن حق من أنّ الشيعة غير ميّالين للأحتفال بالمولد النبوي مقارنة لأحتفالهم بمولد الإمام المهدي على سبيل المثال، وهذا ما نلاحظه ولليوم من حجم الأحتفالات ونوعيتها بالمناسبتين.

 

على الرغم من كثرة الرموز الطائفية الأستفزازية للطائفتين بالعراق، الا اننا وللامانة التاريخية لم نرى السلطات وكانت سنّية على الدوام حتى ساعة احتلال العراق تعمل على إيجاد رموز أستفزاز جديدة، علما من انها كانت قادرة على ذلك على الأقل في المدن والبلدات السنّية ذات الطيف الواحد. ولم نرى الدولة “السنية” ولا دائرة الأوقاف السنية تعدّل كل عام من دليل الأضرحة والمقدّسات السنّية لتضيف إليها مراقد ومزارات جديدة، كما هو الحال مع الوقف الشيعي الذي يكتشف بين الحين والآخر مراقد ومزارات جديدة لتكون مراكز أستفزاز جديدة ومنبع جديد لسرقة الناس والأراضي والعقارات. ومن يراجع كتاب المراقد والمزارات في العراق (*) اليوم، سيرى اسماء مراقد ومزارات لم تكن متواجدة لسنوات ليست بالبعيدة !!

 

لقد أفرز الصراع الطائفي اليوم هستيريا الزيارات واختراع المراقد والمزارات ومن أهم هذه المزارات المخترعة حديثا هي مزارات بنات الحسن، إذ لدينا منها في النجف الأشرف إثنتين وآخر بالمحاويل وآخر في كربلاء وآخر في بابل وآخر في بغداد!!. يبدو أن الأمام الحسن والذي لا يأتي بنفس مرتبة أخيه الإمام الحسين عند الشيعة لأسباب لسنا بصدد تناولها في هذه المقالة قد دخل دائرة الأستفزازات الطائفية من أوسع أبوابها، بعد أن تفتقت العقلية الطائفية الأستفزازية الشيعية عن مشروع جهنمي لو قيض له أن ينجح فسوف يعمل على محو حضارة بلادنا هذه التي يناصبها الأسلاميون العداء. وهذا المشروع ليس سوى تبديل إسم أحدى أقدم المدن بالعالم أي “بابل” بحضارتها الموغلة بالقدم والتي قدّمت للبشرية أولى القوانين الى مدينة تحمل أسم “الأمام الحسن” !!

 

لقد تخبط مسؤولو العتبة الحسينية في ردودهم حول هذا الأمر بعد ردة الفعل الشعبية على قرارهم بتغيير أسم المدينة الى “الأمام الحسن” والذي أكّده عضو اللجنة التحضيرية لمهرجان “الامام الحسن” في بابل “علي كاظم سلطان” حينما قال أن (المهرجان يسعى لتجديد الدعوة لتغيير اسم محافظة بابل إلى “مدينة الإمام الحسن”). ما

دعا الامانة العامة للعتبة الحسينية في أن تصدر بيانا قالت فيه انها تلقت “الاخبار التي تناقلتها بعض وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حول سعي العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية تغيير اسم محافظة بابل الى مدينة الامام الحسن (ع)”، معتبرةً ان “هذه الاخبار عارية عن الصحة، ولا اساس لها”. فيما خرج علينا نائب الأمين العام للعتبة الحسينية “أفضل الشامي” ليقول في لقاء تلفزيوني أنّ (بابل تبقى بابل لكن أهالي مدينة الحلة هم من يطلقون على مدينتهم اسم “محافظة الأمام الحسن”) !!.

 

إن تراجع المسؤولين عن هذه الفضيحة الأخلاقية ولا أقول الوطنية كونهم لا يمتون بصلة لهذا الوطن لا تعني أنّهم خسروا المعركة، بل تعني أنّهم ينتظرون وقتا مناسبا آخرا لسرقة تاريخنا كما سرقوا حياتنا وثرواتنا وأمننا ومستقبلنا، وعلينا أن لا نتهاون في هذه المسألة مطلقا وأن نحشد لها كامل الطاقات والأمكانيات. أنّ عملية سرقة الوطن وجعله وقفا شيعيا هو الهدف الرئيسي لهؤلاء اللصوص الذين يمتلكون اليوم إمبراطورية مالية وعقارية وتجارية تقدّر رساميلها بمئات المليارات المنهوبة من أفواه الجياع.

 

لو غيّر الوقف السنّي مدينة تكريت الى مدينة “يزيد بن معاوية” و الفلوجة الى مدينة “شمر بن ذي الجوشن” والرمادي الى مدينة “عمر بن الخطاب” والموصل الى مدينة “عثمان بن عفان” وهكذا مع بقية المدن، فماذا يتبقى من الوطن !!؟؟؟

 

الطائفية بئر قاذورات لا يؤمن به الا القاذورات.

 

 

(*) كتاب : المراقد والمزارات في العراق من تأليف ثامر عبد الحسن العامري وتقديم الشيخ جلال الحنفي البغدادي.