حملت قمة حلف شمال الاطلسي بالعاصمة البولندية وارسو مؤخرا رسائل هامة و عديدة يجب ان نتوقف عندها، فبعد رسالة أختيار المكان وارسو التى كانت عاصمة الكتلة الشيوعية و الشرقية منذ ربع قرن تقريبا لاستضافة القمة، بات أغلب قادة الحلف يركزون فى تصريحاتهم على الخطر الروسي الى ان جائت التهديدات صريحة فكان ملخص تصريحات القمة و ما تبعها بالصحافة و الاعلام الغربي يتمثل فى رسالة واضحة لبوتين مفادها “غير مسموح لك بالتواجد فى مكان أخر بعد اللاذقية و القرم، هذا ان لم يتم مراجعة الامر بهم” نعم تلك هى رسالة قمة وارسو لبوتين، و بوتين أيقن الرسالة قبل انطلاق قمة وارسو نفسها بكثير .

 

فمنذ شهور وقت ان اشتدت الحرب الاقتصادية على روسيا من خلال العقوبات الغربية عليها، و بعد أن وجهت الرياض طعناتها النفطية لموسكو قبل طهران فى ظل ما يعيشه الاقتصاد الروسي من استنزاف بعد ان تكلف الكثير بسبب الحرب العسكرية فى سوريا بشهادة الرئيس بوتين نفسه، و هو الامر الذى دفع موسكو بوقف السياحة تجاه مصر و تركيا قبل أي سبب أخر و توجيه السياح الروس نحو يالطا القرمية، هذا بجانب الحرب السياسية و الاستخباراتية ضد اعدائها على كافة الاطراف سواء بالاتحاد الاوربي و فى مقدمته المانيا و بريطانيا و قد يزداد نفوذ الاولى فى القارة العجوز بعد خروج الاخيرة من الاتحاد الاوربي و هو أمر بتأكيد سيزعج موسكو، او الخصم التقليدي الولايات المتحدة الامريكية، او تركيا التى خاضت حرب الضروس ضد حلفاء موسكو بسوريا او ضد موسكو نفسها بالقرم و التى تستعد لخوض جولة جديدة مع الاتحاد الاوربي بعد خروج ديفيد كاميرون من منصبه أثر خروج بلده من الاتحاد الاوربي و هو الذى صرح بأن تركيا لن تنضم للاتحاد الاوربي قبل عام 3000 فى مشهد دراماتيكي قد يعيد لنا بعض مشاهد التاريخ المؤلمة على اوربا يوما ما سقطت القسطنطينية فى يد العثمانيون على أمل ان يستغل بن على يلدرم و اردوغان حالة التخبط الاوربي الحالي ربما يعيد التاريخ نفسه و فى تلك المرة تسلم اوربا كلها للعثمانيون الجدد لو حدثت المعجزة و انضمت تركيا للاتحاد الاوربي .

 

كل تلك المشاهد و أكثر من الحرب الضارية التى تخوضها روسيا ضد كل تلك الاقطاب جعلت بوتين و سيرغي لافروف يعيدو النظر فى الواقع الحالي مجددا، و تذكر بوتين كيف كان يتمدد اجداده أكثر من مرة بأوربا الشرقية و اسيا الوسطى حتى كانت فى اوقات كثيرة تصل على مشارف الدردنيل و البوسفور حتى باتت الايدولوجية البيزنطية قاب قوسين أو أدنى من الوصول الى أيا صوفيا مجددا و لكن سرعان ما تحدث كارثة داخلية او ازمة اقتصادية تعصف بكل تلك الفتوحات القيصرية، و لنا في تاريخ القيصرية العديد من المشاهد التى انهت كل توسعات روسيا على مدار عقود فى غضون ايام قليلة و اهدرت دماء ملايين من جندوها هباء و اخرها الثورة البلشفية 1917م ثم الدخول فى مرحلة لينين و ما تبعها، و هو الامر الذى أخرج وزير خارجية روسيا فى ذلك الوقت سيرغي سازانوف من حصة تقسيم الشرق الاوسط و معادلة سازنوف- سايكس –بيكو منذ مئه عام خاوي اليدين كي تقتصر المعادلة على مارك سايكس و جورج بيكو فقط، و تنحصر روسيا بين جبال الجليد مجددا .

 

و الان و بعد مرور مئة عام على سايكس-بيكو اعاد وزير خارجية روسيا الحالى سيرغي لافروف قراءة مذكرات و مدونات السابق سيرغي سازانوف و القلق ينتابه من امكانية تحول معادلة كيري-لافروف التى كتبت اولى احرفها بشهر نوفمبر الماضي و تكرار مأساة الماضي مجددا، و هنا لم يكن امام الروس سوى التراجع بعض الخطوات للخلف، فأحياناً كي تتقدم خطوات للامام يجب ان تتراجع خطوة الى الخلف، و قد كان الامر و تجلى ذلك فى انسحاب القوات الرئيسية الروسية من سوريا، و تكثيف التعاون مع الجوار السوري المعادي لدمشق كتركيا و الاردن و اسرائيل، و عدم التمسك بشرط بقاء بشار الاسد و جست موسكو نبض القيادة و الشعب السوري اكثر من مرة سواء بالقامشلي او بانسحاب قواتها، و اخيرا و ليس اخرا عدم توفير الغطاء الجوى للجيش السوري بالعديد من المعارك الميدانية، قبل ان تطرح موسكو مشروع الدستور السوري الجديد و هو الامر الذى زاد من حدة الخلاف بين موسكو و طهران التى تتلقى كل يوم خسائر ضخمة فى سوريا، فى ظل ما تحضره الرياض لطهران بعد اطلاق مدير الاستخبارات السعودية الاسبق الامير تركي الفيصل طلقة الحرب الاولى على طهران من مؤتمر المعارضة الايرانية بباريس، قبل ان تتبنى صقور الاحواز المدعومة من السعودية تفجير اكبر مصنع للبتروكيماويات بايران .

 

و الى هنا و لم تتوقف رسائل وارسو و لكن فى تلك المرة لم تكن ضد موسكو بل ضد ليبيا و جوارها، فالأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتينبرغ صرح في مؤتمر صحفي عُقد السبت الماضي على هامش الدورة الأخيرة لقمة الناتو قائلا “إن الحلف يعمل على دعم الأجهزة الأمنية المختصة في تونس، ويتجه نحو إنشاء مركز للاستخبارات في تونس، و في إطار التعاون العسكري الثنائي ومتعدد الأطراف يساهم حلف شمال الأطلسي بخبراته في تطوير طرق العمل في هذا المركز لتتماشى مع المواصفات المعتمدة من قبل الجيوش المتقدمة، كما أن الحلف يدرب عددًا من العسكريين على يد مختصين وفق أحدث البرامج والتقنيات والمعايير المستعملة في جمع وتحليل ونشر المعلومات في مجال مقاومة الإرهاب ”

و هو التصريح الذى أثار مخاوف الشعب التونسي حتى أن اضطرت الحكومة التونسية بالرد على تلك المخاوف، و لكن تبقى رغبة الناتو فى العودة مجددا الى ليبيا واضحة بعد أن اعتمد الناتو مؤخرا قرار تمركز وحداته البحرية قبالة السواحل الليبية، و هذا بخلاف عملية صوفيا لمنع تهريب السلاح للمليشيات بليبيا .

 

فاذا كانت تلك هى رسائل وارسو لروسيا فهل بوتين يجد الاجابة و الراحة النفسية فى كاريليا و بتحديد بدير فالام العتيق بعد زيارة مفاجئة التقى فيها البطريرك كيريل المتواجد بالجزيرة فى إطار الاحتفالات بعيد القديسين سيرغي وغيرمان بعد أن شارك بوتين فى سر الافخارستيا و بعد مرور شهر على زيارته قلعة النسكية جبل آثوس المقدس باليونان، خاصة ان بوتين قد يقضى بالجزيرة التى تقع اقصى شمال غرب روسيا اجازته بعيدا عن الصحفيين، و اذا كان هناك خطرا قادم تجاه شمال افريقيا يعتمد الحاق الجزائر بدائرة الفوضى و ابقاء ليبيا بحرب لا تنتهي و تهديد مصر مجددا، فما رؤية الجوار الليبي تجاه تلك المرحلة .