سيف العبيدي :

 

لطالما كنت انظر الى اشجار النخيل في بلدي و هي تخضر و تثمر و كيف ان جذورها امتدت عميقا في الارض التي زرعت فيها وكنت ارى انها تشبهني حيث ولدت وترعرعت وتطلعت الى مستقبل يحلم به كل مواطن يعيش داخل بلده لا يرى حياته في مكان اخر سوى بين اهله و اصدقائه وعاداته وتقاليده. بعد حرب عام 2003 وما الت اليه السياسات الخاطئة لحكومات العراق واصحاب الديمقراطية الجديدة من انعدام الامن ،

وكثرة اعمال العنف ، فضلا عن عدم الاهتمام بواقع التربية والتعليم واهمال الطموح وبعد ان رايت اشجار النخيل التي تشبثت بالارض قد اقتلعت من جذورها وراحت ثمارها، قررت ان اقتلع نفسي من الارض التي عشت فيها لسنوات، انطلقت برحلة الشتاء و الصيف رحلة لعبور البحار والاراض والدول هذه الرحلة التي شاهدتها بافلام الحرب العالمية الاولى والثانية حيث كان الناس يقطعون المسافات للوصول ارض امنة.

لا اتذكر سوى اسمي و شكلي الذي لم يتغير، هذه هي معاناة المهاجرين حيث ينفصلون عن ذاتهم ليولدوا من جديد في بلد جديد يبدأون من جديد في كل شيء. الغريب بالامر ان الديمقراطية و الحرية الجديدة اعطت لكل عراقي حرية اختيار البلد الذي يلجأ له لانه اذ لم يختر ذلك سيتم اقتلاعة جذريا حيث سيخسر بذلك مستقبله وحياته. فهو اليوم اصبح مجبرا على الهجرة لا مفر من ذلك.

بالنهاية اقف اليوم في حديقة ريبوفيزي في العاصمة هلسنكي، انظر الى الاشجار التي تجذرت منذ مئات السنين حيث قررت ان اولد من جديد وان اضع جذوري في ارض الحياة الابدية فنلندا كثيرة هي التحديات التي تواجه الاجئين او الهاربين من الموت في بلدهم ، فبقائهم هناك هو تحدي للبقاء احياء او قد تواجه اعاقة جسمية او عقلية ان نجوت من الموت نظرا لما يلاقي الانسان من ظروف لا انسانية حتى اني تمنيت ان يكون فكتور هوجو صاحب رواية البؤساء حيا ليشاهد ما يعيشه العراقيون على يد حكومتهم ومن يقولون انهم من دينه و طائفته ويدافعون عن حقوقه. هؤلاء لم يساعدوا مواطنيهم على العيش بسلام ودفعوا بهم الى الهروب الى المجهول، المتمثل برحلة الهروب من الموت بعد ان قررت الهروب من الموت وبدأت التفكير الى اي مكان الجئ . فكرت وبحثت عن ارضا اعيش فيها بأمان انا وعائلتي .

 

فكان القرار “الهجرة الى اوروبا” حيث الامن والامان والشعور بالانسانية وحرية التعبير والتعايش الانساني. نعم اوروبا وطني الجديد الذي سانطلق منه لتحقيق طموحي وطموح عائلتي. جلست ابحث واسال كيف الوصول الى اورويا فوجدت طريقها ممتلئ بالمخاطر قد تصل للموت والان انا في حيرة من امري كيف اهرب من الموت لاواجه موتا اخر انا وعائلتي فقررت ان اخاطر بمفردي وارسال عائلتي الى الاردن حيث بيت جدت اطفالي. حملت حقيبتي على كتفي وانطلقت من بغداد الى اسطنبول تاركا خلفي ذكرياتي ووطن جريح. وصلت الى اسطنبول ففوجئت بوجوه تشبه وجهي ومعاناة تشبه معاناتي وجراح تشبه جراحي. فعلمت حينها ان ليس لدينا وطن قادر على ضم ابنائه ..

انطلقت من اسطنبول الى ازمير حيث سماسرة الهجرة وتجارها لايصالنا الى اوربا بقوارب بحرية ما لبث البحر الابيض المتوسط ان ابتلع الكثيرين منهم نتيجة رداءتها. فانطلقت رحلة الموت او المصير المجهول في قارب يحمل العشرات مختلفين في الاسماء و الالوان و الاديان ولكن متشابهين بمعاناتهم. فالقارب الذي لا يتجاوز طوله 8 امتار يحمل الاهات والالم، ويحمله بحر لا يرحم وموج اقسى من الجلادين في بلدي فكل موجة تضرب القارب ترسم صورة عائلتي في السماء ولكن الصوره كنت دائما اراها وهم مبتسمين فيها .

ساعة ونصف الى ان وصلنا ساموس الجزيرة اليونانية التي تمثل بداية القارة الاورببه ولم كنا نعلم انها بداية اخرى بمصير مجهول و معاناة سنعيشها. رحلة جزيرة ساموس التابعة لليونان رحلة البداية بعد ان وقفت على ارض البداية نظرت في الافق الواسع هل ساستطيع الوصول هل سانجح عائلتي تامل وصولي لاصنع مستقبل لهم بدلا من البقاء في الجحيم. بدات بخطوتي الاولى وانا اعرف ان طريقي اطول من الخارطة التي احملها .. ساعبر اوربا سيرا على الاقدام كما فعلت الاقوام السابقة قبل الميلاد. توجهت الى اثينا وتحديدا ساحة امونيا حيث بيتي الذي استريح فيه انام في الشارع ووسادتي هي الرصيف، استمع الى اصوات الناس وارى نظراتهم التي تحمل استغراب كيف لهؤلاء النوم لايام في الشارع؟، قررت انا ومن معي الاستمرار في السير باتجاه مقدونيا، فوصلنا الى الحدود اليونانية المقدونية كانت مقدونيا تبعد خمسة كيلومترات كنا نسير حاملين طعامنا وشرابنا نتشاركه مع بعض لم يبقى ما يهم في جيوبنا وحقائبنا غير ما يبقي على قيد الحياة. كم كانت هذه الرحلة صعبة ..

خمسة كيلومترات تذكرت فيها عائلتي وجه ابني الحبيب زوجتي خاصة عندما ارى اطفالا بعمر الزهور يسيرون تحت الشمس الحارة والتضاريس الوعرة ليبحثوا عن الحياة. اكثر ما كان يؤسفني هو مشاهدة الاطفال يتعبون من السير فيحملهم ابائهم و عدها امهاتهم و بعد الارهاق كان الغرباء يحملونهم، نعم نحن نحمل المستقبل لاننا فقدناه، فعسى ان يكون هؤلاء الاطفال هم المستقبل الجديد و الواعد. في العادة وخلال المسيرات الطويلة للبحث عن الامن و الامان يحاول اللاجئون ان يرفعوا معنوياتهم وامالهم ، ولكن ماكان اسوء ان الاخبار في هواتفنا تنقل اخبارا سيئة للاجئين.. كانت كما هي الحرب النفسية تاتي بالاخبار لتحبطنا.. هنا كانت النساء تبكي والرجال يفقدون العزيمة.. لماذا الرحيل و الحدود تغلق وحق اللجوء يضيق. حتى ان بعض الاخبار قالت ان تجار الاعضاء البشرية يرحبون باللاجئين، لا اعرف لماذا هذا العذاب هل ستكون هذه الرحلة للمجهول؟ عبرنا مقدونيا وصربيا ووصلنا الى المرحلة الاصعب وهي “هنغاريا” التي كان يجب ان اضع بصماتي هناك لكي استطيع العبور ولكن في نفس الوقت اذا تم اخذ بصماتي فهذا يعني لن استطيع اللجوء الى دول شمال اوربا بحسب اتفاقية دبلن هذا يعني ساقف في هنغاريا، هل انتهت رحلتي ؟ هل توقفت؟، كان هدفي الاستمرار الى مكان اخر حيث هناك من يساعدني ولهذا وضعت صورة ابني و زوجتي و قلت في نفسي من اجلكم سافعل اي شيء فاما الموت او الحياة، لن اجعل ابني يعيش ما عشته ،

 

ساصنع له مستقبل رائع، سانطلق دون البصمات حتى لو كان مستحيلا، هنا قررنا نحن اللاجئون السير في الغابات الكثيفة و الطرق الوعرة التي لم يدخلها انسان للهروب من الشرطة وحرس الحدود.. خوف، بكاء، رعب كانت في عيون العوائل النساء ، الاطفال ، لانهم واجهوا اسوء كوابيسهم خاصة بوجود الافاعي و العقارب و غيرها، و بعد ظلام الغابات. ظهرت شمس الامل خرجنا دون ان نخسر دون ان تنتهي رحلتنا الى الحياة الى الامن خرجنا من هنغاريا، وهنا ولاول مرة في رحلة الحياة و الموت اصل المانيا.. وصلت وكان الاستقبال بالورود لانهم يعرفون ان هذه الرحلة يفعلها المجنون الذي يعرف انه سيخسر حياته في مكان ما، او من خسر مستقبله وكان عليه ان يخسر حياته، فهرب ليبحث عن الامان. رحبوا بنا ترحيب الجنود العائدين من الحرب، كم كانت مشاعر رائعة..

نجوت من الموت في بلدي و في طريقي و الان في المانيا ساستلقي في احد الشوارع وانظر الى النجوم لارى صورة عائلتي هناك في السماء عالية، نعم ساضعكم عاليا لن استسلم سانطلق الى وجهتي الاخرى الطريق الى فنلندا اضواء كثيرة واصوات ترحيب و جمهور كبير يرفع لافتات كتب عليها “مرحبا بكم” كانوا يملئون محطات القطار والشوارع والساحات العامة.. الجميع يرحب بوصول الانسان المظلوم الهارب من الموت .. الجميع يرحب لانهم انسانيون، كم هو رائع الشعب الالماني، استقبلونا وكأننا عائدون من معركة الحياة والموت منتصرين بها، رائعه هي المانيا ورائحة الحرية والعدل والمساواة والانسانية تملؤها فهل من بقاء؟ لقد كان امامي خيارين اما البقاء او الاستمرار في رحلتي لبلوغ فنلندا .. فكنت في حيرة من امري، لانهما بلدين يتنافسان على قمة الانسانية و احتواء اللاجئين وروعة الحياة..

 

وكان الخيار صعبا هل اختار هذه الانسانية او تلك.. هل اختار هذا الامان او ذاك؟ في النهاية قررت الاستمرار لانني شعرت ان المانيا قد امتلئت بالباحثين عن الامان عن الحياة او ما يمسى “اللاجئين”. انطلقت الى فنلندا وانا اضحك كثيرا كم هي غريبة هذه الحياة عندما كنت في بلدي العراق كنت افضل ان اختار الموت بقنبلة مزروعة على الطريق لانها اسرع من اطلاق الرصاص المنتشر بالشوارع والذي يقتل ببطئ احيانا وكنت اختار ان اموت على يد الارهاب لانه يقتل سريعا على ان اتعذب طويلا بيد المليشيات التي تحتل بغداد وتمارس التعذيب والقتل على الهوية. رميت بذكرياتي عن الموت واتجهت نحو الحياة نحو الامان نحو الانسانية فنلندا، وقد شعرت ان فنلندا عاشت وعرفت المعاناة التي عشتها.. فقد خاضت حربا اهلية طاحنة بعد نهاية الحرب العالمية الاولى وقد عانت انهيار الدولة وانعدام الامن ونزوح المواطنين،

 

لكنها نهضت و صارت واحدة من الدول المتقدمة بعد هذه التجربة المريرة. والان اتجهت الى البحر بين المانيا والسويد ولكن ليس كالبحر الابيض حيث ارى جثث اللاجئين الذين هربوا من الموت في العراق ليمسك بهم الموت في البحر وكنت اراى بقايا الملابس والهويات و الصور للاجئين ذهبوا في اعماق البحر وبقيت ذكراهم تطفوا على السطح.. ايضا رميت بصورة الموت واتجهت الى بحر الحياة .. انه البلطيق اتجهت وكان شعوري كشعور كريستوفر كولومبوس مكتشف امريكا وجيمس كوك مكتشف الساحل الشرقي لاستراليا.. اما انا فساكتشف الحرية و الانسانية والامان.. ساكتشف الحياة. وصلنا الى مالمو ونحن سعداء لا موت فرقنا ولا امواج ارعبتنا نحن احياء.. فانطلقنا نحو السويد و تحديدا العاصمة ستوكهولم وهناك ايضا كان الترحيب الرائع وكان الخيار صعبا هل استمر او ابقى في السويد ؟ وهل اختار هذه الانسانية ام تلك؟ ولكني قررت الاستمرار فقد قطعت تقريبا (3993 الف كيلومتر) وصولا الى اول نقطة في فنلندا ولم يبقى الى هدفي غير مئات الكيلومترات لاقطعها لالتقي بالذين يؤمنون باهمية الحياة اهمية الانسان هربت لابعد نقطة في اوربا لانني اريد ان ابتعد كثيرا عن الموت في بلدي.