الحشد الشعبي كيان جديد ولد من رحم الشعب العراقي، استجابة لنداء المرجعية في الجهاد الكفائي، جاء النداء استجابة لضرورات المرحلة الحرجة التي يمر بها العراق، وقد جاء توقيت النداء في الوقت المناسب، سيما وأن العراق يتعرض إلى أشرس هجوم وحشي من داعش الوهابية الأمريكية الصهيونية البعثية، الملفت في ظاهرة الحشد الشعبي أن الناس يتسابقون في التطوع للإنخراط في هذا الوليد الجديد، تلبية لنداء المرجعية أولا، واستجابة لنداء الوطن المقدس ثانيا.
المتطوعون في الحشد الشعبي لم يكن غرضهم الرواتب، فكثير منهم لا زالوا من دون رواتب، لأنهم لم يتطوعوا من أجل ذلك، بل تطوعوا استجابة لنداء الوطن والمرجعية، لكن من المفروض صرف رواتب لهم لغرض الدعم، ولأجل أن تعيش عائلة المتطوع بكرامة، رغم وجود الدعم اللوجستي من أبناء الشعب العراقي، وقد ضم الحشد الشعبي جميع أبناء الطيف العراقي بغض النظر عن الدين أو المذهب أو القومية .
أثبت الحشد الشعبي جدارة في الدفاع عن العراق بوجه الهجمة الشرسة من أعداء الشعب العراقي، إذ قلب ميزان القوى لصالح الشعب، وأفشل مشروع قلب المعادلة السياسية لصالح البعثيين، وسياسيي الإنتماء الطائفي المدعومين من خارج الحدود، كما أفشل مشروع احتلال بغداد، والمحافظات الأخرى من داعش المدعومة دوليا وإقليميا، لقد شعر أنصار مشروع داعش بالقلق الكبير لفشل مشروعهم في تحقيق الأهداف المطلوبة، بسبب صولات الحشد الشعبي الداعمة للجيش العراقي وقوى الأمن الأخرى .
الحشد الشعبي يكتنز رمزية كبيرة نستوحي منها، الإيمان بالله والدين، احترام وطاعة كبيرة للمرجعية الرشيدة التي هي سور حماية للدين والوطن والشعب بكل ألوانه، حب الوطن والشعب والتضحية في سبيلهما، ونستوحي منه الغيرة والوطنية والحمية والنخوة وحماية العرِض والشرف، كذلك نستوحي أن قادتنا ومراجعنا لا يفرقون بين عراقي وآخر، بل ينتخون لكل عراقي يتعرض للمظلومية والضيم والعدوان بغض النظرعن دينه أو مذهبه أو قوميته، ونستوحي . . ونستوحي الكثير.
الحشد الشعبي أصبح عنوانا كبيرا يفتخر ويعتز به كل عراقي أصيل، رمزية الحشد الشعبي كبيرة، لا يمكن حصرها في هذه الكلمات، فهنيئا لكل من تطوع في صفوف هذا التشكيل الوطني، العراقيون وهم يعيشون اليوم أفراح انتصارات الحشد الشعبي والجيش والشرطة الإتحادية وبقية تشكيلات الدفاع عن الوطن، ينظرون بشموخ إلى رمزية الحشد الشعبي الكبيرة التي أخرست أصوات أعداء العراق، لكن نسأل هل يتذكر العراقيون أيام ( الجيش الشعبي ) السوداء؟ وماذا يرمز عندهم؟ وكيف يعيشون ذكرياته اليوم؟ هذه الأسئلة أثارها في ذاكرتي أحد الأخوة الأعزاء .
ارتبط الشعب العراقي لأربعة عقود من الزمن تقريبا، بذكريات أليمة كثيرة في فترة حكم حزب البعث الدموي، حتى سقوط المقبور صدام في ( 2009 م )، ومن ذكريات الحزن والأسى والألم التي يتذكرها الشعب، تشكيل (الجيش الشعبي) والصحيح الجيش اللاشعبي، لأن هذا الجيش لا يرمز إلى أي درجة من درجات الشعبية، وكل إجراء يقوم به حزب البعث، أو شعار يطلقه في ذلك الوقت يتحدث عن الشعب أو الشعبية، لا يرمز إلى أي درجة من درجاتها، بل يرمز إلى العدوانية والكراهية للشعب، وكل ممارسة باسم الشعب، تضمر الرفض الشعبي لهذه الممارسة، فعندما يقول البعثيون (الجيش الشعبي)، فهذا يضمر اللاشعبية والإكراه والقهر ومصادرة الحرية والكرامة والإرادة، هذه رمزية ( الجيش الشعبي )، كذلك عندما يجبرون الناس على ممارسة عمل ما بالفرض والإكراه، تحت عنوان ما سمي في حينه (العمل الشعبي) إذ كانوا يسيطرون على ممتلكات الناس بالقوة، مثل سيارات الحمل أو النقل، التي ينقلون بها مقاتلين أجبروهم للقتال في جبهات الحرب ضد إيران، فكل ما نسمع عن اصطلاح ( الشعبي ) في قاموس حزب البعث، رمزيته الإكراه والإهانة ومصادرة الحرية والكرامة، ومن يرفض هذه الممارسة مصيره السجن أو الموت أو الطرد من الوظيفة أوالعمل، هذه هي رمزية ( الجيش الشعبي ) أو ( العمل الشعبي ) أيام حكم حزب البعث في العراق .
عندما يستعيد الشعب هذه الذكريات اللا إنسانية يشعر بالقرف والإشمئزاز، فهي ترمز إلى عدوانية نظام البعث، وإلى كراهيته للجماهير، وترمزإلى استبداد النظام وظلمه واستهتاره بالمبادئ الإنسانية من حرية وكرامة، وتجاوز على الممتلكات الخاصة، وترمز إلى همجية نظام البعث، واستخفافه بالإنسان وحقوقه، كلنا نتذكر كيف ينهزم الناس عندما يرفضون الانخراط في تشكيلات حزب البعث، التي يسميها ( الجيش الشعبي )، أو( العمل الشعبي ) فهي لا علاقة لها بالشعب، لأن مفهوم الشعبي يرمز إلى الطوعية للانخراط في هذه التشكيلات، في حين يتعرض الناس إلى التهديد بالسجن وأحيانا القتل، أو الفصل من الوظيفة والعمل في حالة الرفض.
عندما نتذكر تشكيلات حزب البعث ( الجيش الشعبي ) أو( العمل الشعبي ) ورمزية هذين التشكيلين، لنقارنها اليوم مع رمزية ( الحشد الشعبي )، نرى الفرق الكبير، فعلى عكس تشكيلات حزب البعث ورمزيتها التي تسبب الألم، نشعر أن رمزية (الحشد الشعبي) تؤشر على الحب والطاعة والتضحية من أجل الدين والوطن، وتشعرنا بالإنتماء إلى ديننا ومرجعيتنا ووطننا، وإلى شعبنا الذي يضحي من أجله أبناء الحشد الشعبي بغض النظر عن الدين أو المذهب أو القومية .
نستوحي من تشكيل الحشد الشعبي و ( الجيش الشعبي ) رمزيتين ونسقين متناقضين متقاطعين، نستوحي من الحشد الشعبي الحب والطاعة والإندفاع للشهادة وإلى غير ذلك من الصفات الإيجابية، ونستوحي من ( الجيش الشعبي ) الانهزامية والكراهية والإكراه وصفات سلبية أخرى، نستوحي من (الجيش الشعبي) قوة خارجية قاهرة تجبر الناس للتطوع في هذا التشكيل، ونستوحي من الحشد الشعبي قوة داخلية تدفع للتطوع والإندفاع ذاتيا لقتال عدو مشترك لجميع العراقين، نرى في الحشد الشعبي التدافع للشهادة، استجابة لنداء المرجعية للجهاد الكفائي، ولولا الحشد الشعبي لحصل ما لا يحمد عقباه .
هنا تذكرت صاحبي الذي أثار ذاكرتي ، وحرّك مشاعري عندما قال:
هل تتذكر ( الجيش الشعبي )، واليوم ( الحشد الشعبي )، والفرق بين الإثنين.
نعم، يتذكر جميع العراقيين ( الجيش الشعبي ) و ( العمل الشعبي )، إذ ينسبونهما إلى الشعب باطلا وكذبا، بل كان التشكيلان سيفين مسلطين على رقاب الناس، يرمزان إلى الظلم والعدوان والاستبداد والقهر والإنتقام والخوف والكراهية ومصادرة الحريات، وربما السجن والموت ظلما .
قلت لصاحبي شتان بين الإثنين الحشد الشعبي و ( الجيش الشعبي )، فأكد كلامي، وقلنا معا شتان بين هذا وذاك .

بقلم: علي جابر الفتلاوي