تطلق الدكتورة سهام الشجيري في كتابها المتميز (أنسنة الإعلام..جدلية التأثير والتغيير) الصادر هذا العام 2015 عن دار الفا للوثائق الجزائرية بـ(968) صفحة، قضية مشروعية المفاهيم المؤسسة لمعنى العلاقة بين فعل الإعلام ونظام الحياة الانسانية من مسلمات تبدو لنا انها إطلاقية وغير قابلة للنقاش، واعتبارالمنظومة التواصلية في إطارها العام تشكل الوعاء والدلالة، وهذا الكتاب يطلق نداء للعمل الفكري والبحثي لصياغة منظومة فاعلة لتأكيد جوهر الفعل التواصلي والإعلامي في الحياة الانسانية، ومن أجل ان يبقى الإعلام قائما برسالته الانسانية الخلاقة بعيدا عن كل أشكال المصادرة والهيمنة، وتستعين بالأقوال المأثورة كجزء من تدعيم فكرتها المتفردة في هذا المجال، وتذكر الشجيري ما تحدث به جلال الدين الرومي أحد أبرز متصوفة الاسلام، عن أستاذه وملهمه الروحي الشيخ شمس الدين تبريزي، ونوع القيم والمفاهيم التي حاول لفت إهتمام الناس لها، منها مشهد إنهماكه وسط صخب وضجيج المتبضعين في السوق وهو يتفرس وجوههم وملامحهم، وعندما يسألونه عن ضالته وعما يجهد في البحث والتنقيب عنه، يقول لهم: أبحث عن الإنسان، فيردون عليه سريعاً وبكل ثقة: لا تتعب نفسك فما تبحث عنه غير موجود.
تتبنى د.سهام الشجيري فكرة الأنسنة التي ورد مصطلحها في كتاب (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) للكاتب العربي المفكر محمد أراكون، ومن أهم ما طرحه، تنبيهه إلى أن العاصمة الإسلامية بغداد كانت من أكثر المدن حداثة في الوقت الذي أنطفأت فيه الأنوار في أوروبا ومع تطور المجتمعات الإسلامية بدأت تعرف مفهوم الأنسنة، وكان محمد أركون قد أمضى حياته تقريبا في الكلام عن النزعة الإنسانية في الإسلام، ومثله فعل أدورد سعيد ومحمد عابد الجابري وغيرهم، متفقين على أن الحضارة العربية الإسلامية عرفت النزعة الإنسانية قبل الغرب بزمن طويل، لقد عرفتها في القرنين الثالث والرابع للهجرة، أي التاسع والعاشر للميلاد، ويرون أن المجتمع الإسلامي لم تتوفر له الفرصة لممارسة تنويره الخاص والذي هو بحاجة ماسة له ولتنوير المدونة النصية الرسمية المغلقة، كما عرف فكر الأنسنة في تراثنا العربي من خلال ابو حيان التوحيدي، والجاحظ وغيرهما، وعرفه الكثير من الشعراء والأدباء في أوج الثقافية العربية والإسلامية في القرون الهجرية الخمسة الأولى وحتى سقوط الأندلس، أما في العصر الحديث فتتبنى الدول المتقدمة مفاهيم الأنسنة في دساتيرها وقوانينها، وبرامجها ومناهجها المحلية.
يتناول هذا الكتاب قضية محورية في حقل التواصل الإنساني، ويكشف التجول الواعي في النص ومضمونه عن مجموعات أولية وتراكيب جزئية تهدف الى الاحاطة بموضوعة مفعمة بالقدرة على التعبير عن الواقع الراهن، قضية مؤطرة بعنف اللغة اذا صح التعبير للاحاطة من داخل شرنقة الإعلام وفي اطار الحركة التطورية المتدافعة بسرعة ممكنات التقدم العلمي للنظام الإعلامي الراهن بالغايات التي يسعى الإعلام لنشرها واشاعتها في حياتنا، ومن منظور مختلف تعرض المعالجة المنهجية في الكتاب حدود الأزمة البنيوية الراهنة التي تحيط بالفعل الإعلامي الراهن والذي تم اختطافه ومصادرته لغايات متصلة بالهيمنة والاستحواذ والسيطرة، وأية مفارقة حين نحاول أن نكيف نظريا الازمة الراهنة مع متطلبات الاخضاع لمسلمات عرفناها قبل عقود من الزمن في الإطروحات الفكرية التي تناولت مبادىء وأخلاقيات العمل الإعلامي وانسانيته، انها قضية أكثر من شائكة وحرجة وتستدعي التوسل الحثيث باللغة كي تحمل أمانة المعنى والغاية من البحث في هذا الميدان، والعلامات الفارقة في التناول والمعالجة الفكرية التي قدمتها المؤلفة كانت في الواقع تبدأ من فكرة تسجيل الواقع وإعادة انتاجه، وهي ليست عملية تسعى نحو بناء إستيهامات فكرية مستندة الى الرغبة في تحطيم القشرة التي تغلف فعل الإعلام، بل انها عمليا تسعى الى صياغة شكل معياري يمكن من الاحتكام له بشكل محايد وموضوعي، وبمعنى آخر السعي نحو افتراض وجود حراك إعلامي هادف متسم (بالأنسنة) المدركة من القائمين على تفعيله في المجتمع لغايات خلاقة وبناءة، هذا الافتراض بحد ذاته يلقي على القارىء مسؤولية إكتشاف حجم الفجوة القائمة اليوم بين النوايا المضمرة والغايات الحقيقية وراء تمكين الإعلام من الوصل والتأثير في في الافراد والمجتمعات، والتأمل في لجة البحر ليس مثل الغوص في أعماقه، والمشاهد المتصلة بواقع دور الإعلام في المجتمع التي تعرض تفاصيل معززة بالقرائن عن (البيئة الملوثة للإعلام)، تعبير يختصر القصة بأسرها، والحوسبة الرياضية الموظفة في أداة التفكير والمعالجة كانت تحاول من خلال الخوض في غمار تفاصيل المعالجات الذي عرضها الكتاب، تسعى بشكل حثيث نحو بناء فضاء مشترك بين المؤلف والقارىء، فضاء مشحون بالمسؤولية المشتركة لجميع من يرى في الإعلام نشاط معرفي خلاق يمكن ان يسهم في ضمان حياة أفضل للبشرية، وحرية حقيقية للانسان.
وليس من قبيل المصادفة ان يتوافق مضمون هذا الكتاب مع تصاعد الدعوات الفكرية لتعزيز المسؤولية الاخلاقية لحماية الانسان والمجتمعات من تغول بعض وسائل الإعلام، ولم تعد تلك الدعوات تتستر وراء قضية المحافظة والدفاع عن منظومة القيم والاخلاق حسب، ولكنها ترى مستقبل يتسم بالغموض والالتباس من التوظيف المقصود والمبرمج لوسائل الإعلام باتجاه صياغة عالم مسيطر على منافذه لغايات معبرة عن الهيمنة والاستحواذ، والى تسرب القيم الفاسدة الى ميدان الإعلام على نحو واسع، وهو ما أشرت مخاطره المؤلفة بوضوح شديد، ودعت الى تكريس مفهوم الأنسنة…(ان أنسنة الإعلام، تعني بأن يصبح أكثر إهتماما بالانسان منه بالسياسات والقضايا العامة، وان فكرة الانسنة، وقيمها الاخلاقية، تنبع من انها فكر إنساني يؤمن بفضائل الانسان، كما يؤمن فكر الانسنة بحق الانسان بالعيش بكرامة وحرية وعدل ومساواة ..) ذلك أن للأنسنة من دور فعال بتنمية المشتركات الوطنية بين أبناء الشعب الواحد، ووضع الصيغ الكفيلة لأنسنة الأحداث، والموضوعات، والمشكلات، وخلق عقد إجتماعي متواز وثابت على مرتكزات بين جميع الأطراف، لخلق ممارسات يومية تمنحنا الشعور بالنظام والأمان، لكن ليس المقصود بالأنسنة أن ينبري بعض الصحافيين لنشر بعض قصص الحرمان والفقر، لاستدرار تعاطف الجهات الرسمية، وحل مشكلاتهم، وإن كان ذلك مطلوباً، على ألا يصادر كامل الجانب الإنساني في الإعلام، لكن المقصود بأنسنة الإعلام تجذير وبناء مساحة عميقة وإهتمام وعناية دورية بالشروط الإنسانية العامة في المجتمع، كما توضحه الشجيري في هذا الكتاب، إذ تذكر قول أحد الإعلاميين العرب الذي يترأس قناة إخبارية مشهورة وهو يتحدث عن قناته:(اجلس على مفاعل نووي، يمكن أن ينتج الكهرباء ويضئ مدينة، او يمكن ان يسبب الدمار، الأمر يتوقف على الشخص الذي يجلس فوق الكرسي حيث اجلس ليقرر أي الطريقين يسلك) التشبيه بالغ الدلالة والعمق، فالإعلام مثل القوة النووية، يمكن ان يكون نعمة او نقمة، ويمكن له ان يضئ او يدمر، الأمر كله مردود إلى من يملك سلطة اتخاذ القرار:هل ينحاز إلى الخراب والدمار وتغييب الوعي، أم يراود الإضاءة والتنوير والانتصار للعقل بالعقل، أي تكريس العداء للعقل والتفكير العقلاني، والمعنى المراد من(أنسنة الإعلام) فى هذا الكتاب هو إبراز إنسانية الإنسان في الرسائل الإعلامية عبر وسائل الإعلام المختلفة والمتعددة، بإعتبارها رسائل تعبر بحداثة عن الحضارة الإنسانية والأنسنة متفاعلا فيها مع إحداث التطور وتفعيل التنمية، وتصبح الأنسنة هي، عملية تطوير الإنسان البشري ليصبح إنسانا مؤنسناَ يؤمن قولاً وعملاً، وبقناعة ذاتية بحق كل بشرٍ في الحرية، والعدل، والمساواة، والديموقراطية، والعدالة الإجتماعية بصرف النظر عن دينه، أو عرقه، أو لونه، أو ثقافته، أو جندره (أنثى أو ذكر) مثلما نصت عليه مواثيق حقوق الإنسان ولا تحوله إلى رقم وأشلاء متناثرة هنا وهناك، وإنما تعامله كوريث الله في الأرض، وبهذا المنهج فقط يمكن لوسائل الإعلام عبر صدقيتها وحيادتها وإبتعادها عن الولاءات والتسييس وجهات التمويل والدعم غير المحايدة من تحقيق الأنسنة والتخلص من الوحشنة، أي أن يشعر الإنسان بإنسانيته وبكيانه وبكرامته وحريته، وكلما أزداد الخطاب الإعلامي، نضجاً ووعياً بهذه الرسالة، كلما ازدادت صدقاً وحياداً وقيمة، بل إن الإنسان إذا ما فقد هذا الإحساس الجميل بإنسانيته تجده حينها فاقداً لكل معاني الحياة الكريمة، مهما كانت الحياة مقبلةً عليه بزخرفها، فأنسنة الإعلام، يشير إلى معنى واحد ألا وهو محورية الإنسان، فالإنسان وبحسب النزعة الإنسانية أو الأنسنية هو المهيمن على كل شيء، وهو معيار كل شيء، ومقياس لكل شيء، لأن الإنسانوية لا تعترف بأي وجود أو سلطة تضاهي سلطة هذا الإنسان، فكيف لا يكون للإعلام تأسيس مثل هذه الرسائل، إذ عليها ان تكرس بأن الإنسان هو ضالتها الوحيدة، وإستقطابه إنما يعني جعله من أولويات أهدافها وغاياتها النبيلة.
من هنا تركزت دعوة الشجيري لأنسنة الإعلام بمختلف مسمياته، فكان جهدها المبتكر مستندا الى مصادر مختلفة لكبار الكتَاب والأدباء العرب والأجانب، بغية كسب التأييد المنطقي والواقعي لأطروحة الأنسنة، وقد تضمن الكتاب ثلاثة عشر فصلا تناولت مختلف الموضوعات التي ترتبط بعلاقتها بجدلية التأثير والتغيير الذي تحدثه الأنسنة، إذ تناول الفصل الاول تأصيل المفهوم العام للانسنة، والفصل الثاني تحدد في أنسنة الإعلام، والفصل الثالث تناول الأنسنة وجدلية التأثير في الجمهور، وكان الفصل الرابع قد تناول أنسنة الإعلام وعلاقته بغرس القيم، اما الفصل الخامس تناول البعد الأنسنوي والرؤية الإعلامية، وتناول الفصل السادس البيئة الأنسنوية للإعلام، فيما تناول الفصل السابع تنمية الحس الأنسنوي في الإعلام، اما الفصل الثامن فقد تناول أنسنة اللغة الإعلامية، تلاه الفصل التاسع متناولا أنسنة الخطاب الإعلامي، وتناول الفصل العاشر أنسنة العولمة الإعلامية، والفصل الحادي عشرة تناول أنسنة الصورة في وسائل الإعلام، ويتناول الفصل الثاني عشرة أنسنة حضور المرأة في وسائل الإعلام، والفصل الثالث عشر والاخيرتناول أنسنة الإعلام العراقي، وعليه فالكتاب إضافة مهمة للمكتبة الإعلامية العربية والعراقية لأنه يشخص حجم تأثير الخطاب الإعلامي والتناول الإعلامي بالمتلقين في حين نحن بأمس الحاجة لاضفاء الصفات الانسانية والتسامح.