بعد سنوات مريرة من استخدام شيوخ العشائر كوسائل لتنفيذ مآرب النظام، واستحداث قسم خاص بتصنيعهم في ديوان رئاسة صدام حسين وتصنيفهم إلى موديلات أ،ب،ج، تم إسقاط هيكل ذلك النظام من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، واستبشر العراقيون خيرا حيث نالوا كأقرانهم الليبيين واليمينيين والسوريين وغيرهم من دول المختبر الديمقراطي شتى أنواع الاضطهاد، خاصة من تولى أمرهم من قيادات حزبية أو أمنية أو شيوخ أطلق العراقيون عليهم تهكما ( شيوخ التسعين )، استبشروا في أن لا يعود ثانية هؤلاء ليحكموا الدولة، لكن ما حدث للأسف كان أقبح مما مضى.
وباستثناءات قليلة جدا لا تخضع للقياس العام، أمام أعداد هائلة من شيوخ وأغوات العشائر والقبائل التي كانت وما تزال وستبقى إلى أن يأذن الله ويقيم مملكة المواطنة لمخلوقاته العاقلة، أدوات طيعة ولينة حد التدليس بيد المسؤولين والقائمين على الإدارة والحكم من مدير الناحية وحتى رئيس الجمهورية، مرورا وأنت ماشي بكل ضباط الأمن والاستخبارات والشرطة والمرور والمحاكم،
وليس غريبا أن تضع مملكة العراق في أيامها الأولى قانونا للبلاد باسم قانون العشائر، ثم يطور صدام حسين تلك العقلية إلى تأسيس مكتب خاص للعشائر وشيوخها في ديوان دكتاتوريته، بل إن تجلياته الفكرية تفتقت عن قوانين شتى من قبيل قانون إلغاء ما يسمى بالعمال واعتبارهم موظفين مع (علس) كل حقوقهم كطبقة عاملة وكل نظريات كارل ماركس حولهم، ثم قانون تصحيح القومية الذي يجيز للكوردي والتركماني والكلداني والأشوري الاعتذار عن خطأ أجدادهم في تسجيلهم باسم قومياتهم وتصحيح ذلك استنادا إلى تفتقات الفكر البعثي وإعادتهم إلى الصف الوطني في القومية العربية، والغريب انه اعتبرهم في معظمهم ( سادة ) ومن الدوحة الهاشمية، ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى تصنيف شيوخ العشائر والأغوات إلى ثلاث موديلات وهي ا،ب،ج ولكل موديل حقوقه ونوع العباية والدشداشة التي يلبسها في المناسبات الوطنية والقومية، كما كان يفعل احدهم في مدينتي حيث لا تتجاوز ( عشيرته ) بضع عشرات من الأسر وما لا يقل عن خمسة شيوخ و17 رئيس فخذ ووجيه، وكان قد اشترى لمعظمهم إكسسوارات المشيخة من الدشاديش والعباءات والعقال والكوفية وحتى الحذاء والسبحة. بهذه العقلية أقام صدام حسين دولته العظمى، التي انهارت خلال بضعة أيام، لا بسبب جبن مواطنيه بل لأنه أهانهم وجرح كرامتهم، ولم يكتفِ أولئك الذين احتلوا كرسيه في الحكم بمرارة تلك التجربة البائسة، فكرروا المشهد ثانية في استخدامهم لشيوخ العشائر ذاتهم، بعد أن استبدلوا صورة صدام بصور مختار العصر والمعممين الجدد و (بلشوا ) بالعمل على مسرح الديمقراطية بمعية وكلاء الرب على الأرض من بعض المعممين من المذهبين، ففي المحافظات الغربية التي سقطت بيد داعش المتوحشة، حاول نوري المالكي وجماعته تقليد صدام حسين باستخدام مجاميع من الانتهازيين والمرتزقة التي كان يعتمدها صدام ومن سبقه فيما أطلق عليهم الكورد بـ (الجاش) أو (الجته) أي عملاء الأنظمة الطاغية، خاصة بعض شيوخ وأغوات العشائر ممن أدمنوا عطايا وهبات القائد الضرورة، مضافا إليهم إكسسوارات جديدة مثل بعض النواب، حيث أصبح لدينا الآن سنة المالكي وأكراد المالكي، وهكذا دواليك في مصانع التهريج الديمقراطي، الذي تنتجه مؤسسة الفساد السياسي والمالي والاجتماعي وواجهاتها المتمثلة بمؤتمرات العشائر وتكريس القبلية والمناطقية والطائفية المقيتة، من أجل البقاء في السلطة باستخدام كل الوسائل الميكافيلية مهما كانت نتائجها وتداعياتها. بالتأكيد في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها من البلدان التائهة، ذات النماذج وان اختلفت الأسماء والعناوين لكنها بذات النهج، والسؤال المر هو هل إن الربيع العربي من إنتاج أولئك الذين أسقطتهم جماهير القدحة الأولى في كل من تونس ومصر وليبيا وقبلهم العراق؟