د.سمير ناجي الجنابي
إن رفع العلم الإسرائيلي في الاستفتاء الكردي في أربيل في 25 سبتمبر الماضي، يعكس مدى العلاقة بين إقليم كردستان العراق وإسرائيل، والأخيرة هي الدولة الوحيدة التي أيدت الاستفتاء وتشجع إعلان دولة كردستان، في الوقت الذي رفضت فيه جميع الدول الكبرى والدول الإقليمية الاستفتاء لتداعياته على أمن المنطقة والعالم، ولأن إعلان استقلال كردستان ستكون له انعكاساته الخطيرة على الدول المجاورة، ولذلك هددت كل من إيران والعراق وتركيا بعقوبات على كردستان من أجل إلغاء الاستفتاء وما يترتب عليه. والحقيقة أن موقف إسرائيل المؤيد لاعلان انفصال كردستان وإعلان قيام الدولة الكردية يرتبط بالاستراتيجية الإسرائيلية منذ إعلانها عام 1948م، في تفكيك دول المنطقة إلى كيانات طائفية وعنصرية، فقد قال بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل ” علينا أن نكون طرفًا في العملية السياسية في كل دولة عربية” وخاصة الدول المجاورة لها، ولذلك تبنى بن غوريون استراتيجية الأطراف Peripheral Strategy لتهديد الأمن القومي العربي وإثارة الأقليات العرقية والطائفية.
تظهر مراسلات موشيه شاريت رئيس وزراء إسرائيل آنذاك مع بن غوريون عام 1954م، مخطط إسرائيل لتقسيم لبنان وإقامة دولة مارونية، تكون إسرائيل ثانية في المنطقة العربية، وقد رد بن غوريون على شاريت في رسالة بتاريخ 27 فبراير 1954م، يقول فيها ” ويكاد يستحيل قيام هذه الدولة في الأحوال العادية بسبب افتقار المسيحيين إلى المبادرة والشجاعة اللازمة إلا أن الأمور من الممكن أن تأخذ طابعًا آخر في حالات الفوضى والثورة والحرب الأهلية حيث يتحول الضعيف إلى بطل، وربما حان الآن لإقامة دولة مسيحية إلى جوارنا”؟
ولكن الحلم الإسرائيلي لم يتحقق بسبب المد القومي في لبنان، حيث أسقط التيار القومي الرئيس البناني آنذاك كيل شمعون الذي كان كما أشارت الوثائق مرتبطًا بالاستخبارات البريطانية.
وأقامت إسرائيل علاقات مع تركيا وإيران وأثيوبيا لإحاطة الدول العربية بتحالفات إسرائيلية مع الدول غير العربية، فكانت أكثر الدول الثلاث عداء للدول العربية شاه إيران حيث أمد إسرائيل بالبترول وأصبح شرطي الخليج وفتح الباب للدعم الإسرائيلي للأكرادـ بينما كان بن غوريون يسعى في استراتيجيته مواجهة المد العربي في إفريقيا باستغلال أثيوبيا، كما حاولت إسرائيل استغلال تركيا في تحالفاتها مع الغرب في الناتو أو فيما بعد حلف بغداد الذي أدخل نوري السعيد فيه العراق، ولكن الثورة العراقية في تموز 1958م، أخرجت العراق، وكان لمصر دورًا كبيرًا في إحباط مخطط حلف بغداد؟
عملت إسرائيل على توطيد علاقاتها مع شاه إيران الذي كان ضعيفًا وتحت التأثير الأمريكي البريطاني بعد اسقاط حكومة الرئيس محمد مصدق عام 1953م، في عملية آجاكس التي هندستها الاستخبارات الأمريكية CIA والبريطانية MI6 بقيادة كيم روزفلت، بسبب تأميم مصدق للبترول الإيراني، ولذلك كان الشاه مدينًا للولايات المتحدة وبريطانيا في تثبيت حكمه، واستغلت إسرائيل ذلك وتغلغل الموساد الإسرائيلي في إيران، وأرسلت إسرائيل رجل الموساد ديفيد قمحي لدراسة الأوضاع السياسية في إيران والعلاقة مع الأكراد. حيث الخلافات الحدودية بين العراق وإيران حول شط العرب، فكان الشاه يدعم أكراد العراق كورقة ضغط على الحكومة العراقية واستنزاف الجيش العراقي وإضعافه.
وجدت إسرائيل في العلاقة مع إيران هدفًا استراتيجيًا لها، ففي توصية لديفيد قمحي بعد عودته من إيران في مايو 1965م” إن الأكراد يلهون نصف الجيش العراقي ” وهذا ما تسعى له إسرائيل لأن الجيش العراقي شارك في حرب فلسطين 1948م، وإن اشغال الجيش العراقي في مواجهة مع الأكراد يبعده عن المشاركة الفعلية ضد إسرائيل في حالة الحرب العربية الإسرائيلية.
والتقت الأهداف الاستراتيجية للشاه مع إسرائيل، حيث كما قال رئيس فريق الضباط الإسرائيليين لتدريب الأكراد في شمال العراق، المقدم تسودي ساجي، إن النظرية الاستراتيجية في عهد الشاه ” كان الايرانيون يرغبون جدًا في نشوب حروب متواصلة بين إسرائيل والعرب، بصورة تشغل الجيوش العربية، ولا تدع مجالا للإلتفاف إليها أو العمل ضدها”، وبسبب التقاء أهداف الشاه تعاون جهاز السفاك الإيراني مع الموساد الإسرائيلي في دعم الأكراد في العراق ودخلت المخابرات الأمريكية CIA أيضًا في دعم الأكراد للضغط على العراق في عهد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر.
ذهب رجال الموساد في الخامس والعشرين من يونيو 1963 م، للالتقاء بالملا مصطفى البرزاني الذي أخذ في التعاون مع إسرائيل، حيث أقامت له محطة بث وقدمت الأموال، ثم فيما بعد أرسلت بعثة عسكرية لتدريب المقاتلين الأكراد، البيشمركة. كانت إسرائيل قد اعتبرت القضية الكردية فرصة ذهبية، وذلك لإضعاف الجيش العراقي. وقد أرسل مصطفى البرزاني في أبريل 1963م، مبعوثًا خاصًا للاجتماع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون.
وتطورت العلاقة بإرسال أربعة عسكريين برئاسة المفدم تسودي ساجي في ديسمبر 1965م، لتدريب الأكراد على حرب العصابات والتخريب، وكان الإسرائيليون حريصون على أن يبدو في مظهر الأكراد، فارتدوا الزي الكردي. وتعددت الزيارة والتدريب سواء في إسرائيل أو في إيران وكردستان العراق، وزار رئيس الموساد مائير عمت أكثر من مرة كردستان، كانت الثانية في سبتمبر 1966م، كما زارت بعض القيادات الكردية إسرائيل وعلى رأسها مصطفى البرزاني حيث زارها عام 1968م، وكان الإسرائيليون يشجعون البرزاني على إقامة دولة وليس حكمًا ذاتيًا.
إن إٍسرائيل رأت في كردستان العراق هدفًا استراتيجيًا حيويًا، ودعمت فكرة انفصال الأكراد وإقامة علاقة معهم كمنطقة إستراتيجية للتجسس وجمع المعلومات وانفصالها يشكل خطوة لتفكيك العراق إلى دويلات كما تأكد فيما بعد في استراتيجية إسرائيل في الثمانينات التي نشرت عام 1982م، لتفكيك الدول العربية.
وحتى بعد توقيع اتفاقية الجزائر 1975م، بين إيران والعراق، لإنهاء الخلافات حول شط العرب، وتوقف الدعم الإيراني لأكراد العراق، إلا أن إسرائيل استمرت في دعمها للأكراد واستمر تبادل الزيارات وتقديم الدعم السياسي والعسكري وحتى في المجال الصحي والثقافي للأكراد باعتبار التعامل معهم كنزًا استراتيجيًا لإسرائيل.
وبعد الثورة الإيرانية عام 1979م، وإغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران، أخذت إسرائيل تجد في كردستان أهمية إستراتيجية للتجسس واختراق إيران من كردستان العراق، واستغلت الحرب العراقية الإيرانية بتزويد إيران ببعض قطع الغيار من أجل استمرار الحرب كما حدث في فضيحة إيران جيت عام 1985م، حيث شارك مدير مكتب شمعون بيرس مع الوفد الأمريكي في زيارة طهران.
وجدت إسرائيل فرصة ذهبية في تعزيز وجودها في كردستان العراق بعد فرض منطقة الحظر الجوي في شمال وجنوب العراق بعد تحرير الكويت في مارس 1991م، وجاء العديد من اليهود من أصول كردية إلى كردستان لمعرفة مجريات الأحداث في كردستان وتحت شعار البحث عن أقرباء لهم، وأخذت العلاقة بين حكومة كردستان تأخذ درجة عالية من التنسيق والاستثمار في مجالات النفط والزراعة، وأفتتح أكثر من مكتب إرتباط لإسرائيل في شمال العراق، وباتت منطقة شمال العراق أهم منطقة يتواجد فيها الموساد الإسرائيلي. وتكررت زيارة قادة الموساد لمنطقة كردستان العراق، ففي يوليو عام 1998م، زار الجنرال افرايم هليفي رئيس الموساد آنذاك كردستان العراق يرافقه عدد من الضباط الكبار في جهاز الموساد كما أن وفودًا كردية زارت إسرائيل في تلك الفترة للتنسيق والتعاون مما يشكل خطرًا على العراق والأمن الإقليمي.
وتوافدت الشركات الإسرائيلية للاستثمار في كردستان، هندسية ومقاولات إسرائيلية، ويتولى إدارة هذه الشركات ضباط متقاعدون في الاستخبارات الإسرائيلية كالموساد وجهاز الاستخبارات الداخلية (الشاباك) والاستخبارات العسكرية (أمان)، ويشرف على إدارة هذه الشركات، الجنرال داني ياتوم رئيس الموساد السابق. وتعمل الاستخبارات الإسرائيلية تحت غطاء الشركات التجارية والاستثمارية للتجسس في المنطقة ليس على العراق فقط ,بل إيران وتركيا والدول العربية.
لعبت إسرائيل دورًا حيويًا في دفع الولايات المتحدة لاحتلال العراق عام 2003 م، لأن إدارة بوش كان يهيمن عليها التيار المحافظ الموالي لإسرائيل، بل كانت الحرب لصالح إسرائيل في تدمير الجيش العراقي. ويوكد كل من الخبراء الأمريكيين أن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لعب دورًا في تشجيع إدارة بوش لاحتلال العراق، فمثلا يشير ستيفن والتز الأستاذ في جامعة هارفارد وجون ميرشيمر الأستاذ في جامعة شيكاغو في دراسة لهما عن اللوبي الصهيوني نشرت عام 2006م ” الضغط من إسرائيل واللوبي الصهيوني في واشنطن، كان له دور فعال في احتلال العراق غالبًا لمصلحة إسرائيل وليس البترول فقط.
وجاء الاحتلال ليفتح الباب على مصراعية في ظل الفوضى السياسية لانتشار الموساد في العراق وخاصة تعزيز العمل في إقليم كردستان للعلاقة التاريخية مع القادة الأكراد في الحزبين الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني الذي أصبح رئيسًا لجمهورية العراق والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني الذي يرأس إقليم كردستان العراق.
تعددت أهداف إسرائيل في إقليم كردستان العراق بعد 2003م، فبالإضافة للأهداف الاستراتيجية، فقد ذكرت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية بأن إسرائيل تستورد 77% من نفطها بأسعار مخفضة من منطقة كردستان العراق 2015م، وقدرت الصحيفة أن قيمة البترول المصدر حوالي مليار دولار، وقامت إسرائيل بإعادة تصدير جزءًا من هذا النفط.
وكشف الصحفي الأمريكي وين مادسن، عن مخطط إسرائيلي لاستيطان العراق، وقد ظهر دور بعض الأكراد في عمليات شراء الأراضي، في منطقة تعتبرها إسرائيل ملكية تاريخية لها وتعطيها طابع القدسية عند اليهود، وحسب الصحفي الأمريكي، فإن المخطط الإسرائيلي يهدف إلى توطين اليهود الأكراد في محل الكلدان والأشوريين. وفي تقرير مفصل أعده مركز دار بابل العراقي للابحاث فإن” التغلغل الإسرائيلي في هذا البلد طال الجوانب السياسية والتجارية والأمنية، وهو مدعوم مباشرة من رجالات مسؤولين من أمثال مسعود البرزاني، جلال الطالباني، كوسرت رسول مدير مخابرات السليمانية، مثال الألوسي، وهو نائب ورجل أعمال، كنعان مكية ..” ؟ ويقوم بهذه المخططات كما يقول وين ماديسن، ضباط من جهاز الموساد الإسرائيلي وبعلم القيادات الكردية.
ولم يقتصر الدور الإسرائيلي على التجسس وإدارة الشركات، بل تولى عملية اغتيال العلماء العراقيين، ويكشف تقرير صدر عن مركز المعلومات الأمريكي (2005م)، أن الموساد قام باغتيال 530 عالمًا عراقيًا وأكثر من 200 أستاذ جامعي وشخصيات أكاديمية ما بين 2003-2006م، وتشير معلومات أن الموساد جند 2400 عنصر، إضافة إلى وحدة نخبة سرية أكثر من 200 عنصر مؤهل من قوات البيشمركة من أجل الاجهاز على العلماء وتصفيتهم. وذكر الدكتور إسماعيل جليلي في دراسة له ” محنة الأكاديميين العراقيين ” أبريل 2006 م، أن الموساد الإسرائيلي شن 307 اعتداء على الأكاديميين والأطباء، وتمكن من اغتيال 74% منهم.
إن التأييد الإسرائيلي لاستقلال كردستان يمثل خطرًا على الأمن الإقليمي، ومركز عمليات متقدم لإثارة الفتن والحروب الأهلية من خلال تغلغل الاستخبارات الإسرائيلية في كردستان، وذكر الصحفي الفرنسي جورج مالبرونو بعد زيارة له لإقليم كردستان أن هناك حوالي 1200 رجل مخابرات من الموساد وخبراء عسكريين إسرائيليين يزاولون نشاطهم في إقليم كردستان منذ عام 2004م.
ومن خلال وجودهم في كردستان يمكن التغلغل في إيران والقيام بالاغتيالات، كما أشار الصحفي الأمريكي سيمون هرش في مقالة له في مجلة نيويوركر، بأن عملاء إسرائيليين بينهم عناصر في الموساد ينشطون في كردستان، وأنهم قاموا بعمليات تسلل من هناك داخل إيران للوصول إلى محيط المنشآت النووية فيها، وقد تم اغتيال عدد من العلماء الإيرانيين كانت أصابع الموساد ظاهرة فيها.
وبتحالف إسرائيل مع القيادات الكردية تدس عيونا وآذانًًا في إيران والعراق وسوريا وتركيا، وحتى لها علاقاتها مع حزب العمال الكردستاني الذي يعتبر منظمة إرهابية تقاتلها الحكومة التركية، وهذا ما قاله اللواء الإسرائيلي يائير غولان نائب قائد الجيش الإسرائيلي السابق، في تصريح له، بأنه لا يعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية. بل ما تردد عن علاقة إسرائيل بالمجموعة الانقلابية في تركيا أغسطس 2016م، لأن إسرائيل تعتبر أن سياسة حزب العدالة والتنمية لا تخدم مصالحها.
وبالاضافة إلى ذلك ما نشر من عدة دراسات، عن الدور الإسرائيلي والتخطيط للحروب الطائفية والعرقية في العراق والدول العربية عامة. ولذلك فإن الوجود الإسرائيلي في كردستان العراق يمثل تهديدًا يجب مواجهته من قبل دول الجوار لكردستان العراق، هذا وتردد في الصحافة التركية، عن صفقة مع إسرائيل عقدها مسعود البرزاني، بجلب 200 ألف يهودي من أصل كردي لتوطينهم في إقليم كردستان كما ذكرته أيضًا مجلة نيوزويك الأمريكية. فالخطر الإسرائيلي في كردستان يهدد إيران وتركيا ووحدة الدولة العراقية وبالتالي يهدد أمن الإقليم والأمن القومي العربي؟
إن مسعود البرزاني بإصراره على إجراء الاستفتاء بدعم إسرائيلي، متوقعًا أن تعمل إسرائيل على الضغط على إدارة ترامب بدعم استقلال كردستان، ولكنه رهان فاشل، وبالتالي فإن الشعب الكردي يدفع ثمن تآمر البرزاني تاريخيا مع إسرائيل، فالاستفتاء قلب توازن القوى الإقليمي في المنطقة وأحدث تقاربًا إيرانيًا –تركيًا – عراقيًا وقد تدخل سوريا مستقبلاً في هذا التقارب بسبب خطورة سياسة البرزاني في كردستان على أمن الشرق الأوسط بسبب رعونة تحالفه مع إسرائيل، وخطورة رفع العلم الإسرائيلي في أربيل مركز كردستان العراق كما أن الشعب الكردي المسلم لن يقبل ذلك.