كرار أنور ناصر:
على ما يبدو أن العلاقات السعودية الأمريكية بدأت تفقد خصوصيتها المتميزة بعد التصريحات التي ادلى بها الرئيس باراك أوباما مؤخراً في مقابلة له مع مجلة “ذي أتلانتك”، والذي شن فيها هجوما لاذعاً على العديد من حلفاء الولايات المتحدة ولاسيما الخليجيين، حيث وصف السعودية بمصدر التطرف والإرهاب، والقى عليها صفة الراكب المجاني أو المنتفع المجاني (Free Riders)، قائلا: “انهم يتاجرون وينتفعون من الحرب على الإرهاب دون المشاركة فيها، مؤكداً أن بعض دول الخليج تنتفع بالمجان من خلال دعوة أمريكا للتحرك دون أن تشارك بنفسها”. وقد عبر أوباما عن عادات سابقة كانت تدور في خلده خلال العقود الماضية مع الولايات المتحدة، حيث تدفع الأطراف الأخرى أمريكا للتحرك عسكريا، لكن دون أن تكون هذه الأطراف مستعدة للعب أي دور يذكر.
لقد جوبهت تصريحات الرئيس أوباما برد سعودي قاسٍ من الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية الأمير تركي الفيصل، معبرا عن انزعاجه من وصف السعودية “بالراكب المجاني” قائلا “نحن لسنا الذين يمتطون ظهور الأخرين لتحقيق أهدافنا” ومذكرا الرئيس أوباما بالخدمات التي تقدمها السعودية للولايات المتحدة على حساب الرياض، مثل شراء سندان الخزانة الأمريكية ذات الفوائد المنخفضة لدعم الاقتصاد الأمريكي.
لن نعدو الصواب عندما نعترف، إن مداخل التوتر في العلاقات السعودية الأمريكية لم تكن وليدة الحظة، وإنما جاءت نتيجة تراكمات ممتدة بدأت منذ وصول الرئيس أوباما إلى السلطة وتفاقمت بسبب العديد من الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط.
فمنذ تسنمه السلطة عام 2009، كان إصرار الرئيس أوباما على مبدأ اشراك الخصوم في الشرق الأوسط يثير حفيظة صناع القرار في السعودية، بوصفه استرضاء وتهاون أمريكي مع خصومها في المنطقة. غير أن أسباب التوتر بين الطرفين، نبعت بالدرجة الأولى من فقدان ثقة السعودية واستيائها من موقف إدارة أوباما عندما تخلت عن حليفها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك على أثر ثورات “الربيع العربي”، وأيدت حكم الإخوان المسلمين في مصر بوصفه احدى نتائج الديمقراطية، ومن ثم عارضت الإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد مرسي. الأمر الذي عزز وجه نظر السعودية بإمكانية تخلي الإدارة الأمريكية عن حلفائها المقربين في المنطقة.
وعوضاً عن ذلك، كان الموقف الأمريكي الحذر والمتردد من الأزمة السورية كثيرا ما يثير استياء السعودية من الولايات المتحدة، وقد زادت حدة هذا الاستياء بعد عدول الرئيس أوباما عن الحث السعودي لتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري على إثر تجاوزه الخطوط الأحمر الذي وضعتها إدارة أوباما على استخدام السلاح الكيماوي ضد المعارضة المسلحة. وقد عبر عن هذا الاستياء الداخلي السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير -الذي يشغل حاليا منصب وزير للخارجية- قائلا للنخبة المالكة “ان إيران هي القوة الكبرى الجديدة في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة هي القوة القديمة”.
ان تراجع إدارة أوباما عن تهديداتها بتوجيه ضربة عقابية للنظام السوري عام 2013، زاد من مشاعر الإحباط السعودية، لدرجة أخذت تفقد ثقتها بتحالفها مع الولايات المتحدة، الأمر الذي جعلها تعيد التوزان في علاقتها مع الولايات المتحدة، عندما توصلت إلى نتيجة مفادها أن علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة، لم تعد خاصة في ظل إدارة أوباما.
وعليه بدأ السعوديين يبحثون عن الاستقلالية في سلوكهم الخارجي لاسيما بعد أن وصل التوتر ذروته على إثر الاتفاق النووي الإيراني مع دول مجموعة 5 +1. وهو ما دفع النخبة السعودية للتفكير في حتمية رسم علاقات جديدة مع الولايات المتحدة، لاعتقادهم بان علاقتهم أضحت في مهب الريح بعد تراجع اهتمامات إدارة أوباما في الشرق الأوسط، وتخليها عن المنطقة لصالح إيران على حساب السعودية.
وقد قادهم هذا الادراك إلى رسم سياسات جديدة في المنطقة تضع السعودية قبالة إيران بصفتها الراعي والحامي للمصالح السنية في الشرق الأوسط، وقد بدأت تلك السياسات بانطلاق عاصفة الحزم، والتحالف العربي ومن ثم التحالف الإسلامي العسكري ضد “داعش”، والعمل على بناء علاقات اقتصادية مع العديد من التكتلات العالمية.
وكانت احدى نتائج ذلك التحول في العلاقات السعودية الأمريكية، هو تفاقم الصراع في الشرق الأوسط، لأسباب جيوسياسية تغذيه المفردات الطائفية، حيث أخذت السعودية تبحث عن موقع قدم بالغ التأثير في تفاعلات وتوازنات الشرق الأوسط، لتلقي بثقلها في سوريا واليمن ومصر ولبنان والبحرين والعراق للتصارع والتبارز مع إيران، ومنطق إدراكها يقول بان الولايات المتحدة تخلت عن المنطقة وسلمتها لإيران.
على الرغم من عدم وجود حجج منطقية تعزز الادراك السعودي بتخلي الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط لصالح ايران، نتيجة عدم وجود تحالف أو اتفاق أمريكي مسبق مع ايران يسمح لها بالهيمنة على الشرق الأوسط، إلا انه كما يبدو أن مشاعر الإحباط السعودية من الولايات المتحدة رغم وجود تحالف وثيق بين الطرفين، هي مشاعر بنيوية، تعود إلى طبيعة التحالف غير المتماثل بين سلطة اقوى وسلطة اضعف، يقول جيلين سنايدر استاذ العلاقات الدولية، ” أن القوة الأضعف في مثل هذه التحالفات قد تجد نفسها دائما بين مخاوف متعارضة من الإيقاع والإهمال” وهذه الدينامية تنطبق كثير على السعودية عند تحليل علاقتها مع الولايات المتحدة.
فعندما كانت الولايات المتحدة في ظل إدارة جورج بوش أكثر عدوانية مع إيران، كان السعوديين دائما ما يشعرون بالقلق من إمكانية تحملهم ثمن الانتقام الإيراني من أي هجوم أمريكي على إيران. إلا انه مع دخول الأمريكيين والإيرانيين إلى دائرة الحوار والتفاوض، أخذت السعودية تشعر بالقلق من أن يقوم حليفها الأمريكي بإهمال مصالحها في الشرق الأوسط، أو يتخلى عنها لصالح إيران.
وجل ما نستطيع قوله في هذا الصدد، هو أن التوتر بين الولايات المتحدة والسعودية قد دخل المرحلة المعلنة، ما يعني انه سيكون مدخلا محتملا لكلا الطرفيين لإعادة تقييم العلاقات الأمريكية السعودية، لاسيما في ظل تفاقم الصراع في الشرق الأوسط، وتصاعد خطورة الدور السعودي، وإمكانية تهديده للأمن والقيم الأمريكية من خلال دعم الإرهاب والتطرف في الشرق الأوسط.
والحقيقة أننا لا نستطيع أن نغالي في وصف المخاطر التي قد تترتب على تغيير المسار بين الطرفين في الشرق الأوسط، ولكن مع ذلك، لا نستطيع ونحن في معرض الحديث عن مسار ومستقبل العلاقات السعودية الأمريكية، أن نغفل امرين:
الأمر الأول؛ هو المال والنفط السعودي، فمن المعروف أن الأسس الكلاسيكية في العلاقات الأمريكية السعودية تقوم على فكرة مفادها: ضمان إمدادات الطاقة إلى الغرب، مقابل الدفاع الأمريكي عن المملكة العربية السعودية ضد أعدائها الخارجيون، بالرغم من أن هذا المنطق بدأ يختلف عند إدارة أوباما، ذلك لان الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى النفط السعودي نتيجة لاكتفائها الذاتي من النفط، وقد يكون هذا سبباً وجيهاً في تغير أولوياتها في الشرق الأوسط، لاسيما وان الولايات المتحدة أضحت دولة مصدرة للنفط والغاز وليس مستوردة لهما.
إلا أن المال السعودي لايزال يعمي بصيرة الكثير من الساسة داخل الولايات المتحدة، ذلك بان الأموال السعودية لا تزال قادرة على شراء النفوذ في واشنطن على الرغم من تراجع اعتماد الاقتصاد الأمريكي على واردات النفط السعودي، فبحسب قاعدة بيانات قانون تسجيل الوكلاء الخارجيين (Foreign Agents Registration Act) في الولايات المتحدة الذي يقضي بأن تعلن جماعات الضغط عن تمويلها من الدول الأجنبية التي تدافع عنها داخل الولايات المتحدة، فان المملكة العربية السعودية دفعت نحو 100 مليون دولار لجماعات الضغط والشركات والاستشاريين والمتخصصين السياسيين والاقتصاديين وللعلاقات العامة على مدى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ووفقا لمجلة الإيكونيميست، ” كل ملوك الخليج تنفق ثروات على شركات العلاقات العامة وجماعات الضغط حتى بدأ يقول مؤيدو الممالك العربية الغربيين، أن الشعب تحت ملكيات خيرة سعيد برؤية المعارضين المشاغبين الغريبين في الحبس، والأفكار الغربية حول حقوق الإنسان يعتبرونها غير مرغوبة، ولا تتلاءم معهم”.(1)
ولهذا ليس بغريب أن يصف الرئيس أوباما مراكز الأبحاث البارزة في واشطن على إنها ” ارضٍ محتلة من العرب، تروج ما يناسب مموليها”. فالمملكة العربية السعودية تصنف داخل الولايات المتحدة وبموجب قانون حرية الأديان على إنها “بلد ذي مصدر قلق خاص” ولكن تقليديا مؤسسة الرئاسة إدراكا منها لأهمية العلاقة مع السعودية، حرصت على اتخاذ إجراءات متعددة لحماية السعوديين من هذه الانتقادات على أساس أن انتقاد الحرية الدينية داخل السعودية، قد يأتي بنتائج عكسية، ويؤثر بشكل سلبي على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
الأمر الثاني؛ هو الانطباع التاريخي للعلاقات بين الطرفين، والذي يشير إلى أن أي انتقادات حادة لسياسة السعودية تبقى موضوعات تدرج ضمن الحوار الدبلوماسي الخاص بدلا من المناقشات الرسمية العلنية، ومنه يمكن الاستنتاج بان تصريحات الرئيس أوباما جاءت قبل خروجه من السلطة بأشهر معدودة، وتعبر عن وجهة نظر شخصية تزدري ذلك الانطباع التاريخي داخل الولايات المتحدة التي تفرض على الرئيس ألا يتخطى مصالح الولايات المتحدة في علاقته مع الشركاء القدماء، وهذا ما أشار اليه أوباما بالقول بان “مؤسسة السياسية الخارجية الأمريكية تجبره على معاملة السعودية كحليف”.
وبينما ينتظر السعوديين بفارق الصبر نهاية ولاية الرئيس باراك أوباما ويرون إن أي شخص يتولى السلطة في الولايات المتحدة سيكون افضل من الرئيس أوباما، ومع أن الاحتمالات مفتوحة، ولكن لا يبدو إن العلاقات السعودية الأمريكية سوف تدخل نوعا من التصحر السياسي مع الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ لا تدفع المؤشرات المستقبلية بهذا الاتجاه، ففي حال فوز هيلاري كلينتون، تلك التي أيدت غزو العراق ودفعت بقوة للتدخل العسكري في ليبيا، وبلورت الجهود لضربة عسكرية محتملة لسوريا، فاذا ما فازت كلينتون الذي يدعهما بقوة اللوبي السعودي والمعروف باسم “سابراك” فأن السعوديين سيتنفسون الصعداء.