هل ضل الفلسطينيون طريقهم، وعميت أبصارهم، وطمس على قلوبهم، وضرب على آذانهم، فلم يعودوا يروا غير المفاوضات سبيلاً لاستعادة الحقوق، وتحرير الأرض، والتخلص من الاحتلال، وتحقيق الاستقلال، وتأسيس وبناء الدولة، فباتوا يراهنون على السراب، ويؤمنون بالخيال، ويأملون الحصاد من الرياح، ويتوقعون الفرج من اللئيم، والخير من الشرير.
وأنهم عادوا ليجربوا الإدارة الأمريكية، ويثقوا في وعود الرئاسة وجهود وزراء الخارجية، الذين مضى على إدارتهم لملف الصراع العربي الإسرائيلي أكثر من نصف قرن، فما قدموا خلالها شيئاً غير تمكين إسرائيل وتحصينها، وتزويدها بالجديد الفتاك من الأسلحة، لتبقى دوماً هى الأقوى والأكثر تفوقاً، والأكثر عدواناً وعدائية، والأشد ظلماً وبطشاً.
ومع ذلك فما زالت وعودهم هي ذاتها لم تتغير ولم تتبدل، ولم يتحقق منها شئ، فقد مضت الأعوام وذهبت وعود الرئاسة الأمريكية بدولةٍ فلسطينية أدراج الرياح، حتى كادت أن تصبح وعودهم نكتةً يتداولها الناس، فالعام القادم يتجدد كل عامٍ ولكنه يأتي.
والاستيطان لم يتوقف ولم يتجمد، بل ازدادت شراهة الاسرائيليين حدةً، وباتوا يقضمون المزيد من الأراضي، ويصادرون الكثير من الحقوق، ويبنون المزيد من المستوطنات، ويوسعون القائم منها، في سباقٍ محمومٍ لا يتوقف ولا يتأخر، يزداد كلما انطلقت المفاوضات، وتحرك قطار السلام.
وتتضاعف المساعدات والمعونات المالية لتسريع الاستيطان كلما جلس المتحاورون على طاولة المفاوضات، ويتنافس المحسنون الغربيون في تمويل مصادرة الأراضي، وتمويل البناء والتعمير، وتشجيع منتجات المستوطنات، كلما ظهرت صورة تجمع الخصوم، يظهرون فيها وهم يبتسمون ويتصافحون ويتبادلون التهاني والقبلات.
لا يتوقف الإسرائيليون عن البناء يوماً إلا للتشطيب واستكمال أعمال الديكور، ولا يتوقفون عن التوسعة إلا ليتهيأوا للإنتقال إلى موقعٍ جديدٍ وأرضٍ أخرى، ويضحكون على المفاوض الفلسطيني ويهزأون منه، عندما يدعون أنهم استجابوا للشروط، وخضعوا للرغبة الأمريكية والغربية، فجمدوا الاستيطان لفترةٍ، لا استجابةً للشروط، ولا احساساً بالخطأ، ولكن ليحصلوا من الغرب على الثمن والبديل، في ابتزازٍ قذرٍ وخبيثٍ لا يتوقف، وتقليدٍ يهوديٍ قديمٍ لا يتغير.
والدولة الفلسطينية التي أعلن عنها أكثر من رئيسٍ أمريكيٍ وتعهد بها، لم ولن تقوم على طريقتهم، وقد ذهب أكثر من رئيسٍ أمريكي ممن تعهدوا ووعدوا، دون أن يحققوا شيئاً من وعودهم، لا لعجزٍ فيهم، أو لعدم قدرةٍ لديهم، أو لامتناع الأسباب وضياع الفرص، ولكن لأنهم كانوا يكذبون، ويعدون بما لا يوفون، ويتعهدون بما لا يقبلون بتنفيذه، وقد كانوا يعرفون أنهم يكذبون، ويخدعون ويماطلون، ويستخفون بعقول من يصدقهم، ويتلاعبون بعواطف ومشاعر من يؤمن بهم ويثق بكلامهم.
وقد سقط رائد مشروع دولة المؤسسات، وإنهارت خيالاته الاقتصادية، ومشاريعه الوردية، وأفاق الشعب من أحلامه في الرفاهية، وطموحاته في اقتصادٍ يصنع دولة، ويرغم الغرب ودولة الاحتلال على الاعتراف بها، ليجدوا اقتصاداً متدهوراً، وركوداً مميتاً، وبطالة مستشرية، وديوناً مذلة، والتزاماتٍ مالية مقعدة، وأمراضاً وادواءً إجتماعية مستعصية، وواقعاً مريضاً متأزماً يصعب الفكاك منه إلا بمعجزةٍ لا تتحقق.
وبين الاستيطان وعدمية الدولة، يمضي مسلسل التصفية والقتل، وتتواصل عمليات الاعتقال والتعذيب والمحاكمات العسكرية، ويستكمل الاحتلال سياسته في الاعتداء على المواطنين، ومداهمة القرى والبلدات، واجتياح المناطق وتخريب المنشآت والمصالح، وتدمير البيوت والمساكن، وخلع الأشجار وحرق المزارع والبساتين، في سلوكٍ حاقدٍ مريض، وممارسة شاذة متطرفة، تشي بأخلاقياتٍ إسرائيليةٍ قديمة، ونفوسٍ عفنةٍ منحرفة، حاربت الخير، واستعدت المصلحين، وقتلت الأنبياء، ونشرت المفاسد الرذائل بين الناس، وقتلت كل روحٍ خيرة، ونفسٍ بريئة، ونبتةٍ طاهرة.
رغم كل هذه الحقائق التي نمت وترعرت أكثر في ظل المفاوضات، وخدعة السلام، حيث وجدت فيها إسرائيل أجواءً مريحة، ومناخاتٍ مناسبة، وعقولاً يستخفونها، تحقق لها المزيد من الإنجاز والتقدم، وفق تصوراتها ومناهجها المعدة قديماً، إلا أن المؤمنين بخيار السلام، الذين لا يعرفون خياراً غيره، ويرفضون كل ما سواه، ويحاربون كل من خالفه وعارضه، فقد منحو وزير الخارجية الأمريكي الجديد، الذي جاء على ظهر حصانٍ جامحٍ، يحلم بالحل، ويمني نفسه بالنجاح، فرصةً جديدة، بعد جولةٍ سادسةٍ مضنية، لم ينجح فيها إلا بإقناع الطرف الفلسطيني بتقديم المزيد من التنازل، والقبول بالأمر الواقع، والتخلي عن شروطه المسبقة، ومواقفة المتعنتة المتشددة، بينما فشل فشلاً ذريعاً ومخزياً في زحزحة المواقف الإسرائيلية أو تغييرها، ووجد نفسه مضطراً أن يتبع الشروط الإسرائيلية، وأن يقبل بمطالبهم، وينزل عند رغباتهم، دون أن يشعر تجاههم بدونية، أو يحس أمامهم بالإهانة والاستخفاف.
لستُ أدري كيف يبرر الذاهبون إلى واشنطن، أو المؤيدون لخيار التسوية، إيمانهم بهذا الخيار، وهم يعرفون أن شعبهم يراه يقيناً خياراً للذل، وطريقاً للإهانة، ووسيلةً لتضييع الوقت، وتمرير الاستحقاقات، وكسب المزيد من الفرص، وفي الوقت الذي يعرفون أن العدو الإسرائيلي يخشى الإنقلاب إلى المقاومة، والتخلي عن خيار السلام إلى استراتيجية المقاومة، خاصةً أن الشعوب العربية باتت تؤمن بهذا الخيار، وتعمل لأجله، ولا تخشى أن تعلن أنه الخيار الأنسب والأقوى، والأكثر فعلاً وتأثيراً.
ليت قومي يعلمون أن المقاومة هي الوسيلة الأنجع، وهي السلاح الأقوى والأمضى، وهي التي توجع وتؤلم، وهي التي تجرح وتؤذي، وهي التي تعجل وتوصل، وهي التي تشفي وتروي، وأن العدو الإسرائيلي يخشى أن نعود إليها، ويبذل كل جهده لينأى بالشعب عنها، ويحول دون عودته إليها، وشعبنا لا يتردد عن خوضها، ولا يتأخر عن المضي بها، والتضحية في سبيلها، وسوابقه في المقاومة كثيرة، وعملياته شهيرة، وإنجازاته كبيرة، ويقينه بأنها مبعث الإحترام، ومنطلق التقدير، وهي بصدق وسيلة التحرير.