تزداد محنة الاقتصاد العراقي مع استمرار التراجع الحاد في اسعار النفط وعجز الحكومة عن ايجاد منافذ تمويل جديدة تسهم في تمويل الموازنة والاقتصاد. يتزامن ذلك مع حرب داعش وما خلفته من خسائر طالت معظم جوانب البنية التحتية في المناطق المحررة، فضلا على ضرورة تأمين التمويل المطلوب لاستمرار التقدم العسكري واستيعاب ملف النازحين واعادتهم الى مناطق سكناهم. هذه الملفات وغيرها تثير الشك حول قدرة الحكومة العراقية على احتواء الصدمات السياسية والامنية والاقتصادية المركبة والتكيف مع الهبوط المزمن للإيرادات النفطية، خصوصا في خضم مشهد اقليمي وعالمي معقد زاد من تحديات الحكومة في مواجهة الازمة.

مع ذلك، يشيد خبراء صندوق النقد الدولي بدور الحكومة في التعامل مع الوضع الاقتصادي الراهن للبلد، فعلى الرغم من الظروف العصيبة التي يمر بها العراق، فقد نجحت السلطات في تنفيذ العديد من التوصيات التي صدرت عن مشاورات الصندوق (المادة الرابعة لعام 2013). وتسعى الحكومة العراقية حاليا الحصول على مساعدة ودعم صندوق النقد الدولي لدعم جهودها في معالجة تأثير الصراع مع تنظيم “داعش” وانخفاض أسعار النفط على ميزان المدفوعات.

في هذا السياق، ناقش تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بالعراق (والصادر نهاية العام الماضي) أبرز العواقب الناجمة عن الصدمة المزدوجة التي تواجه العراق. كما استعرض التقرير أبرز ملامح الأزمة المالية والاقتصادية في البلد معرجاً اتجاهات السياسة النقدية وأبرز التحديات المحدقة بالنشاط المصرفي في العراق.

المحور الاول: اصلاح المالية العامة

ثمن صندوق النقد الدولي، في تقريره الصادر نهاية العام الماضي حول العراق، محاولة الحكومة العراقية، من خلال موازنة العام 2015، معالجة الضغوط على المالية العامة الناجمة عن انخفاض عائدات النفط والصراع مع تنظيم داعش. فقد استحدثت موازنة العام الماضي تدابير واسعة النطاق لتعزيز الإيرادات وخفض النفقات، الأمر الذي ترتب عليه خفض العجز بنسبة (13% من إجمالي الناتج المحلي).

1- على جانب الإيرادات، عمدت الحكومة الى زيادة معدلات الضريبة على الدخل ورفع الضرائب الجمركية وضرائب المبيعات على السيارات والتبغ والكحول والهواتف المحمولة واستخدام الإنترنت، ومحاولة جباية الديون الحكومية المتراكمة على المؤسسات والمواطنين منذ سنوات. مع ذلك، واجه التوجه الجديد جملة من التحديات لعل أبرزها ضعف التعاون والتنسيق بين الحكومة المركزية وحكومة الاقليم مما عطل عدد كبير من القوانين (الضرائب الجمركية تحديدا).

2- رغم جهود الحكومة ضبط أوضاع المالية العامة، الا ان العجز المالي الحكومي استمر بالزيادة، ويعود ذلك إلى حد كبير الى استمرار ضغوط الإنفاق الحادة لتلبية الاحتياجات الأمنية والإنسانية الكبيرة التي تشهدها البلاد. اضافة الى تسديد مستحقات العقود الاستثمارية وشركات النفط الدولية. وترى السلطات الحكومية أن هذه البنود من الإنفاق العام لا يمكن تخفيضها بسهولة في هذه المرحلة، نظرا لصعوبة البيئة السائدة والتحديات الامنية والاقتصادية والاجتماعية.

3- عززت السلطات الحكومية في العراق من جهودها الرامية إلى ايجاد مصادر تمويلية بديلة. فمع نفاذ احتياطيات المالية العامة الوقائية في صندوق تنمية العراق بنهاية العام 2014، أصبحت السلطات مضطرة للاقتراض من المصارف المملوكة للدولة، والتي تتلقى بدورها الدعم من البنك المركزي العراقي عن طريق الخصومات على السندات الحكومية، من اجل تمويل العجز المالي الحكومي.

4- انتهجت الحكومة العراقية استراتيجية حكيمة في إدارة الدين العام، وتدرس حاليا تطوير وتعميق سوق الدين المحلي باستحداث أدوات جديدة من شأنها تنويع مصادر تمويلها. بالإضافة إلى ذلك، سوف تعزز مراقبة الحكومة للدين المحلي الحفاظ عليه عند مستويات قابلة للاستمرار. وتعمل السلطات على إحراز تقدم ملموس في المفاوضات مع البلدان الدائنة غير الأعضاء في نادي باريس، وتتوقع إبرام اتفاقات جديدة مع بعض البلدان الدائنة خلال هذا العام بشروط متسقة مع اتفاق نادي باريس لعام 2004.

5- أطلقت الحكومة العراقية مبادرة لإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة للمساعدة في التخفيف من العبء الواقع على كاهل القطاع العام. وقد أعدت بهذا الخصوص دراسة تتوخى إجراء تقييم منهجي للتكلفة والعائد بغية تقييم قدرة كل مؤسسة على البقاء وتيسير اتخاذ القرارات بشأن إغلاقها أو خصخصتها أو الحفاظ على ملكية الدولة لها بعد إجراء إعادة الهيكلة المناسبة.

6- تعمل السلطات على تعزيز إجراءات الإدارة المالية العامة لديها لدعم انضباط المالية العامة وكفاءة استخدام الموارد النفطية. اذ تواصل العمل على استحداث نظام متكامل لمعلومات الإدارة المالية بدعم من البنك الدولي. بالإضافة إلى ذلك، يدرس مجلس شورى الدولة قانونا جديدا للإدارة المالية العامة من شأنه تمهيد الطريق لاستحداث حساب الخزانة الواحد. وسوف تستمر السلطات في الاعتماد على المساعدة الفنية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتعزيز جهودها في تلك المجالات.

المحور الثاني: إصلاح السياسة النقدية والجهاز المصرفي

1- يوفر استقرار سعر الصرف ركيزة اسمية رئيسة للاقتصاد في ظل بيئة تكتنفها أجواء عدم اليقين، مما يحتم على السلطات الحكومية الحفاظ على نظام ربط سعر الصرف بالدولار على الرغم من تدهور المركز الخارجي للبلد. وسعيا لتهدئة المخاوف المتعلقة بالتدفقات النقدية غير القانونية الخارجة من البلاد، قام البنك المركزي العراقي بتخفيض كميات المبيعات من العملات النقدية، وفرض في أوائل العام 2015 شرط الإيداع المسبق بمدة 15 يوما لمعاملات النقد الأجنبي. وفضلا على ذلك، فرضت الحكومة رسما جمركيا مسبقا قدره 5% وضريبة دخل تقديرية نسبتها 3% كلاهما يُسدد عند طلب النقد الأجنبي لتمويل الواردات. ومع ذلك، سارعت السلطات في شهر حزيران/يونيو الماضي إلى إلغاء هذه الإجراءات؛ نظرا لارتفاع الفرق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازية بشكل كبير. وقد تقلص الفارق سريعا إلى حوالي 6% بنهاية الشهر ذاته.

2- كثف البنك المركزي العراقي جهوده الرامية إلى تعزيز إدارة الاحتياطيات الدولية التي ما تزال – رغم انخفاضها مؤخرا – تتجاوز المؤشرات التقليدية لكفاية الاحتياطيات. كذلك قام البنك المركزي، بدعم من المساعدة الفنية المقدمة من صندوق النقد الدولي، بتحديث المبادئ التوجيهية لعام 2008 المعنية بإدارة الاحتياطيات لجعلها تتماشى مع قانون البنك المركزي العراقي والوفاء كميا بجميع الأهداف الاستراتيجية الرئيسة لإدارة الاحتياطيات، بما في ذلك تخصيص الأصول الاستراتيجية، وحدود مخاطر الائتمان، ومتطلبات السيولة. ويعمل البنك المركزي العراقي على تحقيق هدف طويل الأجل لنقل الإدارة النشطة لاحتياطاته الدولية إلى بغداد.

3- بسبب تأثر القطاع المالي سلبا بالصدمات التي تصيب الاقتصاد العراقي، تتوقع السلطات زيادة القروض المتعثرة نتيجة تراجع الثقة بين دوائر الأعمال، وانخفاض نشاط القطاع الخاص، والدمار المادي وعمليات السطو على بعض المؤسسات المصرفية. لذا، تكثف السلطات من أعمال المراقبة والإشراف على القطاع المصرفي وتتعاون مع صندوق النقد الدولي لتحسين مؤشرات السلامة المالية لديها حتى تضاهي المعايير المقبولة دوليا.

4- قام البنك المركزي العراقي في الآونة الأخيرة بتجديد عقده مع شركة (إرنست آند يونغ)، والتي تعمل على تحسين ممارسات الرقابة المكتبية والميدانية وتشترك في تدريب المراقبين. كذلك قام البنك المركزي العراقي بتعيين 35 موظفا جديدا في قسم الرقابة المصرفية، الذي يكثف أيضا مراقبته على مصرفَي الرشيد والرافدين المملوكين للدولة والمؤثرين على النظام المالي.

5- ما يزال البنك المركزي العراقي لديه ضمانات وقائية مهمة، بما في ذلك عمليات التدقيق الخارجي السنوية التي تجريها شركات التدقيق ذات السمعة الطيبة إلى جانب نشر كشوفاته المالية المدققة. وبما أن السلطات تطلب الاستفادة من موارد الصندوق بموجب “أداة التمويل السريع”، فإنها تلتزم باستكمال تحديث تقييم الضمانات الوقائية لدى البنك المركزي العراقي.

6- تكثف السلطات الحكومية جهودها لتطوير القطاع المصرفي، وهو عنصر أساسي في استراتيجيتها طويلة الأجل لتقوية الاقتصاد غير النفطي وتعزيز نشاط القطاع الخاص. ولتحقيق تكافؤ الفرص بين المصارف الخاصة والمصارف المملوكة للدولة، سمحت السلطات للهيئات العامة بقبول خطابات الضمان والشيكات المعتمدة الصادرة عن المصارف الخاصة. ويمكن لوزارة المالية فتح خطابات اعتماد لدى المصارف الخاصة بما يصل إلى 10 مليون دولار بدلا من 6 مليون دولار سابقا. وتم رفع الحد المسموح به للمصارف الخاصة لتحصيل رسوم الدولة. وتسمح الحكومة الآن للمؤسسات المملوكة للدولة بفتح الحسابات، والاحتفاظ بالودائع، ودفع الرواتب عن طريق المصارف الخاصة. ويُؤمّل أن تؤدي هذه المبادرات إلى توفير فرص جديدة للمصارف الخاصة لتوفير الخدمات والتنافس مع القطاع المصرفي المملوك للدولة. ويعمل البنك المركزي العراقي حاليا، بدعم من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، على وضع الصيغة النهائية للقواعد التنظيمية لاستحداث مكتب معلومات الائتمان وينظر في إنشاء نظام للتأمين على الودائع.

صندوق النقد الدولي طوق تبعية أم طوق نجاة

يشهد العراق مرحلة تاريخية بالغة الصعوبة، حيث تظافرت التحديات السياسية والأمنية مع الاقتصادية لتشكل طوقاً يعيق فرص العراق في التقدم والرفاه، وتزيد من مخاطر انزلاق البلد في ركود اقتصادي عميق. في هذا السياق، سعت الحكومة العراقية مؤخرا إلى الاستعانة بجهود صندوق النقد الدولي في توفير التمويل الخارجي، فضلا على تقديم النصح والمشورة بهدف الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي. ورغم المحاذير من خطورة التعامل مع الصندوق وما يشكله ذلك من فقدان للاستقلالية الاقتصادية، فإن معظم السياسات المقترحة (حالياً) تتسق والرؤى الوطنية حول الإصلاح الاقتصادي.

من جانب آخر، أثبت التجارب السابقة، وبشكل قاطع، ضعف وفساد الحكومات العراقية في إدارة اقتصاد البلد دون رقابة ومحاسبة، خصوصا بعد ابتلاع معظم المؤسسات الاقتصادية والمالية والنقدية من لدن أحزاب السلطة، وهيمنة مافيات السياسة على موارد البلد وثرواته. وبذلك، تعد جهود الحكومة العراقية في الاستعانة بمؤسسات دولية للمراقبة وإبداء الرأي والمشورة خطوة طويلة باتجاه الإصلاح الاقتصادي والمالي في الوقت الراهن، وتؤسس لتنمية اقتصادية مستدامة، مع توخي الدقة والحذر في الحفاظ على المبادئ الوطنية وحرية القرار الاقتصادي ومراعاة الوضع الاجتماعي.

ويحتم ضعف الدولة والقانون على العراق التعامل بحذر مع المؤسسات الاقتصادية الدولية وما تقدمه من وصفات جاهزة نظير القروض والتسهيلات المالية. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى جملة من التوصيات أهمها:

1- تثمين دور الحكومة في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية ودعم سياسات البنك المركزي ووزارة المالية في تحقيق الاستقرار المالي والنقدي للبلد ينبغي أن لا يكون مقدمة لحزمة جاهزة من السياسات المصدرة إلى العراق (كرفع الدعم وخفض الرواتب وتسريح العمال…الخ)، والمشروطة لاستمرار التمويل وتقديم المشورة.

2- يتحتم على الحكومة العراقية إذا ما كانت جادة في الحفاظ على سيادة البلد الاقتصادية والمالية، إعداد كادر وطني رفيع من الخبراء والمختصين وعلى درجة عالية من الوطنية والخبرة في مجال الاقتصاد العراقي لتحقيق أكبر قدر من المكاسب من جولات التفاوض مع صندوق النقد الدولي وتكييف السياسات المقترحة مع واقع البلد الاقتصادي والاجتماعي.

3- اعتماد مبدأ الشفافية والإفصاح عن كافة الاتفاقيات المبرمة بين الحكومة العراقية وصندوق النقد الدولي من أجل تمحيص ومناقشة كافة التقارير والدراسات المتفق عليها بين الطرفين، وإبداء الرأي والمشورة من لدن الباحثين والمختصين في الشأن الاقتصادي العراقي.

4- الاستعانة بصندوق النقد الدولي في مجال تدريب وتأهيل الكوادر الاقتصادية والمالية، واعتماد أحدث الطرق في إعداد الموازنات العامة والتقارير والكشوفات المالية للحد من منافذ الهدر والفساد المالي في البلد، خصوصاً وأن لصندوق النقد الدولي باعاً طويلاً في هذا المجال.

5- التعاون مع صندوق النقد الدولي من أجل تكوين قاعدة بيانات إحصائية تستوعب كافة القطاعات الاقتصادية والمالية والنقدية، وتكون أداة بيد الباحثين من أجل مناقشة المشاكل الاقتصادية وإيجاد الحلول الملائمة والحد من التباين الحاصل في دقة وموثوقية البيانات في الوقت الراهن.