كثرت التكهنات بخصوص انسحاب الجزء الرئيسي من القوات الروسية فى سوريا و لكي نضع القارئ امام المشهد الحقيقي و نفتح له غرف الكواليس المغلقة كي يطلع على اسباب و تداعيات مثل تلك القرارات فدعونا فى البداية ان نؤكد ما طرحنا منذ فترة و يتم تاكيده الان لدى الجميع و هو الاتفاق بين موسكو و واشنطن على تسوية الملف السوري بعيدا عن كل صبيان الاقليم و فى مقدمتهم اردوغان و حلفائه و كذلك المكونات الارهابية التى ظهرت فى سوريا بفضل التدريب و التسليح التركي و التمويل القطري .

فلم يكن بمقدور روسيا ان تتحرك بتلك الاريحية بكافة انحاء سوريا ( دولة مجاورة لاسرائيل و حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين بالمنطقة و المتداخلين فى سوريا استخباراتيا و فى مقدمتهم الاردن و تركيا ) الا بدرجة عالية من التنسيق مع امريكا، اذا اغلب العناوين الرئيسية للتحرك الروسي بسوريا كانت بعلم الولايات المتحدة باستثناء ساعة الصفر للتحركات المباشرة، كما ان عملية نزع السلاح الكيماوي لدى الجيش السوري بصيف 2013م تمت بتنسيق بين واشنطن و موسكو، و عملية اغتيال سمير القنطار تعكس تقول لنا أن التضارب بين موسكو و تل ابيب فى المنطقة قد يقتصر فقط على نوعية الردارات و الغواصات الروسية التى قد تكشف حقيقة نشاط الغواصات الاسرائيلية السري فى مياة لبنان الاقليمية، فالامر حسم من فترة و لا يوجد خلاف سوى على بعض المناطق بحكم تأثيرها على الجوار (الاردن،تركيا،اسرائيل) او مناطق طموح الاكراد و تأثيرها على النظام السوري و ايران و تركيا .

 

اما لتفسير قرار روسيا بسحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية فعلينا رؤية كافة الاسباب الاقتصادية و السياسة و العسكرية و الاستخباراتية التى دفعت بمثل ذلك القرار

اولا : روسيا ليست بحمل اعباء اقتصادية اخرى فى ظل العقوبات الغربية عليها، فوضع الاقتصاد الروسي هو العامل الخفي الحقيقي وراء حظر موسكو السفر الى مصر قبل ان توقع اردوغان فى فخ اسقاط القاذفة الروسية لكي تطبق نفس الامرعلى تركيا و تحظر السفر اليها كي يتم صرف ما يقرب من 7.5 مليار دولار فى يالطا القرمية بدلا من شرم الشيخ المصرية و انطاليا التركية .

ثانيا : كان لحالة التمدد العسكري الواسع للجيش الروسي فى بقاع كثيرة بالعالم خاصة دول الاتحاد السوفيتي الاسبق و شرق البحر المتوسط، بجانب اكثر مواقع العالم التهابا فى مقدمتهم شرق اوكرانيا، بجانب التواجد المتزايد للقوات الروسية على حدود افغانستان مؤخرا، و زيادة عدد جنودها بقاعدتها بارمينيا، كل تلك الامور جعلت من القيادة الروسية تعيد اماكن نشر قواتها مرة اخرى كي لا تمثل عبئ اضافي على الخزانة الروسية، و يحسب للاستخبارات الروسية احباطها لمؤامرة تركيا تجاه جنوب القوقاز عندما ارادت ألاستخبارات التركية عبر عناصرها باذرابيجان القيام بعمليات تخريب بها و الصاقها فى ارمينيا كي تشتعل نيران كره باغ مجددا ( الاقليم المتنازع عليه بين يريفيان و الاستانة ) و هو الامر الذى اراد منه اردوغان عدوم موسكو المباشر ان يشغلها فى جنوب القوقاز و يبعدها عن سوريا، قبل ان تقوض الاستخبارت الروسية نشاط ما يقرب من 400 عنصر اجنبي باراضيها خلال العالم الماضي .

ثالثا ما اقدم عليه باراك اوباما من اصراره على ادراج جبهة النصرة ( الذراع الرئيسى لحلفاء تركيا ) برغم محاولات فرنسا و حلفاء تركيا لكي تكون جبهة النصرة خارج قوائم الارهاب، قبل ان يعرقل اوباما كل محاولات تركيا و السعودية فى التدخل البري، ثم حديثه المطول خلال 36 صفحة لمجلة ذى اتلانتيك الامريكية و تصريحاته تجاه اردوغان و النظام السعودي و ما تلقو من تصريحات نارية من اوباما مما استدعى صاحب العقلية الدبلوماسية و الاستخباراتية سمو الامير تركي الفيصل للرد عليه، كل تلك المشاهد المعلنه و ما يوازيها فى الكواليس من اوباما تجاه حلفائه بالمنطقة استدعي فلاديمير بوتين كي يعيد النظر فى تعامله مع حلفائه ( ايران و سوريا ) هو الاخر حتى جائت لحظة الاعلان عن حل فيدرالي فى سوريا من موسكو عبر نائب وزير خارجيتها بالتزامن مع طرح واشنطن لنفس المقترح و هو الامر الذى استدعى رئيس ايران حسن روحاني لكي يعلق بشكل مباشر و يقول للمرة الاولى نحن لسنا متفقين مع الروس فى كل شئ، قبل ان يقطع بشار الاسد الطريق على موسكو و يعلن عن تنفيذ الانتخابات النيابية بالشهر المقبل .

 

و هنا و مع بدء الانسحاب الروسي من سوريا ( و لعل الايام القادمة تقول لنا ان كان الانسحاب حقيقيا ام عودة بعض الطائرات الروسية فقط لاراضيها ) ننتقل لمرحلة جديدة على الارض السورية تلقي فيها موسكو الكورة بملعب واشنطن و حلفائها و ربما لكافة الدول المعنية بالملف السوري بما فيهم حلفاء موسكو ايضا خاصة ان القرار جاء وقت مفاوضات جنيف، و السؤال الذى يطرح نفسه هنا هو كيف سيتعامل كل هولاء مع الخطوة الروسية التى اربكت حسابات اغلب هولاء ان لم يكن جميعهم .

بداية تلك الخطوة جعلت الجميع مجبرا لانجاح الحل السياسي فى سوريا فاذا كانت تركيا بالامس تتحجج بأن سبب فشل الحلول السياسة هو التدخل العسكري الروسي فها هي روسيا تنسحب و لا تترك لكم حجة ورائها، فماذا انتم فاعلون أذا ؟

و هنا بات اوباما فى مواجهة اكثر مباشرة مع حلفائه بالاقليم، و اذا كان العقيد احمد العسيري عاد مجددا و صرح و لوح بالتدخل البري فى سوريا بعد ساعات قليلة جدا من اعلان روسيا انسحابها فى خطوة لا تحمل اي تفسير منطقي، فتركيا كانت تعمل على توحيد صفوف فرق ما يسمى بالمعارضة المسلحة التركية المتواجدة بادلب و حلب و الاذقية .

 

و بتأكيد لست مع من يقولون ان سوريا مقبلة على تقسيم فلا يوجد تقسيم لسوريا كما كان يقال فى السابق على اساس دويلات مذهبية و دينية كدويلة سنية و غيرها شيعية و غيرها مسيحية و درزية … الخ اي تقسيم على حسب خرائط برنارد لويس، و لكن ما يعد لسوريا و بموافقة بوتين و اوباما نفسهم و ما يفرضه الواقع الجغرافي هو نظام فيدرالي يسمح بولادة الكيان الكردي فى المنطقة، فاذا كان سايكس بيكو1 الهدف منه القريب المدى هو اضعاف المنطقة و تفكيكها كما يريد الغرب ثم التمهيد لظهور الدولة الجديدة الدولة العبرية على المدي البعيد، فسايكس بيكو2 كان هدفه قريب المدى هو تدمير دول المواجهة مع اسرائيل و اعادة اغلب الدول النفطية الى شكلها القديم ثم التمهيد لظهور الدولة الجديدة الا و هي الدولة الكردية على المدى البعيد، و ها نحن الان بمرحلة اصدار شهادة ميلاد الدولة الكردية و هي الشهادة التى كتب اولى احرفها بعد غزو امريكا للعراق بعام 2003م و ما ابلاه الاكراد ضد نظام صدام حسين و دورهم فى تلك الحرب قبل ان يكونو اكثر الاطراف مصدقية فى حربهم ضد داعش بالحرب السورية قبل ان يرى فيهم فلاسفة البيت الابيض بأنهم أكثر الناس تسامحا و تحضرا فى الاقليم و هي مؤشرات دفعت اوباما لكي يسرع من خطواته لاصدار شهادة ميلاد تلك الدولة التى وعدتهم بها الولايات المتحدة منذ 15 عام تقريبا، و كي يضيف اوباما انجاز له قبل رحيله ضمن باقي الانجازات التى يراها حسب منظوره انه استطاع تحقيقها مثل الاتفاق النووى الايراني .

 

و اذا كان هناك صدام بين موسكو و دمشق مؤخرا كما يدعي البعض فهذا مستحيل و صعب فى ظل درجة التداخل بينهم و مصالح كل دولة فى الاخرى، و لكن لا يستطيع احد اخفاء الاختلاف الواضح بينهم بخصوص النظام الفيدرالي و الشكل النهائي لمصير الاسد، خاصة ان تصريحات وليد المعلم و بشار الجعفري و عدم ابداء اى مرونه تجاه تلك القضايا فى جنيف حاليا قد يزيد ذلك الشرخ، فى الوقت التى تقدم فيه جميع الاطراف الاقليمية و الداخلية بسوريا تنازلات فتركيا التى كانت لفترة قريبة جدا تضخ الارهابيين فى العلن عبر الحدود السورية، و ترسلهم لتعزيز جبهات الارهابيين بجرود عرسال و عرسال و القلمون بلبنان، و عبر حدود الاردن كما حدث على يد مجموعة مسلحة سيطرو على معبر التنف منذ ايام، الان هي تعلن غلقها الحدود مع سوريا، و الاطراف الداخلية المسماه بالمعارضة المسلحة كثيرا منها بات يرضخ لاملاءات الكبار، و ستبقى الاحيرة الاكبر لدى ايران بين تفكيرها فى كيفية تعويض الفراغ السوري و التعامل مع معادلة النظام الفيدرالي فى المستقبل .

 

و حقيقة الامر ارى ضرر النظام الفيدرالي على تركيا و ايران اكبر بكثير من على النظام السوري نفسه، و هو الامر الذى جعل داوود اوغلو يطير الى طهران لمقابلة حسن روحاني فى زيارة لم تكن مدرجة فى جدول اعمال اوغلو لبحث تداعيات تلك الخطوة بعد ما تاكدت انقرة ان طهران علمت بما هو قادم من نظام فيدرالي و تاثير تلك الدولة الكردية عليهم، كي ننتظر زيارة لحسن روحاني لتركيا فى القريب لتكمل ما بداه اوغلو فى طهران، و من هنا ايضا ندرك لماذا كان الحضور التركي باهت جدا فى ختام مناورات رعد الشمال التى تعد فى المقام الاول رساله موجهه لطهران و لماذا تعمد اعلام و صحافة الحزب الحاكم بتركيا تشويه مناورات رعد الشمال او تجاهلها تماما، فبكل تأكيد تركيا لم تنوى اغضاب ايران نافذة تركيا على لشرق الاقصى و روسيا و نفس الامر تركيا نافذة طهران على الغرب و طوق نجاتها الوحيد أثناء الحصار الاقتصادي و لا يغفل على احد الدور التركي البارز للتواصل لحل نهائي بين ايران و الغرب بخصوص الاتفاق النووى .

كما ان مشروع الدولة الكردية التى ادركت أنقرة خطورته مبكرا على مستقبل نظامها ان لم يكن الدولة التركية كلها وهو الامر الذى يفسر لنا لماذا غزت القوات التركية الموصل و تشبثت بها، فكما يأكل الفهد قلب الفريسة اولا بعد عملية انقضاض سريع عليها كذلك انقضت تركيا على قلب الدولة الكردية الوليدة الا و هو الموصل .

كما ان مشاهد الفيدرالية لم تكن ببعيدة عن مشهد اعلان تأسيس ” تيار الغد السوري ” على يد رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض احمد الجربا بالقاهرة و اصفا ذلك الكيان بانه ديمقراطي تعددى متحالف مع المجلس الوطني الكردي فى سوريا، مطالبا بدولة فيدرالية بحضور كلا من وزير الخارجية المصري سامح شكري و مندوب السفير الروسي بمصر و ممثل مسعود برزاني رئيس اقليم كردستان العراق و مستشار الشؤون الامنية لدى ولي عهد ابو ظبي الشيخ محمد بن زايد ال نهيان محمد دحلان و ممثلي قوى 14 اذار اللبناني .

و يجب الا ننسى ان كافة التسويات التى تمت بين الكبار عامة و موسكو و واشنطن خاصة كانت تنتهي بحلول فيدرالية او تقسيم جزئي و لنا فى السودان و كوسوفو و الشيشان و جورجيا و مؤخرا اوكرانيا عبرة .

فالنظام الفيدرالى قد يكون المسمار الاخير فى نعش النظام التركي و ليس لسوريا و هو الامر الذى جعل بوتين لا يختلف مع اوباما فى ظهور الكيان الكردي، كما يجب الا ننسى شكل الاوضاع بعام 2012م و من توغل التنظيماتا لاراهبية بكافة بقاع سوريا، فما كان مخطط لسوريا منذ عام 2003م و ما قام به كولن باول من زيارات لدمشق لاقناع النظام السوري للتوقيع على بنود مذكرة شروط الابقاء قبل ان يحضر مجلس الشيوخ عقوبات على سوريا كان يهدف لعدم وجود شئ اسمه سوريا و لكن الان سوريا متماسكة متواجد و حاضرة على الخريطة اسما و فعلا و هذا نجاح كبير يحسب للجيش العربي السوري و حلفائه و كل من وقفو امام عواصف الربيع العبري و صمدو .

 

اما بخصوص كروت قيادات المعارضة السورية الجديدة فهناك حراك واضح تم مؤخرا للمعارضة التى تندرج تحت عنوان سياسي و ليس تحت عنوان مسلح كالتنظيمات و المليشيات الارهابية فى سوريا و يجب الان نغفل اعيننا عن تسليم رئاسة ما يسمى بالائتلاف السوري المعارض لـ انس العبدة احد قيادات تنظيم الاخوان بدلا من خالد الخوجة فى خطوة تعكس لنا استمرار الدور التركي وسط صفوف المعارضة السورية، و لكن كي نتحدث بصراحة فالمنطق لا يثق فى اناس لم يحرصو على امن و وحدة سوريا يوما، و هم ليسو سوريون من الاساس، فكيف لي او لاي عاقل ان يثق فى الامريكي رضوان زيادة او الفرنسي هيثم مناع او التركوة خالد خوجة و جورج صبرا و سمير نشار و نذير الحكيم او الكويتي شافي العجمي او السعودي عبد الله المحيسني و غيرهم مما يرفعو علم الانتداب الفرنسي ذو الثلاث نجوم على حساب علم سوريا ذو نجمتين الوحدة العربية .

 

و هنا يجب ان نصحح الرؤية لدى ممن يقول ان امريكا تخلت عن تركيا و هذا خطاء فالولايات المتحدة تخلت عن نظاما ردوغان و ليس تركيا التى لا يمكن ان يستغنى عنها احد الدولة التى تمثل الطاولة الكبرى لقيادات الناتو و مقرها و التى تضم اكبر قواعده العسكرية و ذات الاهمية الاستراتيجية الاولى للحلف منذ انضمام تركيا له فى عهد عدنان مندريس، فالولاياتا لمتحدة ببعض نظرها تأكدت أن حزب العدالة و التنمية لن يستمر طويلا مهما فعل اردوغان و هاكان فيدان و بن علي يلدرم و جلال الدين ليكسيز و افكان علاء و باقى رجاله، فمن ينظر للخريطة التركية بوضوح سيجد تركيا محاصرة بالشمال تجاه القوات الروسية بالقرم التى تبعد 173 ميل من ساحل الاناضول و من التواجد الروسي بقبرص و اليونان و من الشرق حدودها الملتهبة مع سوريا و من الداخل النظام التركي يعيش ازمة صعبة فى ظل حالة العزلة التى تعيشها سياسته الخارجية خاصة بعد ان قام رئيس البرلمان التركي اسماعيل كهرمان بحل اللجنة المكلفة بالتعديل الدستور التركي كي يناسب احلام و طموح اردوغان بجانب زيادة سخونة بركان المعارضة التركية فى ظل غلق كافة القنوات التلفزيونية التى لا تتبع الحزب الحاكم و نفس الامر مع الصحافة، و انا كان الاكراد على الحدود يشكلون ازمة تؤرق اردوغان، فوزارة العدل التركية طالبت رئيس البرلمان التركي برفع الحصانة عن نواب حزب الشعوب الديمقراطي تمهيدا لمحاكمتهم، نعم هو مشهد يعمس لنا كيفية تعامل نظام العثمانيون الجدد مع العرق الكردي سواء ان كان على حدود تركيا او من داخل تركيا، فبعد كل ذاك و أكثر كان يجب اهون على واشنطن ان تتخلى عن اردوغان الاهوج و الا تخسر الارض التركية الشاسعة نفسها .

 

فالمحصلة النهائية و النتيجة الاخيرة للحرب السورية ستكون لا طرف خاسر كل شئ و لا اخر فائز بكل شئ ( و هو العنوان الذى طرحنا مع الايام الاولى للتدخل الروسي فى سوريا)، و لكن أريد أن تتأملو شكل سوريا الان بعد مرور 5 سنوات من الربيع العبري، و كيف تم استنزاف ثاني دولة من دول المواجهة بعد العراق، و كيف سيكون شكل الدولة السورية و خريطة الاقليم كله بعد 5 سنوات اخرى من الان ( أصل الضرب على الشرق الاوسط لم و لن يتوقف و ان جائت لحظة سكون فهي اللحظة التى تسبق العاصفة)، و اين ستكون مواضع النفوذ و القرار ؟


و ادعو كل قارئ أن يتأمل المشهد الليبي و يتساءل لماذا باتت ليبيا و بدون أي مقدمات محل اهتمام الغرب فهل من المعقول ان اوربا و الولايات المتحدة تذكرت فجأة المآسي الانسانية التى تعرض لها الشعب الليبي على يد التنظيمات الارهابية منذ سنوات و هي نفس الدول التى وقفت ضد تسليح الجيش الليبي نفسه، فما سبب تعجل الغرب أذا فى ظهور حكومة وفاق وطني قبل بدء التحضيرات العسكرية من عمليات استطلاع و جمع معلومات حول القبائل و الجغرافية الليبية هو تفاقم ازمة اللاجئين على سواحل أوربا فقط، أم أن هناك سببا أخر هو الذى وضع لنا مشهد الهدنة بسوريا كي تعيد واشنطن ترتيب اوراقها و القطع المسلحة على رقعة الحرب السورية بعد أن تأكلت واحدة تلو الاخرى على يد الدب الروسي و اعادة النظر فى حلفائها الاقليميين و فى مقدمتهم اردوغان بجانب بدء الاستعداد لدخول المسرح الليبي .

 

فكما لعب مؤتمر بون 2001م بالمانيا دور بدء البوابة لمرحلة التدخل العسكري فى افغانستان بعد تنصيب حامد كرزاي كرئيس لأفغانستان ثم موافقة كرزاي على التدخل الاجنبي فى بلاده كذلك لعب مؤتمر ميونيخ الاخير دور مرحلة الانتقال من الملف السوري الى الليبي قبل أن يتعجل المبعوث الاممي مارتن كوبلر مدعوما من حكومات غربية بسرعة تنفيذ خطوة حكومة وفاق وطني بأي شكل و تحت أي مسمى حتى و لو لم يتفق الداخل الليبي نفسه عليها و ان تحفظت عليها القبائل و ان رفضها نواب البرلمان و أن لم يقتنع بها المؤتمر، فأي حالة وفاق تلك التى يسعى الغرب لتنفيذها فى ليبيا بتلك السرعة القصوى فى ظل عدم موافقة أي طرف داخل ليبيا نفسها على تلك الحكومة، فبكل تأكيد ضمير حلف الناتو الذي دمر ليبيا باشراف من الولايات المتحدة بعام 2011م لم يستيقظ الان تجاه ليبيا و شعبها، كما أن أزمة اللاجئين ليست الدافع الوحيد الذي جعل فرنسا و ايطاليا و المانيا و الولايات المتحدة يضعا ليبيا أولى اولوياتهم بالفترة الحالية فكان لتهديد التنظيمات الارهابية لمصالح اوربا فى حقول النفط الليبي خلال شركات استخراج و استكشاف النفط الاوربية المتواجدة بليبيا مثل أيني الايطالية و توتال الفرنسية و ريبسول الاسبانية و غيرها خطرا حقيقيا حتى طالبت تلك الشركات حكومات بلادهم بالتدخل المباشر، حتى باتت أعين الغرب تلتفت على أكبر دول القارة السمراء من أحتياطات النفط .

 

و على غرار ما حدث بافغانستان و العراق 2001م و 2003م دعونا نتذكر تصريحات حكومة جنوب افريقيا منذ عامين عندما قالت انها لن تسلم اموال ليبيا المجمدة لديها و المقدرة بـ 209 مليار دولار فى ظل ذكر مصادر اخرى ان تلك الاموال تتخطى 350 مليار دولار الا لحكومة متفق عليها فالودائع الليبية مخزنة في 7 مستودعات تحت حراسة مشددة بمخابئ سرية ما بين جوهانسبورغ و بريتوريا مودعة بطريقة قانونية في 4 بنوك هناك، بالاضافة إلى أصول أخرى قانونية تتمثل في فنادق في جوهانسبورغ و كيب تاون .

 و تلك هى ليست المحاولة الاولى من الولايات المتحدة لسرقة الاموال الليبية بجنوب افريقيا فقد كشفت صحيفة الاندبدنت أون ساندي البريطانية إن شركتين أمريكتين مقر إحداهما في تكساس والأخرى في مالطا حاولتا الاستيلاء علی هذه الأموال عبر الإدعاء بتمثيلهما للحكومة الليبية مستخدمة وثائق مزورة لارتكاب ما وصفته بأنه أكبر سرقة فى العالم قبل ان تقف جنوب افريقيا ضد ذلك الاحتيال . فمن الواضح أننا لسنا امام محاولة خلق حكومة وفاق وطني بليبيا و لكن امام حالة وفاق غربي على تقسيم الغنائم الليبية على غرار السيناريو العراقي .

 

نعم ذلك هو شكل الصراع فى المنطقة و الاطماع بثروات الشرق، و تلك هي تداعيات تكتيك بوتين بسوريا و رؤية اوباما تجاه أقليم الشرق الاوسط قبل رحيله عن البيت الابيض، و ساذج من توهم يوما ان ما يدور بالشرق الاوسط منذ خمسة اعوام هو ربيع ديمقراطي و لكن هى حرب أدمغة و صراع وجود و حراك استخباراتي بحت يعكس لنا مبارة شطرنج من الطراز الرفيع .