يحل محمد مهدي االجواهري ضيفاً على العاهل المغربي الحسن الثاني، عام 1974 في الرباط وطنجة ومراكش. وإذ يُحتفى به بكل استثناء، صرحاً عراقياً وعربياً أول، يغتاظ متنطعون ونهازون “ثقافيون!” إلى جانب سياسيين “ثوريين!” من ذلكم الزمان، ليهاجموا المحتفى به من “جبهات” وبلدان عدة، وبتحريض  أحزاب، وأنظمة “ثورية!” ايضاً، ولكن على طرائقها الخاصة…

ومن بين تلك الهجمات مقالات ومواضيع “أدبية!” حاولت أن تهز دوح الشاعر العظيم، وتطال من تاريخه، وتصفه “مهادناً” مرة، و”مرتداً” مرة ثانية، لأنه قبل استضافة ملكية حلم بها المهاجمون ذاتهم، ليلاً ونهاراً، بل وسعوا إليها بكل دأب، ولكنهم لم ينالوا وإن بعضاً يسيراً منها، فراح غضبهم وحسدهم، يتجسد في مزاعم وتقولات وأكاذيب بائسة، و”ثورية” مدعاة أكدت السنوات التالية واقعها وحقيقتها، فانكفأ أصحابها، لا يُعرف لهم صوت أو صدى… وأمام كل ذلك لم يجد الجواهري من وسيلة دفاع مناسبة، سوى الشعر فكتب، تحية.. ونفثة غاضبة:

سماحاً إن شكا قلمي كلالا، وإن لم يُحسن الشعرُ المقالا
أتبغون الفُتوة َ عند همّ، على السبعينَ يتَّكلُ اتكالا…

فما شمسُ الظهيرة وهي تـَـغلي، كمثل الشَّمس قاربت الزَّوالا

وبعد هذه الافتتاحية الجواهرية “التقليدية” يجوب القصيد وفي أكثر من ثمانين بيتاً في الوصف والفخر، وحتى الغزل، ليصل إلى المواجهة المفروضة… وقبل أن تنطلق ساعة الصفر، راح الشاعر يمهد للآتي، ملمّحاً لبعض يسير من تاريخه وصرحه الخالد ومسيرته المتفجرة أبداً بالمواقف والتحديات، وإن زعم هذه المرة بالتعب والرغبة في الاستراحة من معترك الحياة، بعد صعاب جمّة وهجرة واغتراب، ومعاناة من بعض أهل الدار وغيرهم، على مدى عقود:

حماةَ الفكر.. قِيْلةَ مستنيب، يجنبُ نفسَه قيلا وقالا
تنقلَ رحلُهُ شرْقاً وغرباً، وحط هنا بسوحِكُمُ الرِّحالا
يحاول بعدَ دنيا من عذابٍ، عن الدنيا وما فيها اعتزالا
فصونوه من العادِينَ ضبحاً، ووقوه التماحكَ والجدالا…
ففي جنبيَّ نـَـفْسٌ لو تراءت، لكُمْ لرأيتُمُ العَجَبَ المُحالا
أَسُلُ النصلَ عن جُرح ٍ نزيف ٍ، فأَلْقي تحت حُفْرته نِصالا

… وخلافاً لكل “المزاعم” التي باح بها العديد من الأبيات السابقة، وغيرها، تفنن الجواهري في وسائل المواجهة، ودروب الردّ على المعتدين، لينبيء – بقصد، أو غير قصد – أنه ما برح في عنفوان الشعر والعطاء، وان شمس ابداعه لم تغادر موقعها برغم السنوات السبعين، وبقيت تغلي بكل الكبرياء والاقتدار… ولكي يثبت ذلك علناً مع سبق الاصرار، راح يضيف:

وقلتُ لحاقدينَ عليَّ غيظاً، لأني لا أُحبُّ الاحتيالا
هَبُوا كلَّ القوافِلِ في حِماكُمْ، فلا تَهْزوا بمن يَحْدُو الجِمالا
ولا تَدَعوا الخصامَ يجوزُ حدّاً، بحيثُ يعودُ رُخْصاً وابتذالا
وما أنا طالبُ مالاً لأني، هنالكَ تاركٌ مالاً وآلا
ولا جاهاً، فعندي منه إرث، تليدٌ لا كجاهـِـكمُ انتـِـحالا

… ثم، ولكي يختم القصيدة بمثل مطلعها، في تناسق وسياق مرسومين بدقة متناهية كما يبدو، يطلق الشاعر الكبير عنان مخزونه المتراكم، واحتياطيه اللامحدود، للرد على القوالين، منوّهاً إلى تجاربه السابقة مع مثلائهم، وربما جالت بذهن المتابع هنا قصائد الأربعينات والخمسينات الجواهرية الشهيرة، حين يقرأ الأبيات الأخيرة من هذه اللامية “الدفاعية” الفريدة:


حَذار ِ فإنَّ في كَلِمي حُتوفاً، مخبأة ً، وفي رَمْل ٍ صلالا
وأنَّ لديَّ أرماحاً طِوالا، ولكنْ لا أُحِبُّ الاقتِتالا
تَقَحَّمْتُ الوَغَى وتَقَحَّمَتْني، وخَضتُ عَجاجها حَرْباً سِجالا
فكانَ أَجَلَّ مَن قارعتُ، خصمٌ، بنُبْل ِ يراعه رَبِحَ القِتالا
فكم من قَوْلة ٍ عندي تَأبَّى، لها حسنُ الوفادة ِ أنْ تُقالا
ستُضرَبُ فيهم الأمثالُ عنها، اذا انطَلَقَتْ وجاوَزَت ِ العِقالا
وعندي فيهمُ خبرٌ سَيَبْقى، تغامَزُ منه أجيال تَوالى
حّذار ِ فكم حَفَرتُ لُحودَ عار ٍ، لأكرمَ منكمُ عَمّاً وخالا

… وهكذا وبتلكم الكلمات والتعابير “الثائرة” وهو وصف يستخدمه الجواهري كثيراً، تخلص القصيدة إلى مبتغاها، وليبقى التاريخ شاهداً على ان التحذيرات التي جرى اطلاقها قد فعلت مفعولها، فلم يرد المعنيون، وبعضهم ممن لا يمكن ان تبخس كفاءاته الأدبية والسياسية… ونحجم حالياً عن التصريح بالأسماء ذات العلاقة، وربما نعود لتقديم المزيد من “الكشوفات” في أوقات لاحقة.