حمد جاسم محمد/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية:
يحتفل العالم كل عام في العاشر من شهر كانون الأول باليوم العالمي لحقوق الإنسان، ويستعيد في ذاكرته الرغبات والطموحات التي كانت لدى قادة دول العالم عندما أقروا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول 1948، كان ذلك الإعلان طفرة متميزة أدت تدريجيا إلى عولمة مفاهيم حقوق الإنسان، وانتشار ثقافة تطورت تدريجيا لحماية البشر من الاستبداد والطغيان وإرهاب الدولة، وتعمق الوعي بشأنها حتى أصبحت لها مراكز دولية، وتم إدخالها في المناهج الدراسية في الجامعات والمدارس، وعقدت المؤتمرات الدولية لدراستها، وأصبحت معيارا لمدى تقدم الدول أو تأخرها.
بداية نقول إن الأخلاق مجموعة من المبادئ والقيم والقواعد العامة، لتوجيه السلوك البشري داخل المجتمع، نحو تحقيق ما يُعتقد أنه الخير، وتَجَنُّب ما يُنظر إليه على أنه يُجَسِّد الشر. وغاية الأخلاق، هي في نهاية المطاف تحسين العلاقات بين البشر، وإعطاء الحياة البشرية معنى يُساعد على الحفاظ على التماسك الاجتماعي، بالرغم من وجود الفوارق والتناقضات، داخل المجتمعات البشرية وبينها. والقيم الأخلاقية العليا موجودة في جميع المجتمعات البشرية، حتى تلك التي توصف أحيانا بالبدائية. ولكن هذه القيم لا تُعبِّر عن حقائق موضوعية وكونية، بقدر ما هي دالة على آمال وأماني ومخاوف بشرية، لا شك أنها تختلف في الزمان والمكان. والعديد من المفاهيم الأخلاقية يصعب تفسيرُه وتبريرُه، بدون الإحالة إلى مرجِعِيَّة دينية أو مرجِعِيَّة سياسية. نستشهِدُ هنا برأي للفيلسوف الإنجليزي (برتراند راسل)، ورد ضمن كتابه (المجتمع البشري بين الأخلاق والسياسة) الصادر 1946: “إن القيم الأخلاقية، وخلال التاريخ المكتوب كله، كان لها مصدران مختلفان تماما، أحدهما سياسي والآخر ديني”.
أمَّا السياسة فَتُعَرَّف بأنها فن إدارة وتدبير الشؤون العامة للدولة وتوجيهها، وأساليبُ قيادة الجماعات البشرية، وتنظيم العلاقات بين الدول، كما َتُعَرَّف أحيانا بأنها فن تقنين وتنظيم استعمال وممارسة السلطة في المجتمعات البشرية. وعلى غرار الأخلاق، فإن للسياسة أيضا قواعدها وقِيَمَها، وهي تتميز عادة بأنها أكثر التصاقا بالواقع. ومهما تعددت واختلفت التعاريف المعطاة لمفهوم السياسة، فهناك مسألة واحدة على الأقل، أصبحت تشكل البداهة بعينها، وقد أبرزها المفكر السياسي الإيطالي مكيافيللي، عندما أكد في كتابه الأمير، أن السياسة لا تخرج عن فن إدارة المصالح الذاتية والجماعية خارج الاعتبارات الأخلاقية والمعيارية.
وينصرف مفهوم حقوق الإنسان إلى مجموعة من الاعتبارات في مقدمتها دعم قدرة المجتمع بمؤسساته الرسمية ومنظماته الاجتماعية على بلورة سياسات وبرامج من شأنها تعزيز ثقافة حقوق الإنسان بين الأفراد وفى مختلف القضايا، سواء ما تعلق منها بحقوق الطفل أو حقوق المرأة أو حق المواطن في النمو والمشاركة في عملية التنمية الشاملة، كما تستهدف برامج حقوق الإنسان دعم القدرات المؤسسية للهيئات الرسمية والأهلية على التعامل الموضوعي والشامل مع انتهاكات حقوق الإنسان ومعالجتها الأساليب المناسبة وبالقدرات الذاتية للمجتمع.
وقد عرفت الأمم المتحدة سنة 1989حقوق الإنسان: (بأنها تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا، والتي لا يمكن بدونها أن نعيش كبشر. فحقوق الإنسان والحُريَّات الأساسية، تتيح لنا أن نُطوِّر وأن نستخدم بشكل كامل، صفاتنا البشرية وذكاءنا ومواهبنا ووعينا؛ وأن نلبي احتياجاتنا الروحية وغيرها من الاحتياجات. وتستند هذه الحقوق إلى سعي الجنس البشري المتزايد، من أجل حياة تتضمن الاحترام والحماية للكرامة المتأصلة والقيمة الذاتية للإنسان).
بين حقوق الإنسان، والأخلاق والفلسفة، علاقة وطيدة، تتمثل هذه العلاقة قبل كل شيء في أن الأسس التي بُني عليها صرح حقوق الإنسان، هي أسس فلسفية وأخلاقية؛ وأن تطوُّرَ الحقوق بصفة عامة، يتم دائما تحت تأثير دوافع أخلاقية، تُعْطى لها في أغلب الأحيان أبعاد كونية. إن حقوق الإنسان هي مبادئ في شكل صيغ، تُعبِّر عن حاجات بشرية تلتف كلها حول موضوع الكرامة، إنها صوت الضمير الأخلاقي الإنساني، داخل الميدان الاجتماعي والسياسي. ونحن نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول، إن التساؤل عن ماهية حقوق الإنسان، وعن الأسس النظرية التي تقوم عليها، وعن مبررات وأسباب الدعوة إلى احترامها، هو في عمقه تساؤل فلسفي، ونضيف إلى ذلك أن الأطروحة القائلة إن الكائن البشري غاية في حد ذاته، يتمتع بالعقل، وبالإرادة، وبالحرية، ويملك قابلية للتحَسُّن، وله ضمير أخلاقي، وقادر على القيام بالواجب وتحمل المسؤولية، وعنده ميل فطري للتعاون والتضامن مع بني جنسه، هي أطروحة تُوجد في صُلب الأخلاق وفي صُلب فلسفة حقوق الإنسان. وليس من باب الصدفة وحدها، أن يكون أغلب الرواد المنادين بهذه الحقوق من الفلاسفة؛ من فلاسفة عصر النهضة، ومن فلاسفة القرن السابع عشر، وبصفة خاصة، من فلاسفة عصر الأنوار، الذين قالوا “بالحق الطبيعي”، وبدولة الحق والقانون، وبالنزعة الكونية.
ولا نغالي، إذا قلنا بأن الإرهاصات الأولى لحقوق الإنسان، نَبَتَت في حقل الفكر الفلسفي والأخلاقي، قبل أن تنخرط وتشق طريقها في الشِعاب الوعرة لأرض الواقع السياسي، المثقل بالتناقضات، وأن المبادرات المتعددة، لنقل القيم الأخلاقية العليا إلى أرض الواقع السياسي، طموحاً إلى اختبارها وتحقيقها، اصطدمت دائما بالتناقضات الصارخة، وكان مآلها الفشل الذريع.
حدث ذلك في العصور الماضية، ولا نظن أن عصرنا الحالي سيشذ عن هذه القاعدة، إن القيم الأخلاقية عموما، وقيم حقوق الإنسان، عندما تُنقل إلى أرض الواقع الاجتماعي، تُواجه بالفعل، تناقضات بين مضامينها السامية من جهة، ومن جهة ثانية، بين وقائع وحقائق المصالح والسياسة في عالم اليوم، التي لا تفتأ تُكَذِّبُها باستمرار، وتُكَبِّدُهَا هزائم تلو الهزائم، إنها تَواجِه تناقضات فاضحة بين الاعتراف “العالمي” بهذه الحقوق، على المستوى النظري طبعا، وبين تَعَرُّضِها باستمرار، على مستوى الواقع الفعلي، للخرق وللانتهاك في أنحاء عديدة من العالم.
يقول السيد كوفي عنان بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان: (إن ثقافة حقوق الإنسان ليس درسا في المدرسة، ولا عنوانا ليوم واحد، بل هو عملية لتزويد الناس بالأدوات التي يحتاجونها لكي يعيشوا حياة آمنة كريمة… وفي اليوم العالمي لحقوق الإنسان، دعونا نعمل معا لتعليم الأجيال القادمة ثقافة حقوق الإنسان بهدف تطوير الحرية والأمن والسلام في كل الأمم).
إن المصالح الاقتصادية الكبرى، للدول المهيمنة في عالم اليوم، أصبحت وحدها القادرة على الدفاع عن “حقوق الإنسان” في العالم، والقادرة على صناعة الأسباب الكافية و”المشروعة”، لتبرير التصرُّف وفق ما تُسمِّيه الخير العام. وهذا المعطى السياسي العاري، يذكرنا بعبارة أخرى لبرتراند راسل، سابقة لأوانها بالتأكيد، لأنها وردت ضمن مقالة له نشرها في سنة 1946، أي سنتين قبل صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: “طالما ظل البيض محتفظين بالتفوق سيدعون الناس من الأجناس الأخرى إلى حقوق الإنسان، ويقولون إن جميع البشر متساوون”.
كذلك هناك عدد من مُنظري النظام العالمي الجديد، المتعصبين للأطروحة القائلة إن حقوق الإنسان ولدت من رحم الحضارة الغربية، وإنها امتياز لهذه الحضارة ووقف عليها، وإن الصراع من أجلها وبإسمها، يُنذر باندلاع صراع مقبل بين الحضارات البشرية، قد يصعب تجنبه.
ويعد عالم الاجتماع والاقتصاد ماكس فيبر (1864- 1920)، من رواد هؤلاء المنظرين. وله نظرية مشهورة، تُبْرِزُ الخصائص المميزة للحضارة الغربية، مُقـارَنة بالحضارات البشرية الأخرى. وكتابه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، لا يزال يثير الجدل حتى الآن، والأطروحة التي يتضمنها لم تفقد بعد من أهميتها، بل على العكس من ذلك اكتسبت أبعادا جديدة، وخاصة عندما عاد إليها في التسعينيات من القرن الماضي، منظرون أميركيون معاصرون، أشهرهم فرانسيس فوكوياما، وصامويل هنتنجتون. مضمون هذه الأطروحة أن “لا واحدة من حضارات العالم الأخرى، تحمل قِيَماً يمكن أن تكون خلاقة للعقلانية الحديثة، التي أسست العلم الحديث، والرأسمالية، والديمقراطية وحقوق الإنسان”. إن القيم الأخلاقية في الحضارات غير الغربية، والنظرة إلى العالم، وإلى الغاية من حياة الإنسان ووجوده، كل ذلك لا يهيئ تلك الحضارات لظهور قيم حقوق الإنسان الحديثة، ويفسر ماكس فيبر، هذا الامتياز الذي تحظى به الحضارة الغربية وحدها، بكون الحوافز النفسية والدينية والثقافية، التي تتضمنها الأخلاق المسيحية البروتستانتية، تُعَدُّ من العوامل الحاسمة في نشأة النظام الرأسمالي وحقوق الإنسان. وعندما نتذكر أن هذا الكلام، قيل في العقد الأول من القرن العشرين، يتضح لنا أن ماكس فيبر، بأطروحته هذه، صار معدودا من بين الدعاة المبكرين لإعطاء الامتياز الاستثنائي للحضارة الغربية، ربما بدون أن يتوقع ذلك. ولكن الأمر على أية حال، لم يذهب به إلى حد استشراف المستقبل، والتنبؤ بأن هذا الامتياز، يمكن أن يتحول مع طلائع الألفية الثالثة، إلى عامل حاسم من عوامل الصراع الحضاري.
وهنا ظهرت أسطورة الرجل الأبيض الذي ظل – ولازال- لقرون عديدة يدعي التفوق الفكري والعقلي والسياسي والاقتصادي على باقي الأجناس، وإنهم بناة حضارة وان هذه الشعوب لا تستطيع إدارة شؤونها بمفردها فتم ابتداع قانون الانتداب، أي تقوم دولة أوربية بالسيطرة على دولة أخرى من دول العالم النامي لتطويرها، وعلى هذا المنوال سيطرة الرجل الأبيض لقرون عديدة على رقاب ومقدرات الشعوب الأخرى وسلب ثرواتها وقتل وإبادة الملايين من سكانها، واليوم كما الأمس وبعد انتهاء عصر الاستعمار وتحرر شعوب العالم النامي من السيطرة الاستعمارية الغربية، نرى محاولات الدول الغربية لإعادة السيطرة على دول العالم النامي بحجج جديدة بحجة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ومناهضة النظم الدكتاتورية التي صنعتها هي ومكنتها من السيطرة، فإذا ما عملنا إحصائية على عدد الانتهاكات الغربية لدول العالم النامي في القرن الواحد والعشرين فقط بحجة حماية حقوق الإنسان فهي عديدة تبدأ من يوغسلافيا وأفغانستان والعراق وسوريا وليبيا والعديد من الدول الإفريقية الأخرى، بالرغم من وجود العديد من دول العالم تنتهك حقوق الإنسان وترتكب أبشع الإعمال ضد مواطنيها – كما في دول حليفة للولايات المتحدة في المنطقة – أو ضد الأقليات الصغيرة وخاصة المسلمة وكما يحدث في (بورما والفلبين).
إن كثيرا من المهتمين بقضايا حقوق الإنسان في عالم اليوم، لم يتوانوا عن إثارة الانتباه، وأحيانا بكثير من الحسرة والأسف، إلى أن الوضعية الحالية في مجال تعزيز حقوق الإنسان على المستوى العالمي، تتسم بالإحباط وخيبة الأمل، بسبب ما تتعرض له هذه الحقوق من انتهاك، واستغلال، وانتقاء، وتشويه، واستخدام معيار مزدوج للحكم وللتقييم في شأن احترامها، أي الكيل بمكيالين، كما يقال. وكأنما البشرية صنفان؛ صنف ممتاز جدير بالحماية والرعاية، وصنف منحط لا يستحق إلا الإقصاء والازدراء. وبالفعل إن من المؤسف حقا، أن يتم التعامل مع الانتهاكات التي تتعرض لها هذه الحقوق، على أساس المصالح الاقتصادية والسياسية أولا وقبل كل شيء؛ وأن يصبح الدفاع عن هذه الحقوق شعارا، يوظف أحيانا كسلاح إيديولوجي ضد شعوب معينة وحضاراتها، لأنها تتبنى سياسات وتوجهات غير منسجمة مع مصالح الغرب.
وأحيانا أخرى يتم السكوت عن الانتهاكات السافرة واليومية، التي تتعرض لها هذه الحقوق في دول أخرى. ولعل ما يقع على أرض فلسطين نموذج يندى له جبين البشرية في “عصر حقوق الإنسان”. والولايات المتحدة الأمريكية، التي تعطي لنفسها حق الكلام باسم الحضارة الغربية في عالم اليوم، تعد من أبرز الدول الكبرى، التي تستعمل هذا المعيار المزدوج. فهي عندما تتحرك للضغط أو للضرب، فليس ذلك من أجل دواعي حقوق الإنسان فحسب، وإنما لأن مصالحها الاقتصادية المهمة تكون مهددة. وكل خطاباتها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، تبدو ثانوية بالمقارنة مع تلك المصالح.
ثم جاءت الحرب ضد الإرهاب والتي هي ضرورية لحماية الأبرياء، كما هي الحرب ضد الاستبداد والقمع وانتهاك حقوق الإنسان، وضد الفساد والاحتلال والاستغلال ونهب ثروات الشعوب، فالإرهاب آفة العالم في الوقت الحاضر، لأنه يحصد أرواح الأبرياء، ويؤسس لعالم دموي تغيب عنه الحكمة والعقل، ويقترب من الحيوانية المقرفة والتحلل من القيم والأخلاق. مطلوب من الجميع التعاون في مشروع الحرب ضد الإرهاب بشرط أن لا تقتصر الحرب علي الجوانب العسكرية والأمنية، وان تطال المنطلقات والأسباب لتلك الظاهرة. وفي الوقت نفسه، فان هذه الحرب لن تكون مشروعة إذا استعملت فيها أساليب غير إنسانية. فلا بد من استقامة الأساليب وعدم انحرافها، وإلا لتحولت الدنيا إلى فوضى، ولفقدت الحرب شرعيتها. فلا شرعية لحرب، مهما كانت منطلقاتها مشروعة، إذا انتهجت وسائل وأساليب غير مشروعة.
وقد وضعت مواثيق جنيف التي اتفق العالم عليها بعد الحرب العالمية الأولى، لضمان استقامة أساليب الحرب ووسائلها، فلا يجوز مثلا استخدام الأسلحة الكيماوية، أو استهداف الأبرياء من النساء والأطفال والرجال غير المحاربين، أو قصف المناطق السكنية الآمنة، أو استهداف المصادر الحيوية مثل المياه والزراعة وغيرها. فشرعية الحرب لا تبرر استخدام الأساليب والوسائل غير المشروعة هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب تجفيف منابع وأسباب الإرهاب ومكافحة الدول الداعمة له، إلا إن الدول الغربية والولايات المتحدة اتخذت من الإرهاب ومكافحته بحجة حماية حقوق الشعوب التي تنشر فيها هذه الآفة طريقة لانتهاك حقوق الإنسان وتدمير الدول بالكامل من بنى تحتية وقتل الناس الأبرياء، وما يحدث في سوريا والعراق من قتل ودمار لهو الدليل القاطع على عملية استخدام حقوق الإنسان لتنفيذ أهداف ومصالح سياسية لهذه الدول.
وما الضجة المثارة حاليا حول المعتقلات السرية الأمريكية في أكثر من ثلاثين دولة حول العالم إلا أحد مظاهر التناقض في الموقف الأمريكي بين الشعارات والممارسة. وتزداد المشكلة تعقيدا عندما تعترض الاطراف الأخرى مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي على تلك السياسات، فتنشب حالة من التراشق الإعلامي والسياسي، ويبدو الموقف الدولي عاجزا عن التعبير عن نفسه بأساليب حازمة وحاسمة. فمثلا، عندما انتقدت المفوضة السامية لحقوق الإنسان (لويز اربور)، في مؤتمر صحافي، الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية لاحتجاز سجناء في مراكز اعتقال سرية وتسليم المشتبه بهم إلى دول تعد طرفا ثالثا بدون إشراف مستقل مع إمكانية تعرضهم للتعذيب، بادر السفير الأمريكي لدي الأمم المتحدة، جون بولتون، لتوجيه انتقادات لاذعة إليها. وقال انه من غير اللائق وغير المسموح به لموظفة دولية انتقاد الأعمال التي تقوم بها الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب. ولم يجد الأمين العام للأمم المتحدة بدا من الدفاع عن اربور، وتأكيد ثقته فيها.
هذه الحادثة تظهر بجلاء الموقف الأمريكي الذي لا يستطيع تحمل النقد عندما ترتكب واشنطن أخطاء بهذه الفداحة. والأغرب من ذلك إن يكون موضوع التعذيب قضية خلافية في أوساط الإدارة الأمريكية، فيماطل الرئيس في إقرار مبدأ منع التعذيب في السجون الأمريكية ولم يوافق على ذلك إلا بعد أن صوت الكونغرس بغرفتيه الأسبوع الماضي على تجريم التعذيب ورفضه. جاء ذلك بعد الكشف عن سجون سرية خارج الحدود الأمريكية طوال أربعة أعوام. فما الضرورة لهذه السجون السرية؟ وكيف يمكن أن يتعاطى المجتمع الدولي مع قضية كهذه؟ فهل يقرها ويقبل بها أم ينتقدها ويطالب بوقفها؟ ولعل من أخطر ما يواجه التشريعات والمنظمات الدولية سعي بعض الجهات لتسييرها وفق سياساتها، حتى لو كان ذلك على حساب مبادئها ومنطلقاتها.
وازداد الوضع سوءا بالإعلان عن قيام الاستخبارات الأمريكية باختطاف عشرات الأشخاص الذين تتهمهم بالإرهاب من دول مختلفة، من الشوارع. وفي عدد من الحالات ارتكبت أخطاء في تشخيص الأشخاص، واختطف أشخاص أبرياء يقدر عددهم بقرابة الأربعين، من بينهم خالد المصري الذي اختطف من مقدونيا قبل عامين، وقضى فترة طويلة في الاعتقال قبل إن تكتشف الاستخبارات الأمريكية عدم علاقته بالإرهاب.
نختتم هذه المقالة بالقول إن التناقض بين الخطاب عن حقوق الإنسان، وبين ممارسات مُصَدِّري هذا الخطاب، بين الشعارات الجذابة، وبين الواقع الذي نكتشفه بالملموس، في تجاربنا وفي علاقاتنا مع دول الغرب، راعية هذه الحقوق من حيث المبدأ على الأقل؛ إن هذا التناقض لا يلغي حقيقة أن مفهوم حقوق الإنسان، صار يكتسب بالتدريج بعداً إنسانيا كونيا، رغم أن البيئة الأولى التي نبت فيها معروفة، ويمكن تحديدها في الزمان والمكان. ورغم أنه لا يغيب عن بالنا تماما، أن هذه الحقوق ليست حقوقا طبيعية، كما أنها ليست مبادئ ولا قيما لازمانية. لقد تم الإعلان عنها، وأُقِرَّت وفُرِضَتْ بالتدريج، في رقعة جغرافية معينة، وفي حقبة معينة من تاريخ البشرية. ومن المؤكد أنها كانت من قبل مَتَجاهلة تماما. وإحقاقها وتحويلها إلى مكتسبات إنسانية غالية، لم يكن بالأمر الهَيِّن، إذ تطلب بذل تضحيات باهظة، وخوض صراعات شاقة وطويلة، بل ودموية في أغلب الأحيان.
ومن هنا أصبح إصلاح المؤسسات الحقوقية التابعة للأمم المتحدة ضرورة ملحة، لتحقيق شيء من التقدم في مواجهة الأنظمة التي تمثل انتهاكات حقوق الإنسان سياسة ثابتة لديها. وربما الأهم من ذلك، توفير آليات العمل لدى البديل المقترح للمفوضية، ليستطيع الصمود أمام ضغوط الدول التي تمارس سياسة التضليل لمنع العالم من الاطلاع على ممارساتها القمعية.
ومن الضروري أيضا إن يكون هناك ميثاق شرف تتعهد الدول الكبرى باحترامه، يجعلها قادرة على التصدي للانتهاكات التي تمارسها الدول الكبرى، ومواجهة الإعمال غير الإنسانية التي تمارس بأساليب غير واضحة أحيانا، كما هو الحال مع المعتقلات السرية ومنع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، واستخدام التعذيب بحق المعتقلين، وتجاهل المعايير الدولية في معاملة المعتقلين والأسرى، انه تحد كبير يواجه العالم، ويستدعي شجاعة دولية.