حوار مع السيد نعمان صاحب أقدم وأشهر مطعم لبيع السمك المقلي في بغداد
حاوره : دكتور خالد القيسي / احمد الحاج
لايذكر العراق بحضارته ومعالمه وتراثه وزقوراته ولقاه الآثارية ورقمه الطينية وكتاباته المسمارية وتأريخه الضارب في القدم بما أدهش القاصي والداني وكان ومايزال محط أنظار البشرية وإعجابها على مر العصور،الا وتذكر معه مهنة صيد السمك النهري وإعداده وطبخه حتما والتي تعود الى عصور السومريين والاكديين والبابليين والاشوريين ، فهذه المهنة – صيد السمك – المتوارثة بأدواتها المتنوعة “السنارة ،القصبة ، الشبك، الفالة ” ووسائطها المختلفة “البلم والقفة والمشحوف ” فضلا عن فنون طبخ و إعداد تلكم الوجبة الشهية بأنواعها المقلية والمشوية والتي يعشقها العراقيون بمختلف قومياتهم ومكوناتهم وطوائفهم قد شكلت جزءا لايتجزأ من عادات وتقاليد وثقافة سكان بلاد ما بين النهرين “ميزوبوتاميا” منذ فجر التاريخ ،ولعل السيد نعمان حسين جمعة، يعد واحدا من أقدم وأشهر أصحاب المطاعم المتخصصة بتقديم أشهى أنواع السمك المقلي ،حيث يقع مطعمه الشهير الذي يؤمه عشاق السمك بمنطقة الفضل في رصافة بغداد، وقد دردشنا معه طويلا وتبادلنا سيلا من الطرائف الماتعة،والأمثال البغدادية الرائعة ،ولكل مثل شعبي منها شاهد ومغزى وحكاية ،كان قد أجملها العلامة عبد الرحمن التكريتي ،في موسوعته المتميزة “جمهرة الامثال البغدادية”، وذلك قبل أن نتناول بصحبة السيد نعمان وبمعية عدد من زملاء السلطة الرابعة ومهنة المتاعب وجبة شهية من السمك المقلي المشفوعة بكرم الضيافة وحسن التقديم والاستقبال والتي دأب السيد نعمان على إتحافنا بها في كل مرة نزور فيها مطعمه،وبادرناه بالسؤال الأول عن مهنته تلك كصاحب مطعم متخصص بطبخ وتقديم السمك المقلي ، وفيما اذا كانت هذه المهنة متوارثة عن آبائه وأجداده، أم أنه قد إبتكرها وجعلها مهنة خاصة له فأجابنا مشكورا :
-الحقيقة هي ليست مهنة متوارثة في عائلتنا، وإنما مبتكرة من قبلي بعد أن إختمرت الفكرة في ذهني فشرعت بتحويلها الى واقع حال ، حيث افتتحت المطعم أول مرة نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وظل المطعم مفتوحا منذ ذلك الحين والى يومنا هذا حتى أن زبائننا يأتون الينا من مختلف مناطق بغداد الحبيبة وبعض المحافظات رغبة منهم بتذوق الطبق الشهي الذي نقدمه والذي يشهد له القاصي والداني بفضل الله تعالى وحده ، ولا أقول ذلك من باب الدعاية للمطعم حاشا وكلا ، الا أن هذا هو واقع الحال وهذا ما أسمعه على مدار الساعة ومنذ سنين طويلة على لسان جل زبائننا الكرام ، لأن ما نقدمه لهم من وجبات لاقت صدى طيبا ذاع صيته في كل مكان بشهادة كل من زارنا وأكل من وجباتنا يوما ما .
*ترى ما هو الشيء الذي يميز مطعمكم حتى صار محط أنظار عشاق السمك المقلي وحظيتم بسببه على شهرة واسعة قياسا بالعديد من المطاعم المنافسة، وهل يقدم مطعمكم أكلات أخرى ماخلا السمك المقلي ؟
– مطعمنا متخصص فقط بتقديم السمك المقلي مع الرز الأحمر، وهناك عوامل وخطوات أساسية تحدد مدى تفوق أي مطعم من عدمه، بدءا من النظافة الشخصية والمكانية،مرورا بجودة المواد الأولية والمكونات الرئيسة المستخدمة في الطبخ ، فضلا عن إبتكار خلطات خاصة ومبتكرة تسهم في تعزيز النكهة،والأهم هو الابتعاد عن كل وسائل الغش والخداع،والإحجام التام عن استخدام المكونات غير الطازجة البتة ، وأضرب مثالا على ذلك خلاصته أن هناك عددا من مطاعم السمك المقلي تعاني من ضعف الخدمة أو من قلة جودة ما يقدمونه على خلفية عدم استبدالهم للزيت المقلي بعد الاستعمال المتكرر طمعا في الربح الزائد، وهذا خطأ فادح ، لأن شعارنا هاهنا هو”اربح أقل ولكن قدم الأجود والأنظف والألذ للزبائن” فسمعة المطعم الحسنة هي رأسماله ماضيا وحاضرا ومستقبلا ولن نحيد عن ذلك أبدا ما حيينا .
* حدثنا قليلا عن خطوات قلي السمك أولا بأول؟
– بداية نذهب لشراء السمك من (علوة الاسماك) فور صيدها وإخراجها من الماء ، ونبحث هناك عن الأسماك الطازجة تحديدا، ومؤكد أننا نتعامل مع باعة موثوقين عرفوا بين الناس بجودة أسماكهم ونظافة بضاعتهم أبا عن جد ، ولدينا خبرة في معرفة الأسماك الجيدة من عدمها، فنحن نتجنب شراء الأسماك التي يتم صيدها بطرق غير صحيحة كالصيد بواسطة الكهرباء والسموم والصواعق لأنها غير صحية اضافة الى تأثير تلكم الطرق غير الانسانية وغير الآمنة في الصيد على جودة الأسماك نفسها ، وبعد شراء السمك النظيف والطازج نقوم بتقطيعه وغسله جيدا بالماء، ومن ثم نضيف اليها البهارات والخلطات الخاصة وفي ذلك يكمن سر المهنة كما يقولون ، ثم نبدأ بقلي السمك بالزيت حتى ينضج لنقدمه الى الزبائن مع انواع السلطات وخبز التنور والرز الأحمر والطرشي .
* في أي الفصول يزداد اقبال الزبائن على تناول السمك المقلي؟
ـ بالتأكيد إن الاقبال يتزايد بشكل كبير لتناول السمك المقلي في فصل الشتاء، تدرجا الى الفصول المعتدلة، لأن السمك من الأكلات الحارة غير المرغوبة مع إرتفاع درجات الحرارة وبالتالي فإن الإقبال ينحسر بشكل أكبر مع ذروة فصل الصيف القائظ .
*لماذ يقدم السمك المقلي في العراق مع الرز الأحمر وليس مع الأبيض ؟
-يمكن أكل السمك ولاشك في ذلك مع الرز بأنواعه، كما يرغب بعضهم بأكله مع الخبز فقط، ولكن جرت العادة في العراق على تفضيل تناوله مع الرز الأحمر .
*بما انك من سكنة الفضل ووجهائها المعروفين دعنا نستثمر الفرصة للتحدث عن العادات والمهن الخاصة والمتوارثة في هذه المنطقة البغدادية العريقة وقبلها نود منك إطلاعنا على سبب تسمية المنطقة بهذا الاسم ؟
– قيل أن المنطقة سميت بهذا الاسم – الفضل – نسبة إلى جامع الفضل المقام بالقرب من قبر الفضل بن سهل بن بشر الواعظ ، وقيل انها سميت بذلك نسبة إلى الفضل بن الربيع حاجب الخليفة هارون الرشيد ، ويشتهر سكان منطقة الفضل بمزاولة مهنة البناء كابرا عن كابر ، أما فيما يتعلق بالمهن الخاصة بالطبخ والطعام وصناعة الحلوى فكانوا يتوارثون حرفا ومهنا شعبية محببة نحو بيع حلوى “بيض اللقلق “وهي حلوى قديمة ولذيذة كان باعتها ينادون وهم يتجولون بسلالهم المخروطية ايام زمان بـ” اللگلك علا وطار ..علا وطار ، وكر ببيت المختار ، المختار” ، كذلك (المكاوية) أو ما يعرف بكيكة الدبس المزينة بجوز الهند الملون، اضافة الى (الجقجقدر) وهذه عبارة عن خليط من دبس ولوز،وتصنع بألوان زاهية موضوعة في أوعية معدنية على شكل مستدير وينادي باعتها أثناء تجوالهم بين الأزقة البغدادية وحاراتها وشناشيلها الجميلة بالعبارة الأشهر “جقجقدر ..يامعجون” وهي مهنة متوارثة منذ العهد العباسي ، كذلك الخبز المريس بالجبن والكرفس ، فضلا عن الكبة الشعبية وأشهرها كبة عمعم ، علاوة على صناعة العصائر والشرابت اللذيذة واشهرها شربت زبيب ابو سعيد ، وغيرها الكثير من مهن متوارثة بعضها إندثر وصار في ضمير الغيب ، وبعضها مازال الى يومنا هذا محافظا على وجوده وبقوة .
*ما الذي تتميز به منطقة الفضل من عادات وتقاليد شعبية متوارثة ؟
-بالتأكيد فإن لمنطقة الفضل نكهة خاصة وعادات وتقاليد متوارثة على مدار العام ومنذ قرون خلت ،يبرز بعضها بشكل أكبر في ذكرى المولد النبوي الشريف حيث تتبارى فرق الانشاد الديني والابتهالات والموشحات والمناقب النبوية ولكل منها خصائصها التي تتفرد بها ، فالموشح الديني يؤدى فرقيا ومن دون الات إيقاعية أو موسيقية مصاحبة ، بخلاف الانشاد الديني الذي يصاحبه الدفوف او بعض الالات ، أما الابتهالات فهذه خاصة بالأدعية المأثورة وتؤدى بصوت جميل ومتمكن، يخلب الالباب ، ويتحف الاسماع ، أما المنقبة النبوية فهذه مخصصة لمدح النبي الاكرم ﷺ ويكون لها الدور الاكبر في إحياء ذكرى المولد النبوي طيلة شهر ربيع الاول من كل عام بصحبة الاعلام والدفوف والرايات، كما تتميز منطقة الفضل في شهر رمضان المبارك قياسا بالأشهر الأخرى،بتقديم وتبادل مختلف أنواع الاكلات بين الجيران والمعارف والاقارب وبيوتات المنطقة ، وبتزيين المنطقة بالاعلام والفوانيس الجميلة ، وبصلاة التراويح ، والدمام – المسحراتي – ، وبقيام ليلة القدر المباركة ، وينشط في هذا الشهر الفضيل تبادل الزيارات بين الاصدقاء والاقرباء بينما يتفرغ بعضهم للعبة (المحيبس )بعد صلاة التراويح حيث تنظم فيها مسابقات شعبية ذات اقبال جماهيري كبير على شكل دوري فرقي تتنافس فيه فرق من مناطق بغداد المختلفة ، وتتخللها المربعات البغدادية ، والمربعات لم لايعرفها هي فن بغدادي أصيل وجميل يبعث على البهجة ولايخلو من الطرافة والدعابة وخفة الظل فضلا على الكلمات الخفيفة واللحن والايقاع اللافت بصحبة الفرقة المصاحبة التي تتناغم مع مؤدي المربع وتردد خلفه ، ويتميز مؤدوه بملابسهم التراثية الجميلة حيث الصاية والدشداشة والعرقجين والجراوية ، يتخلل ذلك كله توزيع صواني الزلابية والبقلاوة والمرطبات والمشروبات الساخنة بين اللاعبين والحضور، وقد ظهر في الفضل أشهر لاعبي المحيبس على مستوى العراق، ومنهم علي ابو شوارب، وحجي ياس، وحجي لطيف، والمحيبس لعبة شعبية محببة الى النفوس تمارس في شهر رمضان تحديدا، وتعتمد على الفطنة والفراسة والذكاء للوصول الى الخاتم المخفي في يد أحدهم من بين عشرات اللاعبين الذين يمدون ايديهم للتمويه على لاعب الفريق الخصم ممن يتمتع بملكة فطرية في قراءة الوجوه ولغة الجسد وكشف خبايا النفوس للوصول الى الخاتم – المحبس – المخفي !
*حدثنا عن أشهر الشخصيات التي إرتادت مطعمك ؟
– الحقيقة لقد إرتاد مطعمنا الكثير من الفنانين والرياضيين والسياسيين، أذكر منهم الممثل المعروف الدكتور حمودي الحارثي ، الشهير بشخصية ” عبوسي ” في المسلسل الكوميدي التربوي ذائع الصيت “تحت موس الحلاق” ، كذلك الفنان صادق الاطرقجي وهو احد نجوم المسلسل آنف الذكر ، اضافة الى مسلسل حياتنا، وفيلم حب في بغداد، ومن زبائننا ايضا الفنان المعروف سامي قفطان، نجم افلام الرأس ، والنهر ، والظامئون ، والمسألة الكبرى ، والملك غازي ، ناهيك عن مسلسل (افتح ياسمسم) التربوي الشهير المخصص للاطفال ، وذئاب الليل ، وعالم الست وهيبة ، اما عن المسرحيات التي تألق فيها فأبرزها بيت الحبايب ، و فلوس وعروس ، ولاشك ان زبائننا من المشاهير كثر ولا مجال لعدهم او حصرهم مع الاحتفاظ بالحب والمودة للجميع ومن دون استثناء .
* وماذا عن شخصيات الفضل الرياضية والثقافية والمقامية وقد انجبت المنطقة العديد من هؤلاء الأبطال والأفذاذ والأعلام ؟
– رياضيا لاتذكر الفضل والمناطق المجاورة لها والتي تشكل قلب بغداد النابض بالتراث الزاخر والماضي العريق الا ويذكر معها المصارع المعروف وبطل الزورخانة محمد ابريسم ، كذلك المصارع الشهير عباس الديك ،أما من السياسيين والعسكريين فيأتي في مقدمتهم رئيس وزراء العراق الاسبق عبد الكريم قاسم ، وياسين الهاشمي ، ومن مثقفي الفضل المعروفين عباس العزاوي،مؤلف” موسوعة “تاريخ العراق بين احتلالين”، كذلك الاديب عبد الكريم العلاف الذي صاغ كلمات اشهر الاغاني التراثية ومنها “يا نبعة الريحان ” و ” يا يمه ثاري اهواي” و ” كلبك صخر جلمود” ، أما عن المقام العراقي الاصيل ففي منطقة الفضل وما جاورها ولد أو نشأ أو ترعرع أو مر العشرات منهم ليس أولهم قارئ المقام الأول ومبتكر مقام اللامي محمد القبانجي مرورا بناظم الغزالي وليس آخرهم ولن يكون أخيرهم يوسف عمر ، فالقبانجي الذي بدأ بالمناقب النبوية والابتهالات والموشحات الدينية ، كان قامة وقيمة في فن المقام العراقي وسفيرا فنيا للعراق وقد ابدع في الخنبات واللامي والمدمي والحكيمي والبهيرزاوي ، كذلك يوسف عمر وتلامذته وأقرانه واساتذته فكلهم قد ابدعوا في البستة وهي الغناء بعد تسليم المقام ومن ذات نغمته ، كذلك برعوا في المقام العراقي بأنواعه ، الصبا والبيات والرست والحجاز والسيكاه والجهاركاه وبنجكاه والماهوري والنهاوند والخلوتي والركباني والمنصوري والاوشار والاوج وفروعها المتعددة ولكل مقام مناسبته ،فهناك االمقام الحزين ، وهناك المفرح .
وفي ختام اللقاء الاخوي الذي لايكاد أن يُمل مع السيد نعمان ، لغزارة الذكريات الجميلة المنثالة ، وكم المعلومات الثرية المتدفقة ، وبصحبتنا السيد خالد عبد الستار ،الذي زاد الجلسة الشعبية جمالا ومتعة وألقا، وبينما كنا نصغي سوية الى الأغنية التراثية الجميلة التي كانت تنساب وتتناهى الى أسماعنا من جهاز المذياع القريب لنختم بذلك حوارنا الماتع كما بدأناه ،بصيد السمك وطبخه وإعداده ، ونعني بها أغنية” يا صياد السمك ،صدلي بنية .. قلبي بشبك صادوه ، غصبا عليا” ، تناولنا أشهى أطباق السمك المقلي مع خبز التنور والرز الأحمر والمقبلات والطرشي والعنبة الحارة ،وعبثا حاولنا أن ندفع حسابنا بعد فراغنا من تناول وجبتنا الشهية لأن الحاج نعمان أسوة بأبناء منطقة الفضل العريقة وبيوتاتها وعوائلها الكريمة،وعلى غرار المناطق الشعبية المحيطة، أشهر من نار على علم بكرم الضيافة وحسن الوفادة والاستقبال ، تأبطنا أوراقنا وقفلنا راجعين لنواصل ما بدأناه من جولاتنا وحواراتنا التراثية عن حارات وأعلام ومناطق ومعالم وتراث بغداد الجميل والأصيل .