حمير السياسة وسياسة الحمير
حوار بين حِمار وحَمار

علي الكاش
قيل من قبل: اللبيب تكفيه الإشارة، وهو المراد بهذا الحوار الهاديء.‏
قال رجل لحماره وهو يشعر بألم بسبب ما يشهده من صراعات على المصالح الحزبية والشخصية ‏وإخفاقات في إدارة بلده من قبل حكام عملاء وفاسدين ومنافقين، وشعب لا يتنبه لمستقبله ومصير ‏الأجيال القادمة: أني أحسدك أيها الحمار، وأتمنى في بعض الأحيان أن أكون مثلك!‏
قال الحمار ساخرا: اتقصد أن تشبهني شكلا، أم حالا أم صفة؟ فهناك فرق بين هذه المسائل يا رجل!‏
قال الرجل: بالطبع لا أحد أن يتمنى أن يكون مثل شكلك او يمتلك صوتا كصوتك، معاذ الله من ‏ذلك، مع ان فيك صفات مميزة، لكني أقصد بكلامي حالك؟
قال الحمار بتهكم: ما تقصد بالقول صفاتك؟
قال الرجل: أعني قوة التحمل والصبر والرضا بالقليل وعدم الإعتراض، والوفاء لصاحبك، ‏والأمانة، والرفقة الحسنة، وعدم الثرثرة، مع الذكاء المحدود، فأنت تشبه القليل من البشر في هذه ‏الصفات.‏
قال الحمار: إذن صفاتي الحسنة أكثر من السيئة، وهذا أمر طيب يبعث السرور في نفسي ان ‏صدقت.‏
قال الرجل: البعض منها مثالب لا علاقة لك بها كالشكل والصوت والبطن الضخم، والأسنان ‏الطويلة، والبعض الآخر لك علاقة بها مثل الضعف والسكينة، وعدم الثورية، وتلويث الطرق ‏بروثك، ولمٌ الذباب حولك.‏
قال الحمار: على ماذا إذن تحسدني يا رجل؟ فقد حيرتني في ذكر محاسني ومثالبي، وأظن انك ‏تخفي الحقيقة او تتلاعب بها. فكفاكم كذباّ على فصيلتنا المسكينة! نحن حقا أصحاب المظلومية ‏ولستم أنتم يا أدعياء المظلومية! لم يظلم أحد على وجه الأرض كفصيلتنا. إن مظلوميتنا تأريخية ‏بدأت منذ الطوفان عبورا بالحمار الجد يعفور ولحد هذه اللحظة. فقد زعمتم أن آخر من دخل سفينة ‏نوح كان الحمار والشيطان معلق بذنبه، وهذا ليس ذنبنا. ثم إستطرد الحمار متجهما: ثم على ماذا ‏تحسد فصيلتنا المنكوبة والخائبة؟ هل تحسدنا على تعبنا وشقائنا وصبرنا الطويل‎ ‎عليكم معشر ‏البشر في إنتظار قائمنا يعفور الذي سيملأ أرض الحمير عدلا بعد أن ملئت ظلما بسبب غطرستكم ‏وعنجهيتكم وتعاليكم علينا، وإستغلالنا البشع، سينتقم يعفورنا من كل من أساء لنا.‏
قال الرجل: لعل قائمكم يعفور سيظهر مع قائمنا، وربما يمتطي قائمنا قائمكم ويظهرا معا! فالظلم ‏واحد سواء كان على البشر أم على الحمير، ومنقذنا ومنقذكم لهما نفس المهمة، فكلاهما عاجلا أم ‏آجلا سيظهرا.‏
قال الحمار: لنترك هذا الأمر المؤجل لآخر الزمان، فنحن نعيش الآن زمن الحيرة الحقيقية يا رجل. ‏واستطرد الحمار متهكما: لربما تحسدنا على ضربنا بالعصي من قبل أولياء أمورنا البشر إن ‏تباطأنا، او لأن ولاتنا كانوا على عجلة من أمرهم؟ فيحملوننا المسؤولية بلا مبرر. ‏
قال الرجل: نحن ايضا نتعرض مثلكم الى الضرب والإعتقال والحرمان من الماء والطعام ‏والكهرباء وغيرها من ضروريات الحياة، فنحن في الهوا سوا يا صديقي الحمار.‏
قال الحمار: إذن ربما تحسدنا على تشبيهكم الحمقى والجهلة بنا. مع ان في فصيلتنا من الحكماء ‏والأذكياء الكثير، وفي فصيلتكم من الجهلة والأغبياء الكثير! نحن معشر الحمير كرماء مع معشر ‏البشر، إذ نسمح لهم بإطلاق اسمنا على بعضكم، لكننا لا نتسامح مع من يطلق علينا كلمة بشر.نحن ‏لسنا متملقين وخانعين كالبشر ننحني للغير كي يركبوهم، بل نقف بشموخ وكبرياء ونترك المهمة ‏لكم.‏
قال الرجل: أنت على حق في هذا، فمجلس النواب عندنا نسميه مجلس الدواب، وغالبا ما نصف ‏بعض نوابنا بالحمير، مع انكم تفيدونا أكثر منهم، فأنتم لا تكذبوا ولا تشتروا الأصوات ولا تسرقوا، ‏ولا تبحثوا عن مناصب ومزايا، نحن معشر الحمير متواضعون فعلا، والتواضع من مكارم الأخلاق ‏وهذه من مآثركم التي لا يمكن لعاقل أن ينكرها.‏
قال الحمار: إذن على ماذا تحسدني يا رجل؟ ربما على شكلي القبيح! أنظر إلى أذني الطويلتين ‏الواقفتين كقرني الثور، لا تعرفا الراحة والإنبطاح، انظر إلى بطني المترهل مثل كروش كبار ‏زعماءكم ووزرائكم وقوادكم العسكريين، انظر إلى وجهي الطويل الذي تطلقونه صفة على من ‏يحزن منكم، وأسناني الطويلة القبيحة غير القادرة سوى على هرس الحشائش رغم حجمها الكبير.‏
قال الرجل: لا نحسدك مطلقا على هذه الصفات البتة يا صديقي الحمار.‏
قال الحمار: حسنا، هل تعلم يا صديقي لماذا نحن أصحاب المظلومية الحقيقية؟ لأن هذا ما يحدثنا به ‏كبار حكمائنا. أين نحن مثلا من هدهد سليمان، وناقة صالح، ورشاقة الغزال، وعيون المها، وشدو ‏العندليب، وقوة الأسد، وسرعة الفهد، ومكر الثعلب، ونعومة الأفعى، وظرافة القرد، وعظمة النسر، ‏وفراسة الصقر، ووداعة الحمام؟ إن معشر الحمير تفتقر الى جميع هذه الصفات الجميلة.‏
قال الرجل: لكن عندكم صفة سامية وهي الصبر، لذلك نطلق عليكم إسم (أبو صابر) لشدة صبركم ‏على تحمل الأثقال، وعلى سوء معاملة البشر لكم. والصبر من صفة الأنبياء والصالحين، وهذا يدل ‏على أهمية الصبر على البلاء، وهذا ما لا تدركونه يا صديقي الحمار رغم أهميته التي تجعل قلوبكم ‏تطمئن، وتثقون بأنفسكم. ربما لم تسمع بصبر نبينا أيوب!‏
قال الحمار: ليست المشكلة في تحملنا الأثقال، فقد خُلقنا من أجلها، بل المشكلة في تحملنا الثقلاء ‏منكم، وتحملنا معاملتكم السيئة، وظلمنا بلا مبرر! نخدمكم وتضربونا بكل قسوة، نحترمكم وتستهينوا ‏بنا. ومع هذا تزعم بأنك تحسدني! الأمر محير حقا.‏
قال الرجل: لكن هذا لا ينفِ ان البعض من البشر يحسن معاملتكم، أليس…‏
قاطعه الحمار بحدة: قل إذن على ماذا تحسدني يا رجل؟ قل الحقيقة وسأتقبلها رغم مرارتها. فلا ‏ننتظر منكم إلا المُر! أما الحلو فتستأثرون به لأنفسكم. ‏
عندئذ لاذ الرجل بالصمت، وفكر بعمق في حجج الحمار القوية غير القابلة للدحض.‏
قال الحمار ساخرا: لعلك تحسدني على صوتي المزعج الذي يضاهي زئير الأسد قوة وأشد قبحا! ‏تسمون صوتنا نهيقا وتعتبرونه من أقبح الأصوات لأننا صعفاء، ولا تعيبوا زئير الأسد المخيف ‏لأنه قوي، انكم تحترموا القوي والقادر عليكم، لاحظ كيف تصفوا الرجل القوي بالأسد والذئب، ‏وتسموا الضعيف بالخروف والكلب رغم الخدمات الكبيرة التي تقدمها الخراف والكلاب لكم، انكم ‏أصحاب شخصيات مزدوجة او مرضى بالإنفصام. أنا اعترف ان صوتي قبيح وهو يزعجني أكثر ‏مما يزعجكم! لكن هل الأمر بيدي لأغيره وأشدو كالبلبل؟ هكذا خُلقت يا رجل، وأنا لا أتحمل ذنب ‏خلقي.‏
قال الرجل: كلا أنا أعترف بأن هذا قدركم، ولا تقستطيعوا تغييره، ولا أحد يلومكم على ازعاجنا ‏بأصواتكم القبيحة، إلا إذا كان حمارا! ‏
نظر له الحمار ساخرا وهز رأسه، فإعتذر الرجل على هفوته، وقال: لم أقصد الإهانة مطلقا، انها ‏مجرد زلة لسان. وانا أعرف مكرمة الصبر التي تتمتعوا بها، فأصبر على زلاتي لطفا وسامحني.‏
قال الحمار: ما أكثر زلاتكم معشر البشر! على أي حال، شكرا لك، فقد سميتها مكرمة، وهي تذكرني ‏بمكارم زعمائكم السخية لشعوبكم الفقيرة. ثم أردف: إلعلك تحسدني على ضعفي الكبير، وحياة الذل ‏التي أعيشها، مع إن لدي قدرة على التحمل اكثر من البغل وأصولي نظيفة واصيلة، ولست مثله ‏هجينا، كالبعض منكم، فأصول بعضكم فارسية وتركية، ولكنكم مع هذا تحترمونهم وتعتزون بهم ‏أكثر من أنفسكم، انظر يارجل، للبغل في قوانينكم العسكرية فكل بغل له شخصية مستقلة، ورقم ‏خاص به، ومخصصات طعام، وشخص مسؤول عنه، ويُنظموا بسرايا في جيوشكم، وتشكلوا ‏مجالسا تحقيقية إذا نفق أي بغل. بالضبط تتعاملون مع البغل كما تتعاملون مع الجندي، أخزاكم الله ‏من أدعياء.‏
قال الرجل: هذا الأمر صحيح لأن البغل قادر على الخدمة العسكرية، وهو يقدم خدمة جليلة في ‏المناطق الجبلية والوعرة، وبدونه لا يمكن ايصال الماء والطعام والعتاد الى المناطق الجبلية ‏والربايا.‏
قال الحمار: كذلك نحن نخدمكم، الفرق ان البغل يقدم لكم خدمة عسكرية ونحن نقدم لكم خدمة مدنية، ‏لكن كلتاهما خدمة عامة حسب قوانينكم، ولكننا بلا إمتيازات! ولا تنسى إنه عندما يشتد الضغط على ‏البغل ينتحر، لكن فصيلة الحمير لا تعرف الإنتحار مهما إشتدت بها الظروف، وقصة إنتحار يعفور ‏حمار نبيكم في البئر غير صحيحة، بل لفقت من قبل بعض المؤرخين سيما الصوفية، هل تظن من ‏المنطق ان يهدي حاكم مصر حمارا لنبيكم؟ هل يعقل هذا؟ نحن الحمير لا نعقلها، فهل أنتم البشر ‏تعقلوها؟ اقرأ التأريخ ستجد ان هداية الملوك جواهر وجواري وعطور وأشياءا نفسية وليس حميرا. ‏
قال الرجل: نعم قرأت في رواية لثقة الاسلام “عن أمير المؤمنين عليّ أنه قال:إنّ ذلك الحمار كلّم ‏رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي، إنّ أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه أنّه كان مع نوح في ‏السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله ثمّ قال: يخرج من صُلب هذا حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم. ‏قال عفير: فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار”.‏
قال الحمار: هل تعرف لماذا أدعى البعض ان إسم الحمار يزيد؟
قال الرجل: نعم أخزاهم الله تشبها بأمير المؤمنين يزيد بن معاوية؟
قال الحمار: لنترك التأريخ جنبا، فهو بوتقة من الروايات المتناقضة والأحداث المفبركة التي تخدم ‏البعض وتضر البعض الآخر، ونعود الى حديث البغال، لديكم بغال تسمونها زعران، وهي البغال ‏المعاندة كبعض البشر من الجهلة والحمقى الذين يسلمون عقولهم واموالهم ونسائهم للمعممين.‏
قاطعه الرجل: نسميهم المستحمرين.‏
فقال الحمار: عدنا الى النقطة الأولى، فإستدرك الرجل: معذرة انها زلة كلام أيضا.‏
فإستطرد الحمار غير مبالِ، وقال: الزعران من البغال لا تنفذ ما تؤمر به، فهل سمعت بحمار ‏أزعر؟
قال الرجل ووجهه متوردا من الخجل: كلا! الحقيقة هذا ما لم يخطر على بالي مطلقا.‏
قال الحمار: إنكم تهمشوا الآخرين، وتقصوا من يحبكم ويخدمكم عن طيب خاطر.‏
لاذ الرجل بالصمت، ولم ينبس بكلمة.‏
قال الحمار: طالما قد أفحمتك وصَعبُت عليك الإجابة! إذن يبقى السؤال مستمرا: عن ماذا تحسدني؟ ‏ربما على العلف القليل الذي أتناوله والذي لا يتناسب مع كدحي وشقائي اليومي، او على شربة ‏الماء الوسخة في الدلو القذر، او الماء الذي أشربه من السواقي الآسنة بقذارتكم!‏
قال الرجل: لكننا نشرب مثلكم المياة القذرة وغير الصالحة للشرب، وتصيبنا الأمراض التي لا ‏تصيبكم، وندفع فواتير الماء، وأنتم تشربونه مجانا.‏
قال الحمار: في هذه الحالة نحن سواسية، كلانا على قدم المساواة، فلا مجال للمفاضلة بيننا!‏
قال الرجل: صدقت في هذه المسألة نحن سواء. فلا فرق بين آدمي وحمار في مسألة قذارة الماء.‏
قال الحمار: لعلك تحسدني على مكان إقامتي الوسخ المليء بالروث ورائحته الكريهة والذباب الذي ‏لا ينفك عن ازعاجي من الرأس الى المؤخرة؟ لولا الذيل الطويل الذي أبعد به الذباب عني لضاقت ‏عليٌ سبل الحياة.‏
قال الرجل: كلا يا رفيق العمر، الحقيقة ليست هكذا! أنت أعرف بأن مكانك أنظف بكثير من ‏مناطقنا وشوارعنا التي تتراكم فيها الأزبال والنفايات وسحب من الذباب نهارا، وجمهرة من ‏البعوض والبرغش ليلا، وموجات متتالية من الأمراض، من المؤكد إنك شهدت ذلك خلال تجوالك ‏في الشوارع. فعاصمتنا هي من أوسخ العواصم في العالم، والخدمات الصحية صفر.‏
قال الحمار: بصراحة ان وساختنكم هي مصدر وساختنا! في بعض الأحياء تعاف نفسي الرائحة ‏والعفونة من النفايات المتراكمة في الطرق والساحات، ولا أعرف كيف يتحمل البشر هذا الوضع ‏المزري في حين إننا فصيلة الحمير لا نتحمله! كإننا أكثر حساسية منكم تجاه هذه المسألة يا ‏صديقي؟
قال الرجل: ربما، لكن ما غاب عنك، ان النفايات صارت مصدرا مهما لقوت الفقراء، منها يأكلون، ‏ومنها يرتزقون، ويأخذون أحتياجاتهم، إنها جزء مهم من حياة المعدمين في حكومات الزبالة.‏
قال الحمار: وصرتم أيضا جزءا من الأزبال مع إحترامي لك، فأنكم اليوم أزبال العالم على حتى في ‏نظر زعمائكم وليس العالم الخارجي فحسب. نحن كحمير لا نأكل مثلكم من الأزبال، لدينا البرسيم ‏اللذيذ والشعير الطيب، وهما طعامنا المفضل، ولا نرتزق منها، ولا نسرقها من غيرنا، ولا نتاجر ‏بالفائض منها، ولا نستوردها، فهي مزروعة في أريافنا وقرانا، ونـأمل ان لا تنافسونا في أكلها، ‏فالمؤشرات لا تبشر بخير، والبشر لا يؤتمن جانبهم البتة، ومعامل الجعة شاهد على فعلكم.‏
قال الرجل: هل هذا إعتراف بأنكم أفضل منا في مسألة الطعام؟
قال الحمار: بالتأكيد يا ذكي، نحن نأكل الشعير وأتنم نصنعون منه الجعة، فمن أفضل مِن مَن؟ ‏
قال الرجل بعد تفكير عميق: أنت على حق، أخشى أنك تجاملني وتتملقني ايها الحمار بزعمك ‏ذكائي!‏
أجاب الحمار: أما التملق والتزلف والنفاق، فهذه بضاعتكم، وليست بضاعة الحمير! الحمير ‏صريحة صادقة، لا تعرف التقية ولا تؤمن بها ولا تباهت بها الآخرين مثلكم، ما في قلوبنا مباشرة ‏على ألستنا.‏
قال الرجل: صدقت، أستميحك عذرا لأهانتي غير المقصودة. ولكن ردٌك صعقني وأذهلني لقسوته.‏
قال الحمار: سامحتك! نحن معشر الحمير لسنا كالبشر، فنحن لدينا حكماء وليس لكل فصيلة منا ‏رئيس عشيرة من كبار الحمير، شاغله الرئيس الفصل والعطوة، والوفا والقضوة، والدفا والجلوة، ‏ولا يعنيه الإرتزاق من الغير، وحكيمنا لا يفرِق عنا في ملبسه ومأكله، مجرد لجام وعليجة، وليس ‏على رأسه عِقال او ياشماغ يميزه عن غيره من الحمير، نحن لا نعير للمظاهر البراقة إعتبارا، ‏المهم عندنا الجوهر، وليس المظهر، فكم من ذئب تقمص دور خروف، وكم من ثعلب تقمص دور ‏دجاج، عمر المظاهر ما عبرت عن البواطن، واستطرد قائلا مبتسما: وحمار من لا يعتقد بذلك.‏
إستغرق الرجل في الضحك على الطرفة غير المتوقعة من الحمار.‏
إستمر الحمار في حديثه غير مكترث بضحك الرجل: كما إننا لا نعترف بالثأر ولا نمارس الإنتقام، ‏نحن مسالمون فيما بيننا، ولا شأن لحمار بغيره من الحمير، ليس لدينا وقتا للنميمة والرياء والتملق ‏والعبث. كلنا سواسية ولا نعترف بشريعة الغاب التي تعيبونها قولا، وتمارسونها فعلا وبإحتراف ‏كبير. ان دستورنا ليس مكتوبا كدساتيركم الممسوخة التي تحتذونها ان تعارضت مع مصالحكم، ‏دستورنا نتناقله شفاها، ولا يخضع الى تصويت مزور، او يجرنا مراجعنا إليه كالجمل المخشوش ‏للتصويت عليه، فمن طبائع الحمير انها لا تجعل العرف والتقاليد أعلى مرتبة من الدستور كما ‏تفعلوا. أصدقني القول يا رجل: هل رأيت حمارا يقتل حمارا، أو يعتدي على حمار، او يسرق ‏حمارا، او يزور او يرتشي؟ وهل شهدت حمارا قتل حمارا بسبب الإسم او الهوية او الفصيلة؟
أجاب الرجل: كلا! لم أشهد ذلك مطلقا، وهذه شهادة للتأريخ. ‏
الحمار: أما العلة في ذلك، فلأن القانون عندنا فوق الجميع، فنحن دولة القانون، ونحن معشر الحمير ‏مصدر السلطات، وليس الزعماء السياسيين! ولا يوجد في دستور الحمير المحاصصة الحميرية او ‏التمييز العرقي والقومي والجنسي، لا فرق بين حمار وحمار إلا بكفائته وإخلاصه.‏
قال الرجل مستغربا من الإجابة: هل لديكم مجلسا للحمير كمجلس النواب عندنا؟
أجاب الحمار: بالتأكيد، ولا أعتقد هناك فرقا بين المجلسين إلا ضئيلا، فرئيس مجلسنا هو الأكبر ‏سنا، والأكثر حكمة وتجربة، وله معرفة تامة بشوؤن الحمير، ونحن نختار نوابنا بقرعة وتصويت ‏علني، ولا علاقة لإختيارنا باللون والجنس والأهواء والميول الحميرية الخاصة والفصيلة، ولائنا ‏لفصيلتنا فقط وليس لفصيلة أجنبية من سائر الحيوانات في الشرق أو الغرب. كما ان حضور نوابنا ‏الحمير في المجلس إلزامي، ولا يجوز لهم التغيب إلا بعذر مشروع كالمرض والسفر، وليست لهم ‏مزايا وحوافز كعلف إضافي او إسراحة من العمل، او عطلة تشريعية. وليسوا بحاجة الى قسم ‏اليمين، فهم جميعا أمناء على أصواتنا وحقوقنا.‏
قال الرجل: يا لعدالة مجلسكم الموقر، ويا لخيبة مجلسنا المُحقر. حسنا، لننهي هذا الموضوع ‏السياسي، فقد يُوقعني في مشاكل أنا في غنى عنها يا صديقي الحمار فأنت تعرف ما تعني المادة/ 4 ‏إرهاب، والخشية من المخبر السري، فهذا بلاء ما بعده بلاء، ليت من يحكمونا حميرا يا صديقي!‏
غرق الحمار بالضحك وقال: لقد رجعنا الى خط البداية، وذهب كلامنا السابق أدراج الرياح، سأغير ‏الموضوع فلا فائدة من الحديث مع…!‏
قاطعه الرجل: ارجوك لا تكمل العبارة القاسية.‏
قال الحمار: حسنا! أحيانا تكون لإسمائنا كحمير تكلفة كبيرة باهضة عندكم مثلما قاطعت كلامي، إذن ‏لماذا تجعلونا إضحوكة لكم وتستهينوا بنا، وتلصقوننا بطرائف مهرجيكم كجحا وأشعب وغيرهم؟
قال الرجل: في الحقيقة لا أعرف! ولكني قرأت بأنه مر رجل بأشعب وكان يجر حماره، فقال له ‏الرجل مازحا: لقد عرفت حمارك يا أشعب ولم أعرفك‎.‎‏ فقال أشعب: لا عجب فالحمير تعرف ‏بعضها‎.‎
قال الحمار ضاحكا: لم أسمعها من قبل، ولكنها مليحة سأسجلها في يومياتي! ولكن الحمير تعرف ‏بعضها البعض، وليس مثل البشر، نحن لا نعرف الغدر، ولا القتل على الهوية.علي أي حال، ‏سأحدثك القليل عن مظلوميتنا وقساوتكم معنا وارجو ان تدلي برأيك، هل رأيت حمارا في حديقة ‏حيوانات؟ ولماذا تستخدمون الفيل في الشطرنج بدلا عن الحمار؟ أنظر الى الأبراج يوجد الثور ‏والجدي ولا يوجد برج الحمار؟ الأدهى منه إنكم تزعموا ان الديك يرى الملائكة، ونحن نرى ‏الشياطين! ربما لأننا نراكم، في الحقيقة ولا نرى أبالسة وشياطين غيركم، بل بعضكم أشطن من ‏الأبالسة، وحري بهم أن يقدموا لهم دروسا في الشيطنة. إستمر الحمار في كلامه: هل تعرف إن ‏أكثر أمثالكم عن الحمير؟ خذه هذه الباقة من الأمثال” مثل حمار جحا”. ” إحفر نفق بمسمار ولا ‏تناقش حمار”. و” طنش كالحمير نعيش أمير”. و” الحمير حمير ولو حاولوا التفكير”. و” عاش ‏حمار وقضى حمارا”. و” التعاون مع الاستعمار هو أعلى مراحل الإستحمار”. و” إذا ما نفقت ‏ومات الحمار.. أبينك فرق وبين الحمار”. و ” الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل، لأن أغلبية من ‏الحمير ستحدد مصيرك”. و” لو كان الجزاء بقدر التعب لنام الحمار على سرير من ذهب”. و” ‏التكرار يعلم الحمار” و” السرج المذهب لا يجعل من الحمار حصان”. و” اللبيب من غمزه ‏والحمار من ذكزه”. و” إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”. و” مثل الكر يسبق أمه”. و” الخوف ‏يجعل الحمار أسرع من الحصان”. و” إعتقد الحمار نفسه عالما لأنهم حملوه كتبا”. و” لا يتعلم ‏الحمار السباحة إلا بعد أن تصل المياه إلى أذنيه”. و” إذا أقبل ابخت باضت الدجاجة على الوتد ‏وإذا أدبرت بال الحمار على الأسد”. و” الحمير لا تأكل أوراق التبغ كالبشر”. و” أصبر من ‏حمار”. و” حمار الحرب لا يهرب”. إنكم تتندروا علينا يا رجل في الروايات والأمثال والأشعار، ‏بئس لكم معشر البشر ما قلة وفائكم لمن يخدمكم.‏
قال الرجل بتعجب: كيف؟ أجاب الحمار: خذ هذه الرواية: مات‎ ‎لبشار بن برد حمارٌ، فقال: كان ‏حِمَارِي أعقل من القضاة، ليس له هفوة ولا‎ ‎زلة، فاعتل على حين غفلة، فمات، فرأيته في النوم، ‏فقلت له: أَلمْ أُنقِّ‎ ‎لك الشعيرَ، وأُبرّد لك الماءَ ؟ فما سبب موتك؟‎ ‎فقال: أتذكر إذ وقفتَ‎ ‎بي على ‏الصيدلاني – يعني العطار-؟ قلت: نعم. قال: مَرَّتْ إذْ ذاك‎ ‎أَتَانٌ، فافْتَتَنْتُ بها، ومتُّ مِنْ عِشْقِهَا. قال ‏بشّار: فقلتُ: هل‏‎ ‎قلتَ في ذلك شيء؟ قال: نعم. وأنشد‎:‎
هَامَ قَلْبِي بِأَتَانِ عِنْدَ بَابِ الصَّيْدَلاَنِي‎
تَيَّمتْنِي يَوْمَ رحْنَا بِثَنايَاهَا الْحِسَانِ‎
ذَاتُ غُنْجٍ ودَلاَلٍ سلَّ جِسْمِي وبَرَانِي‎
ولَهَا خَدٌّ أَسِيلٌ مِثْلُ خَدَّ الشَّيْفَرَانِ‎
فِيهِا متُّ ولَوْ عِشْــتُ إذَا طَالَ هَوَانِي
فقيل لبشار: ما الشيفران؟ قال: هذا من غريب لغة الحمير، فإذا لقيتم حماراً فاسألوه‎.‎‏ ‏
وقال احمد شوقي”‏
وأومـأ الحـمـار بالعقـيـره يريـد أن يشـرف العشـيـره‎
فقال: باسـم خالـق الشعيـر وباعث العصا إلى الحميـر‎
فأزعج الصـوت ولـي العهـد فمات من رعدته فـي المهـد‎
فحمل القـوم علـى الحمـار بجملـة الأنيـاب والأظـفـار‎
وانتـدب الثعلـب للتأبـيـن فقال في التعريض بالمسكيـن‎:
لا جـعـل الله لــه قــرارا عاش حماراً ومضـى حمـارا‎!‎
وقال آخر:‏
سقط الحمارُ من السفينة في الدُجي فبكي الرفاق لفقده، وترحمَّوُا
حتي إذا طلع النهار أتت به نحوالسفينة موجة تتقدّمُ
قالت: خذُوهُ كما أتاني سالماً لم أبتلعهُ، لأنه لا يُهضم
ـ قال مسكِين الدارميُّ:‏
أَو حمارِ السَّوءِ إن أَشبعتَهُ … رمَحَ النَّاسَ وَإِنْ جَاعَ نَهَقْ
قال الملتمس:‏
ان الهوان حمار الذل يعرفه … والمرء ينكره والحسرة الاجد‎
ولا يقيم بدار الذل يعرفها … الا الحمار حمار الاهل والوتد
هل تعلم ان الشعراء إستشهدوا الحمار أكثر من الأسد وباقي الحيوانات في أشعارهم؟
فلماذا تظلمون معشر الحمير؟ ولماذا تعيبونها؟ أليست أجمل من بعض‎ ‎الحيوانات؟ على الأقل أجمل ‏من القرود والخنازير والضباع والضفادع. ثم لا تنسً ان الحمير هي عجلات الفلاحين والفقراء، ‏و(ترولي) التسوق، ورفيق السفر؛ فهي من أفضل أنواع‎ ‎المواصلات- عند الحاجة إليها، إضافة إلى ‏أنها لا تتعطل، ولا ينفد منها الوقود، ولا‎ ‎تستسلم أمام الصعاب، وتسير في الطرقات الضيقة، ‏وتلتزم بإشارات المرور، على العكس منكم. وإستطرد الحمار: إن اتهام الحمار بالبلادة لظلم كبير، ‏إنها دعابة سخيفة، ونكران للجميل،‎ ‎فلغايات بلاغية يستعمل لفظ الحمار من أجل التشبيه والكناية. ‏وكأن الحمار هو المخلوق‎ ‎الوحيد على وجه الأرض الذي يوصف بالغباء‎.‎‏ أهناك من هو أكثر حكمة ‏من الحمير؟ لا تثرثر، وتلتزم الصمت إزاء‎ ‎الكثير من سخافاتكم. اسأل جورج أورويل في روايته ‏‏”حيوانات المزرعة‏‎” ‎عن شخصية (بنجامين) ذلك الحمار الحكيم. اسأل عن توفيق الحكيم وحكمة ‏حماره، وماذا تعلم منه؟ الحمار يفتخر بهويته الوطنية، وله جنسية واحدة، ولا يتنازل عن إصالته، ‏ولا يخدم غير صاحبه، ولا يأخذ أتانه إلى إحدى الولايات البعيدة لتلد هناك فيحصل الجحش الوليد ‏على هوية أجنبية ومزايا، هل هناك حمار يعمل بصفة مخبر سري؟ او حمار يخون وطنه، او حمار ‏عميل تجسس على حمار آخر، او حمار خدم حمارا اجنبيا وقاتل معه ضد فصيلته؟ أما من ‏يحكمونكم من الحمير فلا ينتسبوا الى فصيلتنا، ونحن منهم براء، في حين أنتم لم تتبرأوا منهم. ‏وإستطرد الحمار: لم تكتفوا بإهانتنا بل تحولتم الى أن تتخذوا من لحومنا طعاما لكم، هل يجوز ذلك ‏حسب شرعكم؟ الويل لكم من أفعالكم وقساوتكم علينا!‏
قال الرجل: إن أكل الحمير محرم علينا، فقد حرم نبينا في يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية. ولكن احد ‏الأئمة برر أكلها بقول‎ ‎‏” إنما نهى عن أكلها في ذلك الوقت، لأنها كانت حمولة للناس”. وقال شيخ ‏طائفة معروف” يجوز أكل لحوم الحمر‎ ‎الأهلية والبغال وإن كان فيها بعض الكراهية إلا أنه ليس ‏بمحظور”.‏
قال الحمار: أية كراهية يتحدث بها هذا ال…، وأنتم تتلذوا بلحومنا، يا آكلي لحوم الحمير!‏
قال الرجل: بعد أن سردت هذه المعلومات الوافرة والأشعار والحكم، هل عرفت أيها الحمار لماذا ‏أحسدك؟ إبتسم الحمار وقال: أنت على حق، ما أنصفك وما أجهلني، فعلا أنا حمار!‏

علي الكاش