الكل يتحدث عن إبعاد أماكن العبادة وأماكن العمل عن الحملات الانتخابية والدعاية السياسية .. بغض النظر عن القائم عليها والمشرف على تسيير شؤونها.. لكن لم يتحدث أحد عن إبعاد المقابر عن السياسة واتخاذ العظام مطية لدعاية أي حزب كان..

بدأت الحملة الانتخابية بدخول آلات التصوير إلى المسجد، لتلتقط صور القائمين على الحزب أولا ودائما .. وكأنهم في حفل توزيع الجوائز.. دون مراعاة حرمة صاحب النعش الممدود .. وظلت آلات التصوير تلاحق كبار أصحاب الحزب داخل المسجد وبعد صلاة الجنازة مباشرة، وحينما همّوا بركوب سياراتهم الفاخرة.

وبعد أن تمّ دفن الميّت .. وُضعت على الفور مكبّرات الصوت داخل المقبرة .. مايعني أن الحملة الانتخابية أُعدّ لها سلفا .. وراحت الصور تلاحق القائمين على الحزب .. وتُلتقط  لمن ألقى كلمة تأبينية .. فأذهبت عن الحاضرين المهابة والجلال في مثل هذه الأماكن .. وكأن المشيّع في عرس عوض مأتم .. وأطلق صاحب الكلمة العنان لقريحته .. وراح يمدح المدفون بأنه..

فعّال في حزبه .. وأن الحزب افتقده .. ويظل يبكي عليه .. طالبا من المشيعين الالتزام بمبادئ الحزب كما التزم بها المدفون .. عاهدا إياه أن يبقى وفيا للحزب كما كان المرحوم وفيا لحزبه .. ويخيلّ للسّامع أنه في ملعب أو قاعة متعددة الرياضات ..

وكانت الكلمة طويلة جدا .. أرهقت الحضور.. لم يراع صاحبها المشيعين الذين جاؤوا من أماكن بعيدة .. والمسافرين الذين قدموا من ولايات الوطن .. فاستغلت المقبرة لغير الغاية التي أنشئت لأجلها .. وأقحمت السياسة عنوة في غير مكانها .. وفرضت على المشيعين .. وهم لها كارهون ..

لايعني البتّة أن صاحب الميت في وظيفة ..أو فكرة له الحق في أن يستغل الموت والميت .. لأغراضه السياسية .. بل يعتبر ذلك استغلالا للنفوذ في غير الوجهة المرجوة ..

 من استغل من هم تحت الأرض لِمَا هو أسفل.. فلن يصعد بمن هم فوقها وسَيُرْدِيهم أرضا .. لأنه لم يكن في يوم من الأيام الموت وسيلة لتسلّق السّلطة .. وإنما فرصة للكفّ عن التسلّق .. لأن سلطة العظام تعلو سلطة التاج .. والقبر أقرب لصاحبه من كرسيه الذي يجلس عليه .. ويحلم به .. ومن امتطى الأموات .. فهو أبعد من أن يفيد الأحياء.