تعـــد الولايــات المتحــدة الأمريكية إحــدى أهــم الــدول ديمقراطية في العـــالم بمـــا كفلـــه لهـــا دســـتورها مـــن ضـــمانات حقيقيـــة للمـــواطن الأمريكي في مجـــال الحرية والحقوق، فهذا الدستور يعد من أقدم دساتير العـالم المدونـة والثابتـة، إلا أن هذه الضمانات الدستورية كانـت عرضـــة لتجـــاوزات الســـلطة التنفيذيـــة بـــين الحـــين والأخر؛ إذ أنها تصدر بعض القوانين والأوامر التي تعطل بموجبها حقوق الإنسان وحرياته العامة في أوقــات معينــة ولأسباب عديــدة، كــأن تكــون حالــة حــرب أو إعــلان حالــة الطوارئ لوجــود خطــر يهــدد الأمن القومي الأمريكي.
يعتــبر قـــــانون مكافحـــــة الإرهاب الـــــذي صـــــدر في 26/10/2001، عقب أحداث 11 أيلول مــن أهــم وأخطــر القــوانين الــتي أصدرها الكونغرس الأمريكي التي تهدد الحريات المدنيــــة في الولايــــات المتحــــدة الأمريكية؛ فبموجــب هــذا القــانون وسعت صــلاحيات الســلطة التنفيذيـة علـى حسـاب السـلطتين الأخريين. وعلــى الــرغم مــن أن المســتهدف الأساسي مــن القــانون هــم الأجانب الــذين ينتهكــون القــوانين الأمريكية، ولكن القـانون يتعـدى ذلـك ليشمل المقيمين إقامــة دائمــة داخــل الولايــات المتحــدة والمواطنين الأمريكيين أيضا، وفـــق تقـــدير الأجهزة الأمنية.
في واقع الحال، تعـد سلسة القـرارات الـتي صـدرت بعـد أحداث أيلول ٢٠٠١، أخطـر مـن قـانون مكافحـة الإرهاب نفسه، فالقـانون يظـل علـى أيـه حال قانونا، أي أنه يخضع للرقابة على تنفيذه مـن قبـل السـلطة التشـريعية، أمـا فيما يتعلق بالقــرارات التنفيذيـة فالأمر مختلف، فقــد استخدمت السلطة التنفيذية مــــا يٌعــــرف بــ(سـلطات صـنع القـرار في وقـت الطـوارئ) الـذي يسـمح لصـدور القـرار، ثم تنفيذه فـورا لإصدار العديد من القرارات التنفيذية؛ ومن هذه القرارات: تأجيل تنفيذ أحكام القضاء، وعدم نشر بيانات عن المعتقلين، والتنصت على المكالمات، وإنشاء المحاكم العسكرية، وغيرها.
في تحديثها السنوي (2015) المقدم إلى “لجنة حقوق الإنسان”، قالت الولايات المتحدة الأمريكية إنها تحظر التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة، والاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي “لأي شخص في حجزها حيثما كان محتجزاً”، وإنها “تحاسب أي أشخاص مسؤولين عن مثل هذا الأفعال”. ومع ذلك، لم يكن قد اتخذ، في نهاية السنة، أي اجراء لوضع حد للإفلات من العقاب على الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي ارتكبت في سياق برنامج الاعتقال السري الذي كانت “وكالة الاستخبارات المركزية” تطبقه، بتفويض من الرئيس السابق، جورج بوش الصغير، عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2011 (9/11).
وأبلغت الولايات المتحدة الأمريكية “لجنة حقوق الإنسان” كذلك أنها “تدعم الشفافية” بالعلاقة مع هذه المسألة. ومع ذلك، فبنهاية السنة، أي بعد أكثر من 12 شهراً على نشر ملخص تقرير “اللجنة المختارة لمجلس الشيوخ بشأن الاستعلام عن برنامج السي آي أيه”، الذي رُفعت عنه السرية، ظل التقرير الكامل للجنة، المؤلف من 6,700 صفحة، والذي يتضمن تفاصيل طريقة معاملة كل معتقل من المعتقلين، يخضع لتصنيف “سري للغاية”. حيث أخضع معظم المعتقلين، إن لم يكونوا جميعاً قد أخضعوا، للاختفاء القسري ولظروف اعتقال و/أو أساليب استجواب تنتهك الحظر المفروض على التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وظل تصنيف التقرير على هذا النحو يخدم أغراض الإفلات من العقاب والحرمان من الانتصاف وجبر الضرر.
اليوم، يبدو أن الأمريكيين بدأوا بصراحة واضحة يتخلون شيئا فشيئا عن ديمقراطيتهم، إذ افتتح الرئيس الأمريكي الـ(45) عهده الجديد، بمجموعة من القرارات الاستفزازية التي عدها المراقبون قرارات منتهكة لحقوق الإنسان وحرياته، وتتناقض مع القيم الأمريكية التي ظلت أمريكا تبشر بها وتدافع عنها طوال قرون.
ليس غريبا أن تتحول الولايات المتحدة الأمريكية من دولة حامية للحقوق والحريات إلى دولة منتهكة لها في غضون سنوات معدودة. فكثيرة هي التصرفات غير اللائقة التي ترتكبها هذه الدولة، تحت عنوان “الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته” وهي في حقيقتها انتهاك لجوهر تلك الحقوق والحريات، كالحروب المفتوحة، وبيع الأسلحة، والطائرات المسيرة، والتدخلات في شؤون الدول، والسرقات “الشرعية” لبترول وثروات الدول المغلوبة على أمرها، وهلم جرا.
إلا أن الولايات المتحدة ظلت تبرر تلك الأفعال المشينة، وتضعها في إطار سعيها الرامي إلى تعزيز تلك الحقوق في البلاد الفاقدة لها، فمثلا هي تبرر دعمها للجماعات الإرهابية في العديد من البلدان كسوريا وليبيا ومصر والعراق والسودان وغيرها بسعيها لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية في تلك البلاد. وتبرر دعمها اللامحدود وبيعها الأسلحة الفتاكة للقوات السعودية لضرب اليمن بحجة المحافظة على “الحكومة الشرعية”.
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية، ستكون في عهد حكومة الرئيس “ترامب” أكثر وضوحا وشفافية من الحكومات التي سبقتها، وستعلن صراحة أن مقولة “ريادة أمريكا في الدفاع عن حقوق الإنسان وحريته ونشر الديمقراطية” ليس مقولة مبدئية وأبدية كما يصفها الأمريكيون، ولا ينبغي لأمريكا أن تتمسك بها في ظل مفهوم “أمريكا أولا” فالانطباع كان دائماً بأن الولايات المتحدة هي قائدة العالم، لهذا يمثل شعار “أميركا أولاً” بداية الاعتراف بتراجع الولايات المتحدة عن قيادة العالم.
يقول “شفيق ناظم” في مقال له: تؤثر السياسة الأميركية في العالم في صورة مضاعفة، وذلك لشدة ترابطها بالموقف العسكري السياسي كما ولترابط الاقتصاد والدولار الأميركيين بالعالم. فعندما تنسحب الولايات المتحدة من مؤسسة دولية ستدفع المؤسسة إلى فقدان الفاعلية، وعندما تفرز رئيساً يؤمن بالعنصرية فستساهم في تشجيع العنصرية في العالم، وعندما تبني سوراً على حدودها مع المكسيك لن تنجح في منع الهجرة، بل ستعزز التقوقع والخوف تماماً كما تفعل إسرائيل حول الضفة الغربية وغزة. الضحية الأولى من ضحايا ترامب على المستوى العالمي، ستكون حقوق الإنسان والحوكمة والحريات، لهذا فالعنف في عهد ترامب سيكون مضاعفاً، ومقاومة آثار سياساته في الشرق الأوسط، وفي الداخل الأميركي ستساهم في مزيد من عدم الاستقرار.
ليس هذا وحسب بل ما أسسته أمريكا وما شرعته من قوانين وطنية وإقليمية ودولية واتفاقيات حول حقوق الفئات الأكثر عرضة للانتهاكات، كحقوق الأطفال والمرأة، وذوي الإعاقة، والعمال المهاجرين، واللاجئين، والأقليات العرقية والدينية وغيرها بات هذا كله بحكم الحقوق المجمدة في هذه الدولة إلى إشعار آخر.
تقول ناتالي نوغيريد في صحيفة الغارديان “إن تولي ترامب الحكم يضعنا أمام أمرين: أولهما أن عبارة “حقوق الإنسان” نفسها معرضة للانقراض من التعاملات الرسمية، والأمر الثاني هو أننا نشهد صعود “مستبدين” إلى الحكم، ليس عن طريق الانقلابات والتسلط، وإنما عن طريق الانتخابات الديمقراطية، فالمستبدون والشعبويون أصبحوا يحكمون في أوروبا والهند وتركيا والولايات المتحدة، لأن الشعب انتخبهم باختياره”.
مقررو الأمم المتحدة، المعنيون بحقوق المهاجرين، ومكافحة الإرهاب، ومناهضة التعذيب، وحرية الدين والمعتقد، ادانوا قرارات “ترامب”، وجاء في البيان لهم “أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بقراره الذي وقّعه في 27 كانون الثاني/يناير الماضي، ينتهك الالتزامات الدولية لحقوق الإنسان، الذي يتعين عليه ألا يميّز أو يرحّل أشخاص على أساس الدين، والعرق، والجنسية”. وأوضح البيان أن “قرار الولايات المتحدة بخصوص الهجرة، يقوّض آمال الأشخاص المحتاجين للحماية الدولية، في ظل أكبر أزمة للهجرة يشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية”.
أكدت منظمة العفو الدولية أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منع دخول رعايا 7 دول إلى الولايات المتحدة يحوي توجهاً ضد المسلمين ومشاعرهم، واصفة القرار بأنه لا إنساني وظالم، وأكدت مارغريت هوانغ، مديرة منظمة العفو الدولية، أن القرار يعد انتهاكاً للقوانين الدولية، وخرقاً واضحاً لقوانين حقوق الإنسان الدولية التي تحظر التفرقة على أساس الدين أو الجنسية، وأعلنت أن المنظمة ماضية في مواجهة هذا القرار قضائياً.
يقول أحدهم لا اصدق أن أمريكا العظمى بكل مفكريها وفلاسفتها ورجالها النابغين في كل مجالات الحياة لا يدركون حقيقة التاريخ وخطورة أوهام القوة عندما تنحرف عن مسارها الإنساني القيمي، خاصة وأنهم يعرفون أن أمريكا لم تصبح قوة عظمى إلا بفعل الرجال الأحرار، ولن تستمر في عظمتها إلا بدعم الحرية والأحرار وحقوق الإنسان في كل مكان دون المتاجرة او المساومة بتلك القيم العظيمة لتحقيق غايات سياسية واقتصادية آنية.
التوصيات
– يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية الرجوع إلى دستورها وقوانينها الحامية لحقوق وحريات الإنسان كافة، سواء كانوا مواطنين أو مهاجرين، دون تمييز على أساس الجنس أو اللون او العرق أو الدين.
– يتعين على الولايات المتحدة الامتثال لالتزاماتها الدولية وحماية الفارين من الحروب والنزاعات، وفتح أبوابها أمام اللاجئين من الحروب والنزاعات الداخلية لاسيما في سوريا والعراق، التي تعتبر واشنطن طرفاً فيها.
– على ترامب أن يُدرك أن مصداقية الحكومة الأمريكية في تعزيز حقوق الإنسان، والحكم الرشيد، وسيادة القانون لن تتحقق بالكامل ما لم تمتلك الحكومة الأمريكية سجلا أفضل في قضايا مثل حقوق المرأة والطفل، والعدالة الجنائية، وغوانتانامو، وغارات الطائرات بدون طيّار خارج مناطق الحرب التقليدية، وتحقيق العدالة في جرائم التعذيب.
……………………………….