منذ أن استباحت مجاميع ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية مدن الفلوجة والموصل وتكريت وتلعفر وسنجار وبعض من سهل نينوى وبلدات في ديالى والانبار، بسرعة مذهلة لم تتوقعها معظم الأوساط التي تعتمد الخطاب الحكومي في بغداد وربما خطابات كثير من دول الجوار أيضا، حيث اعتمد هذا الخطاب على التعامل مع حركة ونشاط هذا التنظيم على أساس انه مجرد منظمة إرهابية بسيطة لا تتعدى كونها مجموعة عصابات سلب ونهب وقتل، دون أن تتعمق في ماهية عقليتها وآلياتها وقنواتها وشبكة اتصالاتها وإعلامها، بل ربما لم يدرك الكثير حتى بواطن إستراتيجيتها وأهدافها العليا غير المعلنة، كونها تروم إنشاء كيان إيديولوجي ديني قائم على نسف كل المعايير المدنية والإنسانية المتحضرة واستبدالها بأعراف بدائية همجية غرائزية ضمن توليفة عقائدية حسب تأويلات منظريها وقادتها.

 

     لقد أكدت معظم المعلومات الاستخبارية المحلية والعالمية إن جل قادة هذا التنظيم من كوادر ومنتسبي الأجهزة الخاصة التي كان يعتمد عليها صدام حسين شخصيا، والتي كانت ترتبط به مباشرة مثل المخابرات العامة والأمن الخاص وقوات الحرس الجمهوري وفدائيي صدام، وكثير من هذه القيادات خضعت لدورات دينية مكثفة مطلع التسعينيات الماضية فيما كان يعرف بالحملة الإيمانية التي أدلج فيها صدام حسين خليطا فكريا متقاربا بين السلفية والبعثية، وغايتهما في التمدد وإقامة دولة الرسالة الخالدة التي رفع شعارها جناحي البعث في كل من سوريا والعراق.

 

     وقد احتار الجميع في ماهية داعش ومموليها وتناقضاتها والبون الشاسع بين منفذي غزواتها وقياداتها الرئيسية، حيث اعتمدت مجاميع من البدويين والقرويين الذين يجهلون القراءة والكتابة، والبعيدين تماما عن مراكز المدن وابسط مظاهر المدنية والحضارة، سواء من تم استخدامهم هنا في العراق وسوريا، أو من تم استقدامهم من شمال أفريقيا واسيا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي ذات الاغلبية المسلمة، بينما تتمتع قياداتها بمواصفات عالية في العلم العسكري والاتصالات والدعاية والإعلام واستخدام العوامل النفسية في التأثير على الأهالي ونشر الرعب بينهم عن بعد، باستخدام معظم الوسائل البدائية والمتطورة ومعظمهم كوادر أوربية من أصول عربية إسلامية، إضافة إلى الضباط العراقيين من بقايا النظام السابق، ناهيك عن إمكانيات مالية مهولة تعكس ضخامة الدعم وحجمه الذي يتجاوز الأفراد والشركات إلى الدول.

 

     مع كل هذه المعطيات مضاف إليها تراكم الخبرة منذ سنوات طويلة في العمل تحت الأرض في كل من الموصل والانبار وتكريت وديالى وبعض مناطق كركوك والرقة ودير الزور والحسكة وغيرها من المدن والبلدات، تحولت تلك المجاميع المسلحة إلى كيان يتحكم في مساحات واسعة من الأراضي والأموال وشبكة المواصلات وكم هائل من الأسلحة العراقية والسورية والأمريكية والروسية التي سيطر عليها التنظيم خلال الفترة الأخيرة، مع وجود كوادر بمختلف الرتب من الجيش العراقي السابق وخاصة النخبوية منه، الذين تم تجنيدهم عقائديا وماليا ضمن هيكل التنظيم.

 

     والأسئلة الملغومة أو الشديدة المرارة هي تلك التي تتعلق بالمساهمة في تصنيع وتطوير وعملقة داعش سواء بشكل مباشر، كما تتهم تركيا أو غير مباشر كما تتهم إيران، وأوساط سنية عراقية سواء عشائرية أو سياسية، هذه الأسئلة تتمحور حول:

 

     لماذا أهمل المالكي كل التحذيرات الكوردية والأمريكية منذ ما يقرب من سنتين حول الخطر الذي تمثله تنظيمات داعش غرب الموصل؟

     هل لعدم استجابة المالكي لرغبة كوردستان في التصدي للتنظيم قبل احتلال الموصل له علاقة بنية المالكي في تعريض الإقليم لخطر الغزو الإرهابي وتخفيف الضغط عليه؟

     هل فعلا احتلال الموصل وتكريت والانبار وغيرها من المدن السنية حققت رغبة المالكي في ابتلاء هذه المدن وسكانها والتفرج عليهم؟

     لماذا غيرت داعش تكتيكها وعادت من أبواب بغداد إلى حافات كوردستان في العراق وسوريا؟

     هل حقا إن داعش تمثل مزيج من الشوفينية الطورانية والفارسية والعروبية؟

     لماذا هذا التميع في مقاومتها من قبل الأمريكان والغربيين؟

     هل حقا أن داعش تستلم شهريا مبالغ طائلة مقابل عدم التقرب من السعودية أو الإمارات أو الكويت أو الأردن أو إيران أو تركيا؟

     ما سر عدم اهتمامها أو حتى تقربها من أي شيء له علاقة بإسرائيل؟

     لماذا رفض القنصل التركي مغادرة الموصل بعد احتلالها من قبل داعش؟

     كيف تم إطلاق سراح موظفي القنصلية التركية في الموصل، وما هو الثمن؟

 

     ربما هناك إضعاف هذه الاسئلة عما جرى وما يزال يجري، وسيل من التعليلات والاتهامات، لكن الحقيقة إن كائنا خرافيا همجيا ينمو ويتطور من بقايا تخلفنا ورواسب لا آدميتنا، التي توارثناها اجتماعيا وثقافيا ودينيا وتربويا منذ أن كان إمام الجامع وكيل الله على الأرض، والمعلم يعلى ولا يعلو عليه، والشيخ والملك والرئيس، كائنات أعلى من البشر ولهم الحق كما يشاءون، منذ ذلك اليوم ينمو جنين داعش حتى ترعرع وكبر في بيئة لا تقبل الآخر أبدا ولا تعرف لغة الحوار والنقاش، واعتادت لغة التأنيب والاهانة والإقصاء، وأدمنت صناعة العدو وتكفير المختلف وإباحة القتل والسحل والتعذيب!

 

     إن ما يجري مرآة لتراكمات هائلة من التربية والتدين والسياسة الخطأ في خطأ منذ الأسس الأولى وحتى ذبح المختلف وسبي نسائه وبيع بناته في سوق السقوط الإنساني والأخلاقي.