يوم بعد يوم تتكشف الحقائق ويتعرى زيف كثير النظريات والأفكار التي طالما خلب ألقها الخادع قلوب وألباب النخب والأجيال الصاعدة في منطقتنا، حتى أصبحت تطلعاتهم مشاريع ترويج للحياة الأوربية وقيم المدنية الغربية، ولا نريد بهذا الحط من حصاد الحضارة الغربية المعاصرة التي بهرت شعوب العالم الثالث على مستوى الاكتشافات العلمية والتكنولوجية، ولا الادعاء أن الشرق أفضل من الغرب، وإنكار فضل التقدم العلمي الغربي واختلاف الحال عما عليه الشرق ولاسيما في المنطقة العربية ودول وشعوب إسلامية يبدو أنها لم تستفد من تجاربها ولا من تجارب الآخرين، وبقيت تعاني نتائج التخلف وتدفع ثمن استحقاقاته بقائمة طويلة على رأسها مثلث الجهل والفقر والمرض، وانعكاساتها في كل جوانب الحياة حتى ناءت بكواهل الجميع، وليس ظاهرة تدفق جموع المهاجرين الأسيويين والأفارقة وغالبيتهم من العرب والمسلمين زحفا على الأقدام أو سباحة إلا بعض حصاد هذا التخلف.

فليس الهجرة الاختيارية التي نعيش مشاهدها في الإعلام المرئي والمسموع هي الحل الأنجع ولا هي المشكلة والإشكال ومصدر الخلل، فظاهرة الهجرة وتدفق المهاجرين من بلد إلى بلد ومن قارة إلى أخرى أبدية على مدى تاريخ البشرية ومنذ نشأتها، ولم تكن عواقبها دائما سلبية، إن الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد اليوم اقوي دول العالم عسكريا وثقافيا وعلميا وتكنولوجيا، لو أعدنا المهاجرين فيها إلى أصولهم وبلادهم التي قدموا منها لما استطاعت أمريكا الوقوف على قدميها، ولا تحريك أطرافها، ولم يكن عبور الأفارقة إلى أمريكا اختياريا وإنما كان جماعيا قسريا تحت سياط الذل وقيود السلاسل الحديدية والاستعباد والاسترقاق وأعظم انتهاك للقيم الإنسانية، وهاهم اليوم أحفاد هؤلاء المستعبدين أسهموا ويسهمون ببناء أمريكا ويدافعون عنها ومن دونهم لا تكون كما هي عليه من العظمة والشموخ.

ولم تكن عوامل قيام الحروب الأوربية الصليبية على بلاد المسلمين لمجرد تحقيق انتصار عسكري، بل دوافعها اقتصادية أيضا والحلم بنعيم الحياة الشرقية على طراز ألف ليلة وليلة، وكان زحف الحملة الأولى غير نظامية كزحف الجراد يقودهم رجال دين من دواعش الفرنجة، ولا يستبعد أن يكون دواعش اليوم من أحفاد الدواعش الذين جاءت بهم الحروب الصليبية واستوطنت بقاياهم سوريا وقد عبر أجدادهم المتوسط وغرق منهم من غرق ونجا منهم من نجا، فالعرق دساس حتى الأربعين جيلا، ولا ننسى أن مئات الآلاف من الفرنسيين هاجروا من أوربا واستوطنوا الجزائر وتونس عشرات السنين، ولجرائمهم لم يكونوا مستلطفين فعادوا إلى بلادهم بعد انتهاء الاستعمار، مثلما عاد آباؤهم من بقايا الحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر بعد استحالة العيش عليهم في بلاد العرب، ولا ننسى ملايين اليهود الذين أرادت أوروبا والاتحاد السوفيتي الخلاص منهم فأغروهم بالهجرة إلى فلسطين وما زالت هجرتهم قائمة، وللمؤرخين أن يدلوا بدلوهم في هذا الشأن فهم اخبر مني في سرد الشواهد والأمثلة.

وللعلم ان المدنية الأوربية بل الغربية كلها قائمة اليوم على أكتاف الأسيويين ولاسيما الصينيون والهنود، وان دول أوربا الغربية كألمانيا وأسبانيا، وكذلك أمريكا وكندا هي بحاجة إلى اللاجئين الذين سيشكلون مستقبلا قوة إنقاذ لهم، أوربا اليوم وبخاصة الدول الصناعية تعاني أزمة تضخم، والأسواق والمخازن مزدحمة بالسلع وبحاجة إلى مستهلكين وإلا سترمى في البحر إذا لم يستهلكها المهاجرون، وإن نسبة الولادات منخفضة فقد هبط معدل خصوبة المرأة الأوربية إلى 1.2 طفل, وتقدر الحاجة الضرورية ب 2.2 لتعويض وفيات السكان، كما أن تدني قيم المدنية الغربية الأخلاقية والعزوف عن الزواج، وشيوع المثلية وعدم الرغبة بالإنجاب، تسبب بتراجع أعداد مواطني أوروبا، وفي آخر إحصاء عام 2000 بلغ سكانها \ نحو 750 مليونا, وسيتقلصون إلى 550 مليونا عام 2050, وإلى 200 مليون في نهاية القرن, ففي ألمانيا وحدها سيهبط التعداد السكاني من85 مليونا إلى 60 مليونا خلال النصف الأول من القرن، وأن نسبة عالية من السكان تقدر33% تجاوزوا الـ65 عاما أي بعمر الشيخوخة, وكذلك الشأن في إيطاليا، أما إسبانيا فتقدر نسبة تناقصهم ب25% ربع السكان تقريبا، وللتأكد من الأرقام وصحتها الرجوع إلى كتاب “موت الغرب” للباحث الأمريكي الصحفي باتريك جيه بوكانن مقدم عدة برامج في محطات B.B.C، فأوربا هي من شجعت الهجرة إليها، وكانت فرنسا تدفع المسيحيين في البلاد العربية صراحة للهجرة إليها، فلا تغرنا دموع التماسيح، والتشدق بقبول الهجرة بدوافع إنسانية} وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ{.

هذا ما تسمح به المقالات الصحفية، وتبقى أوربا الرابح الأكبر من حركة اللجوء الحالية، وأن الدول العربية الخاسر الأكبر والوحيد فيها، وللحديث عن طالبي اللجوء، من يكونوا؟ ومن تسبب بمحنتهم؟ صلة إن شاء الله.