بقلم: نبيل عودة

*النقد يشبه الإبداع ويحركه ليس فقط رد الفعل السلبي أو الايجابي من قراءة النص ، إنما الرؤية الثقافية الشاملة والمتكاملة التي تتفجر تلقائيا دون قرار مسبق من العقل ، وما عدا ذلك كل ما يكتب يقع في باب الإنشاء البسيط *

بقلم: نبيل عودة
تبعا لتقسيمات الماوردي (أبو الحسن البصري – فقيه وأديب شافعي) فإن مفاهيم العقل والفطنة والذكاء تتميز عن بعضها على النحو التالي:
• العقل: أداة الإدراك الأولية.
• الفطنة: للتصور، وهي مرحلة ثانية للإدراك.
• الذكاء: وهو الحافظة وأداة التصرف في المعلومات.
وقعت على هذا النص وأنا أحاول ان أفهم، عبر قراءاتي لبعض موروثاتنا الثقافية، ما آلت إليه حالتنا الثقافية في العقدين الأخيرين. حقاً التشابه مستحيل نتيجة اختلافات جوهرية في تركيبة المجتمع واللغة والقضايا المطروحة، ومسائل الفكر، واتساع دائرة التأثيرات الثقافية المتبادلة، واتساع إمكانيات النشر، وغياب مقاييس النشر ، وتفاهة معظم المراجعات النقدية، وتحول النقد إلى اتجاه واحد مدحي، لدرجة صرت على ثقة نسبية ان النقد يكتب قبل صدور العمل الأدبي.. ومقرر سلفا اتجاهه ودرجة مدائحه، التي صارت تقاس على سلم شبيه بسلم ريختر… ولدي عشرات النماذج التي تثبت ما أذهب إليه. وإحداها حدثت معي شخصيا بنقد لا علاقة له بمضمون كتاباتي.. كما يبدو في محاولة لكسب ودي. فإذا ذهب العقل، هل تبقى الفطنة ؟ وهل ينفعنا عندها الذكاء ؟!
القضايا الثقافية لمجتمعنا الصغير، المجتمع العربي داخل إسرائيل، ولمجتمعنا الأكثر اتساع، المجتمعات العربية… تلفت انتباهي واهتمامي من زوايا مختلفة، بصفتها مقياسا لتقدم المجتمع المدني أولاً، كقاعدة لا يمكن تجاهل دورها في الرقي الحضاري، الذي يشمل تطوير التعليم، والقضاء على الأمية، وتطوير اللغة لملاءمتها لعصر الحضارات والعلوم والتقنيات.. وبالطبع الإبداع الثقافي هو الجانب الروحي من حضارة المجتمعات البشرية… غيابه وركوده والفوضى التي تسود حقوله المختلفة، تشكل معياراً آخر لمستوى تقدمنا الاجتماعي والثقافي، أو تراجعنا.
العقل السوي المدرك يفهم ان المجتمعات البشرية تستهلك الثقافة بصفتها قيمة روحية تثري عالمها بجماليات مختلفة، وتثري الإنسان على المستوى الشخصي، فكراً ومعرفة، وتوسع مداركه لحقائق الحياة، ولأساليب بناء العلاقات الاجتماعية، والتواصل الإنساني داخل المجتمع الواحد، بدل حالة التشرذم والعداء التي تسود للأسف الشديد مجتمعاتنا على قاعدة فكرية ودينية واثنيه. وتعمق وعيه الفلسفي حول مجمل القضايا المطروحة. وربما مشكلتنا أيضا أن المجتمعات العربية تعرف المثقف بدوره وليس بالثقافة التي يحملها.
الثقافة كانت دائماً معياراً صحيحاً لتطور المجتمعات البشرية، وما زال المؤرخون يعتمدون الثقافات القديمة، كأداة لفهم طبيعة تلك المجتمعات، ومدى رقيها وتطورها.
هل يمكن فهم طبيعة المجتمع الفرعوني القديم، دون ما تركته دولة الفراعنة من آثار ثقافية، مادية (بناء حضاري) وروحية، (إبداع ثقافي)؟
هل يمكن فهم المجتمع الإغريقي القديم دون الرجوع أيضا لآثاره المادية والروحية ؟
ليس سراً ان ثقافتنا اليوم تعبر عن واقعنا الاجتماعي، وهو للأسف واقع مترد ومليء بالإشكاليات، وبعضها إشكاليات خطرة على مستقبل مجتمعنا ومستقبلنا. وبما أننا نعيش في عصر العولمة، الذي جعل العالم حي صغير، فإن الواقع الاجتماعي بات يشمل بترابط كبير مجمل الفكر والنشاطات الاقتصادية والسياسية والتربوية والعلمية والأدبية والفنية والدينية، ويطرحها ضمن الصورة الكونية، التي تشمل الواقع في العالم الأوسع. من هنا رؤيتي ان التحدي أمامنا أصبح أكبر، والمسؤولية لم تعد محددة بنطاق جغرافي ، محلي أو أكثر اتساعا جغرافيا.
أشعر ببعض الامتعاض من بعض الكتابات، وأصحابها بالطبع.. التي تتعامل مع ثقافتنا من خارج الفكر الثقافي. وتنحو نحو الكتابة دون اعتماد العقل والمنطق، والقدرة على الربط بين النص والواقع، وقدرة النص على ان يشكل قوة جذب وإضافة للقارئ… أو بكلمات أخرى، دون اعتماد ما وصل إليه الماوردي، بعقلانيته، قبل عشرة قرون. ان عجزهم عن التواصل الحضاري مع عقلانية الماوردي، يولد ظواهر مستهجنة، لا تربطها بالفعل الثقافي إلا التسميات. ان خيانة الناقد لاستقامته الثقافية مرة واحدة، تقضي على مصداقيته أبداً. هناك هوة غير قابلة للتجسير بين التشجيع، دون ان نثير الوهم بالاكتمال، وبين ادعاء النقد الذي يرتكب فيه الناقد خيانة لثقافته ولجمهور القراء. بكلمات أخرى ، يفقد شرعيته الثقافية .
لا يمكن كشف مضامين ثقافتنا، رقيها أو ضعفها، وفتح الآفاق نحو انطلاقة حضارية، بالترويج الذي يشبه تشجيع فرق كرة القدم. ان عدم التزام العقل في معالجة ثقافتنا المحلية، الإبداع الروحي بالأساس، من قصة وشعر وفن مسرحي ورسومات وغناء وتمثيل وموسيقى ورقص، يقودنا إلى المبالغة، والى إثارة الشهوة للمدح التي سرعان ما تتلاشى، والى الشعور الكاذب لدى المبدعين المبتدئين بالإكتفاء بما أنجزوه، بل استكثاره على أنفسهم، والظن أنهم وصلوا إلى مراتب الكمال العليا، التي لا مراتب أرقى منها ثقافياً. هذا يقودنا إلى حالة اضطراب ثقافي، والى غياب العقلانية الثقافية من الإبداع ومن النقد.
حين نُغيب العقل ُنغيب الفطنة، ونستبدلها بكليشيهات جاهزة، ملّها المتلقي (القارئ) وبالطبع في هذه الحالة يصبح الادعاء ان واقعنا الثقافي يشهد نهضة ثقافية وانتشارا واسعا للثقافة، نوع من السخرية السوداء. وأيضا قبل عشرة قرون قال الإمام الشافعي لتلاميذه: “اذا ذكرت لكم ما لم تقبله عقولكم، فلا تقبلوه، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق”. فلماذا لا يكون هذا صحيح اليوم أيضا ؟!
لست متشائماً من واقعنا الثقافي. في النهاية لن يصح إلا الصحيح وأما الزبد فيذهب جفاء. ولكني متألم لما يحدث.. ومن الانعكاسات السلبية على تطور ثقافتنا.. وتعويق انطلاقتها. وأقول بوضوح: لدينا مبدعون يبشرون بالخير، تعالوا لا نقتل إبداعهم بالمبالغات التشجيعية. تعالوا نخاطب عقولهم ونحث فطنتهم، ونشجع ذكائهم. ونحول حياتنا الثقافية إلى عامل هام في بناء وعينا المجتمعي.
ما يجري هو النقيض الكامل. هو قبر للعقل والفطنة والذكاء… وقبر لتطور الإبداع.. وقبر للذائقة الثقافية للمبدع وللقارئ أيضا.
لا أنكر وجود مثقفين ونشاط ثقافي متعدد الوجوه رغم محدوديته. ولكن بين وجود مثقفين ونشاط ثقافي محدود وبين الحديث عن حركة ثقافية وحياة ثقافية نشطة مساحة شاسعة جداً، تتعلق بشروط ومناهج وسياسات وتوظيفات غير متوفرة، وإذا توفرت فهي لا تخدم إلا أشخاصاً، وليس مجمل الحياة الثقافية وحركة الإبداع الثقافي والفني، خاصة في ظل القصور في التوظيف ، وغياب الأجندة الثقافية من برامجنا الاجتماعية.

من الواضح اليوم في ثقافتنا المحلية، ان المسرح والموسيقى والرقص تجاوزوا الإبداع الأدبي من شعر ونثر ونقد، ولكن بالمجموع العام، كل هذا النشاط، لم يتحول إلى حركة ثقافية لها دورها المؤثر، بحيث يصبح الإبداع الأدبي والفني حديث المجتمع، ويحتل حيزاً واسعاً من اهتمامه.
أليس من المخجل ان تمثيلية بلا مضمون، سطحية قصة ونصاً وحواراً، اليوم اسمها نور(التركية) وغدا غيرها، مكسيكية، أرجنتينية، أمريكية أو عربية (ما الفرق ؟) تصير محورا لحياة مجتمعنا الثقافية والاجتماعية، حديث الناس في السهرات، حديث الطلاب والطالبات، بيوت تتمزق لأن المرأة لا تستطيع ان لا تعبر عن إعجابها بوجه البطل مهند أو غيره ؟؟ والرجل يحلم على زوجة ثانية أو مغامرة مع شبيهة لنور ودواليك ؟؟ انتهى عصر هيفاء وهبة ونانسي عجرم وأليسا وبقية جميلات الغناء.. أو تأكد استحالة الوصول اليهن ؟؟ مجتمع يعيش نسائه ورجاله في فانتازيا تتلوها فانتازيا أخرى، هو مجتمع مريض !!
هذا الواقع المؤلم يعبر عن ضحالة ثقافية وفقر فكري. وهو ليس مؤهلاً لنشوء حركة ثقافية. وغياب الصدق الثقافي يزيده تقهقرا.
هذا الواقع الذي وصلناه لم يكن نتيجة تطور سليم.. بل نتاج حالة مشوهة في إدارة المجتمع، من الهيئات والمؤسسات والتنظيمات الرسمية والشعبية، وبالطبع بسبب قصور أصحاب الفكر والمعرفة الثقافية، والمتخصصون بالدراسات الاجتماعية والإنسانية، وجمهور نقاد الفكر والأدب والسياسة، معظمهم، وبنسب متفاوتة، يتحملون حصتهم من حالة الترهل والضحالة التي نعيشها.
الموضوع الثقافي لا يحظى بمكانة ضمن أولويات مؤسساتنا الرسمية والشعبية، وانأ أظن ان للثقافة قيمة بنيوية فكرية وتربوية واجتماعية لا تقل أهمية عن أي موضوع نضالي نطرحه على أجندتنا.
إذا لم نبن مجتمعنا قوياً، مثقفاً، عقلانياً، متنوراً أخلاقياً ومليئاً بالجماليات وبالفكر الإنساني، وبالاستعداد للتعاضد والتكامل الاجتماعي، والتجند وراء مطالبه الحيوية، ولا أستثني السياسة من هذه المطالب، ستبقى كل ممارساتنا الثقافية والسياسية، تعاني من قصور في الرؤية، من العجز في فهم دور الثقافة الاجتماعي والحضاري، وكيفية توجيه ودعم وتطوير حياتنا الثقافية.
الثقافة ليست كماليات في حياة الإنسان والمجتمع. الثقافة عنصر استهلاكي أساسي في حياة الشعوب التي تنشد التقدم والرقي الحضاري. الثقافة هي المفتاح لأن نكون أبناء عصرنا، أبناء عالمنا، بدون الثقافة نظل أبناء الماضي، محكومين لغرائزنا، مقيدين بأحكام نهائية لا تربطها بالمنطق حتى شعرة معاوية.
أحاول ان أطلع على كل ما ينشر من نقد وإبداع أدبي وفني، أحيانا أعجز عن قراءة سطر آخر من النص الإبداعي أو النقدي. عندما أجد لغة مقعرة لا أجد أدباً. عندما أواجه نصاً كل مميزاته هو رصف كلمات لا تقود إلى معنى، أسقط النص من أي تعريف أدبي. لا أتحدث من وجهة نظر نقدية، إنما من وجهة نظر ذوقية. ما قيمة النص الذي لا يشد قارئه؟ لا أريد إعطاء نماذج حتى لا أثير ضدي المزيد من الغاضبين. لست نافياً للقدرات الإبداعية لأي من الأدباء، خاصة الشباب.. ولكني أرى ان نقدنا الراهن لا يخدمهم، بل يخدعهم، لا يخدم الهدف من وراء النقد، بل يخدم أهداف شخصية لكاتب النقد.
كنت أديباً شاباً، ومتحمساً، ومن المنتجين بغزارة، وتنشر أعمالي في أفضل الصحف العربية وقتها، “الاتحاد”، بل وفي أهم منبر ثقافي للعرب في إسرائيل، مجلة “الجديد”، والتي كان يعتبر النشر فيها شهادة بلوغ أدبية، ولم أكن قد تعديت السادسة عشرة عندما ظهرت أولى قصصي في الجديد. وقد عانيت فيما بعد من ظاهرة التجاهل لكتاباتي، وأصابني الأمر بالقلق ؟ هل الآخرون أفضل مني ؟ كنت أريد أن أعرف أين أقف. وهل كتاباتي الإبداعية تستحق هذه التسمية، أين نقاط ضعفي وقوتي ؟ ماذا ينقص نصوصي لأنطلق نحو آفاق جديدة؟
ولكني لم أحظ حتى بلفتة واحدة. كانت الساحة محجوزة لأسماء محددة، وبدأت أفهم ان ما يجري تهريج ثقافي في معظمه، وتسويق أسماء وليس تسويق ثقافي. وقررت ان أحمل السلم بالعرض.. حقاً أدواتي النقدية تعتمد على قراءاتي الواسعة واطلاعي الموسوعي على مجالات ثقافية وفكرية واسعة جدا ومتعددة الاتجاهات. رغبتي حتى اليوم ليست، وبشكل مطلق… الكتابة النقدية… وليست وبشكل مطلق، الكتابة السياسية. رغبتي حتى اليوم الكتابة الإبداعية من قصة ورواية ومسرح… لقد دفنت رغبتي حتى لا أترك الميدان لحميدان. وخصصت الأدباء الشباب بجل كتاباتي، ووجدت نفسي أغرق أكثر بالفكر النقدي والفكر الثقافي والكتابة الفكرية والسياسية، محاولا إيجاد أجوبة على ما يحصل لثقافتنا ومجتمعنا وسياستنا، بعد العشق المجنون للعالم العربي لكل ما أنتجتاه في العقود التي سبقت حرب 1967 وما بعدها… وكانت آثار الخلل الثقافي، وفقدان الاتزان قد بدأت تتبلور بعد نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي لتتحول مع الوقت إلى فوضى واندثار للمقاييس الأدبية، وغياب لجيل المحررين الأدبيين أصحاب الرؤية الثقافية، وحلول مرحلة صارت فيها الصفحات الثقافية في صحافتنا أقل الزوايا أهمية، بل وتشطب قبل غيرها إذا ورد إعلان تجاري جديد، إلى جانب حقيقة مؤلمة إننا لا نستطيع ان نسمي محرراً أدبياً يستحق ان يحمل هذه الصفة في صحافتنا بحيث يقدم للقارئ ما يستحق صفة الثقافة، وليس إغراقنا بنصوص بلا مضمون وبلا إشراق وبلا مسحة ثقافية .
إذن لماذا نستهجن حالتنا الثقافية المتردية ؟؟
أين النقد البنيوي الذي يعرف وظيفته التربوية والتثقيفية، وليس الترويجية فقط؟
أين نقد واقعنا الاجتماعي وفكرنا السياسي الذي يتهاوى ويتحول إلى صراع بين “الديوك” على مناصب أهمها منصب عضو في الكنيست، لا فرق بين من ادعى القومية والعداء للصهيونية، ثم أقسم يمين الولاء للدولة الصهيونية ونشيدها وعلمها (عزمي بشارة مثلا)، وبين أحزاب أقرت حق إسرائيل في الوجود وترى بالكنيست منبراً سياسياً يجب استغلاله (الحزب الشيوعي مثلا) وصولاً إلى خوض الحركة الإسلامية (الجنوبية) معمعة الانتخابات، وصارت عضوية الكنيست ساحة للخلافات حتى داخل صفوف الحركة الإسلامية ومجلس شورتها، تماماً كما في صفوف العلمانيين، وغنيّ عن القول ان أهداف قادة الأحزاب، بات ينحصر في الوصول إلى عضوية الكنيست، وكأن نضالنا الفكري والسياسي والثقافي وتوعية وتثقيف الجمهور، الذي بواسطته حافظنا على لغتنا وبنينا كياننا السياسي والقومي، لم يعد ذا قيمة. وما عدا الكنيست أصبح الشارع فقط لمتطلبات تحضير الأرضية المناسبة لانتخابات الكنيست القادمة. كان معاش الكنيست يسلم للحزب الذي أوفد ممثليه للكنيست (الحزب الشيوعي)، وعضو الكنيست ليس صاحب امتياز بين سائر قادة الحزب، لا يتميز عنهم بالمعاش. اليوم صارت عضوية الكنيست مكانة اقتصادية تميزه عن رفاقه الآخرين، دخل شخصي مرتفع وشروط اجتماعية وشخصية وخدماتية واسعة للغاية، والآخرين في قيادة الأحزاب، حطابين وسقاة ماء.
عضو الكنيست متنعم بالخيرات، والباقون يعانون من عجز متواصل في إنهاء الشهر. هذه العقلية سادت في ثقافتنا أيضا. هناك من يعتبرون أنفسهم أوصياء على الأدب والأدباء، ولكن عهد الوصايات انتهى، عهد الخضوع للخزعبلات الثقافية والسياسية سقط، عهد عبادة الفرد كانت مرحلة مدمرة فكرياً للأحزاب التي مارستها، وتركت ترسبات سياسية وثقافية صعبة لم نخرج منها بعد.
إذا لم نكن، نحن المثقفين، في الصف النضالي الأول، بأقلامنا ونشاطنا الميداني، وحريصين على قيمة كلمتنا، وقوة موقفنا، ومصداقيتنا، فهذا يعني ان صفتنا كمثقفين مصابة بالقصور والنقص في المضمون.
ان صمت المثقف هي خيانة لذاته الثقافية ولعقله.
ما يجري داخل ثقافتنا يشبه “المذبحة الثقافية”. أجل زراعة الوهم لدى المبدعين بأنهم أصبحوا عالميين، وإبداعهم وصل إلى قمة لا سابق لها، هي مذبحة لأولئك المبدعين ولمستقبلهم الإبداعي، ولثقافتنا بمجملها.
للأسف هذا ما يرتكبه بعض المتنشطين ثقافيا… تحت صياغات تحمل اسم النقد وتفتقد لمضمون النقد. لو قاموا بتغطية الإصدار إخباريا لخدمونا وخدموا صاحب الإبداع أكثر من نقدهم.
بعضهم يدعون بجرأة يحسدون عليها، ان ثقافتنا أضحت عالمية، لو سألتهم ماذا قرؤوا في عمرهم المديد من أدب عالمي، كلاسيكي أو حديث، لأصيبوا بما يشبه دوار البحر؟ على الأغلب لا يعرفون حتى أسماء الأدباء البارزين. ويفهمون في الحداثة أيضاً ولا يترددون في استعمال تعبير الحداثة لوصف ما يقع تحت أيديهم من نصوص أشبه بالطلاسم، دون فهم إشكاليات هذا التعبير(الحداثة) حتى في الثقافة التي جاء منها هذا التعبير. ماذا يفهمون من الحداثة غير لصقها كنوع من المديح، وكأن إبداع أدبي غير متأثر بالحداثة هو إبداع فاشل؟ هل يعون ان الفكر الحداثي بدأ بعصر الرنيسانس، ووصل أسمى مراحله في عصر التنوير الأوروبي، وانه يعتمد على ثقافة اجتماعية ديمقراطية ليبرالية، وفكر التعددية الثقافية، ونقد الفكر الديني الكهنوتي، وتحرير الإنسان من عقلية التلقين؟ أين مجتمعنا من هذا كله، أين ليبراليينا؟ لا أنفي وجود ثقافة حداثية، ولكن وصف الطلاسم الشعرية بالحداثة، او جعل تفكيك ترابط اللغة حداثة، او تفكيك المعاني والصياغات، أو تفكيك بحور الشعر… الخ. هذه مهزلة، لو وصفوا إبداع محمود درويش بالحداثة لما اعترضت. لو وصفوا كتابات المفكر العربي البارز د. هاشم صالح بالحداثة أو د. رجاء بن سلامة.. لفهمت ما يعنون بالحداثة، أما إلصاقها بمجموعات شعرية تفتقد لعناصر الشعر، واعذروني من الاستعراض المباشر.. أو لكتابات أدبية لم تتجاوز المساحة المحلية الضيقة، فذلك يستعص علي فهمه، حقا أعرف الجواب… وهو إننا أمام ظاهرة تفكيك القيم الثقافية، وتحويل الثقافة إلى سلعة للمزايدة، وتوزيع الألقاب، ظناً ان هذا ما يرفع قيمة الناقد. المسألة الأساسية ليس موضوع النقد، إنما جعل الناقد معشوقا !!
الحداثة تعتمد فلسفة اجتماعية أفرزها عصر التنوير. يقول هاشم صالح: لقد سار الفكر التنويري في طريق وعرة، قال عنها الشاعر الألماني العظيم شيللر (1759-1805): “إن الإنسان يبتعد عن هدفه الأسمى بطريقتين: إما أن يصير ضحية العنف، وإما أن يصير وضيعًا ومنحلاً، ويجب على الجمال أن ينقذ الإنسان ويوصله إلى الطريق الصحيح، بعيدًا عن هذين الخطأين”. ويتساءل هاشم صالح: “ترى، متى يكون لنا، نحن العرب، عصر تنويرنا؟!!
كما يبدو لم يقرأ نقدنا المحلي!!
حقا لدينا مثقفون يفهمون ما هي الحداثة، لدينا أكاديميون يدرسون عصور التنوير وفلسفاتها. أما إبداعنا فيواجه مشاكل لن توصله شطحات نقادنا التخيلية إلى الحداثة… أو إلى الإبداع في أسمى صوره، حتى بدون هذه المخلوقة المستوردة “الحداثة” !!
على الأقل حتى نتقدم، تعالوا نعود إلى أطروحات الماوردي، لعل فيها ما يلزمنا أكثر من الحداثة الأوروبية. ولعل الأوروبيين استغفلونا وخطفوا عقلانية الماوردي من الذين وأدوها !!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
nabiloudeh@gmail.com