((جانيت ابنتي من غير صلبي))
علي جابر الفتلاوي
عبارة مؤثرة قالها الأخ العزيز على قلوبنا الباحث (جواد عبد الكاظم محسن) ونحن نعوده في مرضه، بعد إجراء عملية جراحية ناجحة له إن شاء الله تعالى في مستشفى (الراهبات) في بغداد دعواتنا له بالشفاء العاجل. وردّا على كلمتها له: ((أنت أبي)) قالتها الممرضة (جانيت) وهي تقدم خدماتها الانسانية له التي أثّرت في نفسه كثيرا فقال لنا: ((جانيت ابنتي من غير صلبي)).
مناسبة القول أن (جانيت) هذه ممرضة في المستشفى التي يعالج فيها، وقامت بعمل إنساني فوق واجبها كممرضة، بحيث أثّر فعلها في نفس الأخ الاستاذ (جواد) الراقد في المستشفى فقال عبارته المؤثرة، طبعا العمل الانساني غير معدوم، بل هو موجود في جميع المجتمعات الانسانية باشكال متنوعة، ولا علاقة له بالدين أو البلد أو الفكر، بل هو جزء من كينونة الانسان الفطرية، وكل انسان يحمل صفات الانسانية إن لم تتلوث نفسه بإفرازات المجتع غير السليمة، وبالأفكار المنحرفة عن خط الفطرة الطبيعية التي فطرنا الله تعالى عليها يندفع للعمل الانساني. وكل عمل إنساني هو من الأعمال الصالحة التي وصفها الله تعالى في كتابه العزيز، والانسانية لا تحمل هوية دينية أو قومية أو مكانية، بل هي مخلوقة مع الانسان منذ وجد على ظهر الأرض، وتسير معه في حياته إن لم تنحرف عن مسارها بفعل عوامل خارجية.(جانيت) الانسانة حاملة صفات الانسانية، قدّمت خداماتها للمريض الأخ (جواد) بحيث تركت في نفسه آثارا دفعته لمقولته المؤثرة:
((جانيت ابنتي من غير صلبي)).
ولابدّ من الإشارة إلى أن بعض الممرضين أو الممرضات وبعض العاملين الآخرين في المستشفيات، يقدمون الخدمة للمرضى بدافع الحصول على المال، وفي أغلب مستشفياتنا العامة والخاصة تقريبا، ويُقدّم المال بعنوان الهدية، وهو إحدى الحالات السلبية الكثيرة في المجتمع.
(جانيت) ويوجد مثلها كثير، قدّمت الخدمة بلا مقابل، وخدمتها كانت متميزة بحيث أثّرت إيجابا في نفس المريض، وفي تقديري أن (جانيت) هذا دأبها مع كل مريض تتعامل معه. وفّقها الله تعالى لفعل الخير والعمل الإنساني، تعرضت (جانيت) لمشاكل عائلية واجتماعية كبيرة حسب ما أخبرنا مريضنا المعافى بإذنه تعالى، لكنّ ذلك لم يؤثر على نشاطها الإنساني، إذ هي تعيش الآن لوحدها مع الأيتام في أحد الأديرة القريبة من مستشفى الراهبات، بسبب أن أهلها هاجروا أيام انتشار الإرهاب في العراق، وبعد اغتيال أحد أفراد عائلتها، فكل التقدير والاحترام إلى الإنسانة (جانيت) وندعو لها برضا الربّ تعالى، وكثّر الله تعالى من أمثالها، فمجتمعنا العراقي اليوم بحاجة إلى (جانيت) وأمثالها من دعاة الخير والعمل الإنساني.
الانسانية لا تحمل هوية أو عنوانا آخر سوى الانسانية، وفقدان أو قلة وجود الانسانية في المجتمعات يؤدي إلى شيوع ظاهرة الظلم، وبالتالي الفقر وحرمان الانسان من أبسط حقوقه أن يُعامل ويقيّم كإنسان، والشعور والعمل الانساني ليس للمتاجرة أو المباهاة، فالمجازاة الكبرى على العمل الإنساني من الربّ الخالق. ويفترض أن تكون الهوية العامة للإنسان هي الانسانية، والله تعالى يعامل خلقه من بني الانسان يوم الجزاء وفق معيارين عامين يتساوى فيهما جميع المخلوقات من أبناء آدم (ع)، الإيمان بالله واليوم الآخِر، والعمل الصالح الذي هو العمل الإنساني وقد إشارت الآية الكريمة إلى ذلك:
((إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنصارى والصّابئين من آمن بالله واليوم الآخِر وعمِل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون))(1) .
الآية الكريمة تحثّ وتدعو إلى العمل الانساني حسب ظاهرها، ومن يذهب لملاقاة الرّب يوم الحساب، لابدّ وأن يتصف بصفتين، أولاهما الإيمان بالله واليوم الآخر والثانية أن يكون عمله صالحا، وكل عمل صالح هو عمل إنساني، وبعيدا عن بعض تأويلات الآية فإن معناها الظاهر: ((أنْ يبيّن سبحانه أنه لا يهتم بالأسماء إطلاقا سواء أكانت من نوع مسلم، أو مؤمن، أو يهودي، أو صابئي، أو نصراني لأن الألفاظ بما هي لا تضر ولا تنفع، ولا تضع ولا ترفع، وإنما المهم عند الله العقيدة الصحيحة، والعمل الصالح، فمفاد الآية ما جاء في الأخبار من أنّ الله لا ينظر إلى الصور، وإنما ينظر إلى الاعمال.))(2)
أخيرا ندعو لأخينا (جواد) بالصحة والسلامة، ونقول للممرضة (جانيت) هنيئا لك أعمالك الإنسانية عند الرّب، وندعو لك بالتوفيق.
(1): البقرة: 62.
(2) محمد جواد مغنية، التفسير الكاشف، ج1، ص117- 118.