تعتبر البلاد العربية و منها العراق من البلدان القلقة و من أكثرها توتراً و تعرضا للأنقلابات و الأنتفاضات و الثورات و المؤآمرات و الحروب و الفساد داخلياً و خارجياً بسبب آلظلم و فقدان العدالة الأجتماعية الناجمة عن فساد عقيدة الأحزاب و المذاهب التي وصلت لسدّة الحكم, و رغم إنّها غنيّة بآلثروات الطبيعية و الأقتصاديّة و الصّناعيّة و الزّراعيّة و الأيدي العاملة و حتى العلماء إلّا أنّ أكثر أبناء شعوبها تعيش الفقر و الفوضى و المرض و الجهل و فقدان فرص التطور و النهضة, بل 50 من منهم يعيشون تحت خط الفقر!
و فوق كل ذلك و على الرغم من أنّها – أيّ الحكومات – تدعي الأسلام و التدين في آلعراق و السعودية و مصر و غيرها؛ إلا أننا نرى أنّ سلوك الناس و طبيعتهم الأخلاقية و تعاملهم يطغى عليه العنف و الشدة و القسوة و الخيلاء و التكبر و عدم الثقة حتى داخل الحزب الواحد و العائلة الواحدة, أيّ أنها – الشخصية العراقية – بحسب تقريرات علماء النفس؛ شخصية مريضة كئيبة عنيفة معقدة تحسّ الغبن, لذلك تختزن الحقد و الكراهية و الأنتقام بداخلها كنتيجة طبيعية للظلم و الكبت الذي واجهه من الأبوين و المعلميين و المربين و آلشيوخ و علماء الدين و الحكومات, و لذلك نراها مستعدة على الدّوام لفعل كلّ المنكرات و المحرمات كردّ على ذلك الظلم و الحيف الذي وقع عليه و توارثه أب عن جدّ!
كل هذا بسبب فساد العقيدة التي تؤمن بها تلك الحكومات و عدم إنسانيتهم!
فآلعراق الذي حكمه حزب البعث الظالم على مدى نصف قرنٍ تقريباً إستطاع أن يُغيير طريقة تفكير العراقي و نفسيته و أخلاقه و سلوكه, حيث هدر هدّام كلّ أموال العراقيين في الحروب و تأسيس الجيوشٍ و الأمن و المخابرات و آلأستخبارات و المنظمات المختلفة للسيطرة على الشعب و كبح حرياته و حقوقه؛ لكنه و جميع الحكومات رغم كل هذا نراها واجهت عدة إنتفاضات عارمة ضدهم شملت جميع مدن العراق, لكنها جميعاً و للأسف لم تنجح .. حتى واحدة منها لفقدانها إلى ثلاث مقومات أساسية, هي:
– ألقيادة الشرعية الواعية, حيث سببت هذه الحالة تفريق شملهم و فقدان الأنسجام بينهم و إختلاف الرؤية بين التيارات و الأحزاب و المذاهب و القوميات و الأعراق و في كلّ شيئ.
– عدم وجود العقيدة الصافية و الدّين الصحيح الغير المشوه لدى الأحزاب الأسلامية و العلمانية و كما جاء في القرآن و نهج أهل البيت(ع), ممّا أفقدهم القدرة على بناء الدّولة العصرية العادلة لإسعاد المجتمع, بل أصبح العراق الغني أفقر دولة في العالم للأسف.
– عدم وجود (النخبة) المثقفة الواعية لتكون اليد الفاعلة و القوة الفكرية المحركة و البناءة لنقل التوجيهات و المفاهيم الصحيحة من القيادة الشرعية الواعية والمفقودة أساسا أيضا , لبناء الشخصية العراقية و توجيه الجماهير نحو حركة البناء و الأصلاح.
و يكفيك أن تعرف بأنّ آلرئاسات الثلاث و معظم الوزراء و النواب و كذا رئيس شبكة الأعلام العراقي و قريناتها التي يفترض بها أن تكون شبكات فكرية ثقافية حية لتثقيف الأمة؛ إلا أننا نرى بأنّ الذين ترأَسوا تلك المؤسسات الكبيرة كانوا غير مثقفين و لا يحملون فكراً إنسانياً كبيراً تؤهلهم لنشر الوعي و الثقافة و الحضارة و التمدن, خصوصا رئيس شبكة الأعلام العراقي الذي لم يكن يفقه شيئاً من الفكر و حتى أبجدياته, و قد كتبنا عن ذلك الكثير فيما سبق.
العراق .. و بعد سقوط صدام و نظامه الأجرامي عام 2003م بفعل التدخل الدولي بقيادة أمريكا و حلول (الديمقراطية) على الظاهر التي حلّلت الفساد و شرعته .. ثم إنتخاب المجالس التشريعية و التنفيذية و القضائية التي صارت عماداً للفاسدين؛ لكن الشخصية العراقية في هذا الوسط بقيت على حالها و لم تتغيير و لم تتثقف .. لأنها لم تكن تشعر بآلامن و السعادة و العدالة, بل كانت على الدوام تشعر بآلغبن المتواصل بسبب فساد الحاكمين, و لذلك بدأ الأرهاب و الفساد ينطلق و ينتشر من كلّ حدبٍ و صوبٍ و مؤسسةٍ و حزب و كتلة كلما سنحت الفرصة و رآى العراقي سبيلا ًلذلك, بل بات التنافس في الفساد حالة مقبولة و مشروعة لدى الجميع لتقسيم الحصص و آلثروات و المناصب و كأنّ الجميع يريدون الأنتقام من الجميع, يعني الكلّ كان ضد الكل, حتى إن الشخصية العراقية باتت تعادي نفسها, و قد قلت سابقاً:
[لَنْ يستقرّ العراق أبداً لأنّ الدّين فيه صنعةٌ للأرتزاق يتوارثهُ رجال آلدِّين لأبنائهم, و لَيسَ نظاماً للحياة, بل يبيعون الوهمَ و آلأحلامَ و الحكايات و يعيشون همَّ آلواقع, و السياسيون من أسوء الناس, حتى أصبح كل عراقي يحسّ بآلغبن و هضم الحقوق, لذلك بات مُستعدٌّاً لِئَنْ يتحوّلَ إلى ظالمٍ ما إستطاعَ إلى ذلك سبيلاً.]!
و أغرب ما رأيته في العراقيين و أمة العرب؛ أن المسؤوليين الفاسدين هم أنفسهم ينتقدون الفساد و يدعون الآخرين لمحاربة الفساد, و تحقيق العدالة, فصار مثلهم كمثل سارق (الدِّيك) الذي كان يحلف بآلله ببرائته, فقال له صاحب الديك: (لا أدري أيّهما أصدّق : قسمك بآلله أم ذيل الدِّيك الظاهر من جيبك)!؟
فأصبح (الفساد) مؤسسة شرعيّة و قانونية يعمل و يرتزق من ورائه آلجميع بحسب القوانين و الأسعار المتعلقة بكلّ شأن و قضية, و ربّما يبتسم بوجهك البعض و يسخر إن حاولت الأعتراض على الفساد أو إنتقاد مسؤول أو موقف أو قانون ظالم و ما أكثرها, ذلك أن الجميع بلا إستثناء شارك و يشارك في الفساد .. بل و تفنن في ممارسته إلى أبعد الحدود, بحيث لم يبق بطن عراقي تقريباً لم يدخل فيه لقمة الحرام!
يضاف لذلك, و بسبب الوضع الأقتصادي المخيف و المستقبل المظلم الذي بدأ يبشر بآلموت الذي بدأ يلقي بضلاله على العراق .. بسبب الأتفاقيات المالية الخيانية الكبرى للحكومات العراقية المتعاقبة مع البنك الدولي و صندوق القرض بآلأضافة إلى القروض آلآجلة و المستمرة للوزرات الحكومية على إنفراد حتى أنك لا تجد وزارة أو مؤسسة عراقية لم تستدين من الدول الغربية و حتى بعض الشرقية!!
هذه القروض الكبيرة و الثقيلة التي جاوزت الخمسين مليار دولار أمريكي يضاف لها الصفقات الآجلة بعشرات المليارات .. و تلك الأموال النقدية و الغير النقدية التي إستدانتها وزارات و مؤسسات الحكومة العراقية, لا بدّ من ارجاعها و الوفاء بشروطها الصعبة والمعقدة نسبياً .. يضاف لها الفوائد و الضرائب المترتبة عليها و هي بحد ذاتها قضية كبيرة و معقدة و أكبر من قيمة الدّيون نفسها, و لا أعتقد بأنّ عراقي واحد يعرف تفاصيلها بآلضبط حتى المسؤوليين, لأنها مقيدة بقوانين كثيرة جداً و خاصة تتعلق بشروط آلبنك نفسه و يحتاج الذي يريد معرفة الحقيقة إلى قراءة واعية لعدّة مجلدات و لوائح و مذكرات و لعدة أشهر لمطالعتها ليلا ً مع النهار و دراسة أبعادها للوصول إلى الحقيقة التي لو علمها أيّ عاقل و مخلص و شريف يرفضها جملة و تفصيلاً, لأن عنوان الديون – و هو لأجل التنمية – يخالف الغرض من الديون و هو لأجل نهب و إستعمار و كنس تلك الدولة, و لا أعتقد بأن الجهات المالية المختصة و على رأسهم وزير المالية أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية أو آللجنة المالية في مجلس النواب يعرفون تلك الحقائق الكبرى بل حتى مقدمات و أبجديات ذلك!
هذا الوضع المأساوي له إستحقاقات كبيرة لا مفرّ منها و يجب الوفاء بها و إلا فأنّ سيادة العراق ليس على الصعيد الخارجي المنتهك أساساً سيتعرض للزوال .. بل حتى على الصّعيد الداخلي ستتعرض للأنتقاص و التبدّل و التدمير بحسب المقاسات المطلوبة من قبل (المنظمة الأقتصادية العالمية) و ذراعها الضارب حلف الناتو!؟
لكن السؤآل الكبير هنا .. هو:
من سيدفع الثمن الحقيقي و بشكل مباشر لأعادة الحقوق و آلديون الدولية المشروعة للبنك العالمي أو للحكومات العالمية التي تخضع ضمنياً لمقررات صندون النقد الدولي بسبب توقيعها على آلأتفاقيتين الخاصّتين بشروط الأقتراض!؟
ألجواب بكلّ وضوح و إختصار هو:
المواطن العراقي المغبون أساساً!
و يتطلب الوفاء بذلك تقليل الدّعم عن المواطن و تجريده من حقوقه الطبيعية .. و هو أساساً يعيش الفقر و الظلم و قلّة الخدمات على جميع الأصعدة!
و قضية هموم المواطن غير مهمة للسّاسة و النواب, بقدر الحصول على قروض تمدّ الخزينة بالمال لأدامة إستنزافها عن طريق الرواتب الخيالية للرؤوساء و النواب و الوزراء و المدراء العاميين, و هكذا نرى أن الحكومة رفعت يدها رويداً .. رويداً عن دعم المواطن, حتى وصل الأمر إلى طلب الأخ الأديب الأخير إلغاء التعليم المجاني و كذلك رفع قيمة الكهرباء, و قد حصل كل هذا من دون رفع القدرة الشرائية للمواطن, و من دون وجود غطاء مالي لتغطية النفقات التي بات المواطن العادي يئن من وطأتها!
و تلك الخطوات تعني بأن الحكومة تسعى بشكل قسري على سحق المواطن و تدميره و خنقه رويداً رويداً للأستمرار بآلنهب و السلب على حساب حقوق المواطن الذي بدأ يواجه الموت الأصفر.
نحن لا ندعو للفوضى و الثورة ضد الفاسدين من الحيتان الكبيرة رغم إنها آتية لا محال .. بل و قريبة كنتاج طبيعي لفساد إمتد من عهد صدام و إلى يومنا هذا مع بعض الفوارق الشكلية ..
بل نطالب الشعب و قواه الطليعية و على رأسها قوات بدر و الحشد الشعبي بأن تكون قوة ضاغطة و بالطرق القانونية على الحكومة و البرلمان, لتحقيق مطالب الجماهير, و ذلك من خلال ليس فقط إعادة النظر في رواتب الحاكمين و النواب و القضاة؛ بل و تجريمهم لكونهم هم آلسبب الأساسي في أنهاك الخزينة على مدى 14 عاماً, حيث سببوا تدمير و تبذير ترليون دولار يجب إعادتها للخزينة لتبرئة ذممهم!
إن الأوضاع المزرية للبلد على كل صعيد نتيجة سكوت الشعب و تخبطه أمام نذالة النواب و الساسة, و لصوصية الكثير من النخبة الحاكمة له عواقب وخيمة و حتمية, وعلى الجميع أن يعرف بأن الصّمت لا يأتي بالحقوق, و كما كانت المظاهرات الغير الواعية و المنهجية التي تمّ إستغلالها بسهولة من قبل بعض المتلبسين بآلدين, و لهذا لم تحقق المطلوب و لم تأتي بآلحقوق!
إن عدم التنظيم .. و فقدان القيادة الحقيقة الواعية .. بجانب فقدان الشعار المركزي الذي طرحناه سابقا(1) ؛ يحوّل الجهود إلى بخار لا نفع منه, بل و بآلتالي يسهل ركوب موجة الجماهير و تخديرهم و كما حصل من قبل الفاسدين عدة مرات ليستمر الخراب و النهب لمصلحة 500 مسؤول رئيسي يحيط بهم بضع آلاف طفيلي باع ضميره لهم!
على الجماهير إنْ تنظم عملها و تُحدّد مطالبها الرئيسية و الفرعية و برامج و آليات تحقيقها, و أهمها بحسب الأولوية:
– تحديد رواتب المسؤوليين من رئيس الجمهورية ثم الوزراء والنواب و المستشارين و المدراء العاميين و القضاة و جعلها مساوياً لأي موظف أو مقاتل نذر نفسه للوطن(2)!
– دعم القطاع الخاص و فتح المؤسسات التحقيقية لتأسيس و تطوير المشاريع الناجحة و عدم تكرار مآسي الماضي خصوصا في صناعات البنى التحتية الأساسية كمعامل الحديد و الصلب و البتروكيمياويات و السيارات و الطائرات و المعدات الثقيلة!
– أستغلال و إستثمار العوائد المالية للعتبات المقدسة و السياحة في بناء المستشفيات و المدارس و المراكز المهنية و التعليمية و دعم المواطنين الفقراء و تأسيس النوادي الرياضية و الفنية و الحدائق المنتظمة و الملاعب المختلفة.
– ألأصرار و آلمطالبة برفع مفردات الحصة التموينية, إلى 12 مادة كما في السّابق, مع التشديد على توزيعها في توقيتات ثابتة مثلا كل رأس شهر, و الضغط يجعل النخبة الحاكمة تطيع شعبها أو تعلن الأستقالة.
– تبني نظام إداري عصري يتحكم به من خلال الشبكة العنكبوتية, مع كادر مهجز و مدرب بحسب الضوابط الأدارية و الفنية اللازمة.
إن المؤسف عليه جداً .. هي أنّ النّخبة الحاكمة لا تجعل في أولوياتها مصالح المواطن, و لا تعيّر أي إهتمام لمشاكل الطبقة الفقيرة و المحرومة التي يعيش أكثرهم تحت خط الفقر و في الأكواخ و الصرايف و بيوت الصفيع!
و يجب أن تكون الأولويات الأخرى(الفرعية) بحسب التالي:
ألحصة ألتموينية ألكاملة و الموسعة و آلمنتظمة في التوزيع,
ألعلاج المجاني,
ألتعليم المجاني,
فرص عمل للخريجين,
تأمين آلسكن المناسب خصوصا للفقراء,
و لو إستمرت الحكومة و معها مجلس النواب و بدعم القضاء العراقي الفاسد بعدم الأهتمام بهموم الفقراء و جعلها مجرّد شعارات لتخديرهم و للضحك عليهم؛ فأن ثورة الفقراء في العراق قريبة جداً .. إن لم تكن بدأت بآلفعل؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشعار المكزي كان [ إعادة ترليون دولار نهب من قبل الحاكمين].
(2) سبق و أن قدّمنا تفاصيل تحديد الرواتب من الرئيس إلى آخر عامل.
عزيز الخزرجي