منذ العهود السومرية والبابلية والتي تعتبر مهد الحضارات والتي علمت العالم العلم والمعرفة ، ولازالت الرسومات المنقوشة على التحفيات والآثار تمثل فنونا تشكيلية أبدعها وصاغها الإنسان الرافديني منذ ولادته ومجيئه إلى هذا العالم ولايستطيع أي فنان مهما كانت قدرته أن يبدع في تكوين هذه الصورة الواقعية لحياة الإنسان هناك ، أما حروفهم وكتاباتهم فكانت لغة شعرية خاصة يمتلكها الإنسان السومري المليء بالثقافة الحضارية والتراث ، ومن يكتب الآن الشعر المعاصر بلغة الحداثة أو قصيدة النثر ويقول انه أبداع في هذا الفن الأدبي ، فأنه لم يقرا قصائد السومريين الذين سبقوه بكتابة الشعر والرسم وغيرها من فنون العلم والأدب0
فالإنسان في الاهوار هو الامتداد الجذري للحضارة السومرية ومن يتصور أن أقوام الاهوار يشوبهم الجهل وعدم معرفتهم للعلم والثقافة والأدب فأنه مخطئ لأن هذه البيئة الجنوبية هي الامتداد ألتأريخي لتراث وحضارة سومر ومن هذه البيئة برزت بيوت وشخصيات علمية وأدبية ومن هذه البيوت بيت جمال الدين وبيت فرج الله وبيت ال حيدر وبيت السنيد وبيت المظفر وبيت أل خيون وبيت السادة الجزائريين وبيت الشبيب ومن الشخصيات الأدبية الشاعر الكبير الدكتور مصطفى جمال الدين والشاعر جميل حيدر والشاعر حمدي الحمدي و الخطيب الشاعر عبد الحميد السنيد ووالد الشاعر جواد جميل والروائي فهد مدفون الاسدي، والدكتور الفنان عبد المطلب السنيد والدكتور صلاح فليفل الجابري والشاعرة بلقيس حمد السنيد وغيرهم .
ونظرا لطبيعة الاهوار الساحرة حيث السماء الزرقاء وخضرة النباتات وزرقة المياه وصدى زقزقة العصافير، هذه المشاهد الرائعة } جعلت الإنسان هناك أما شاعرا أو أديبا أو قاصا أو روائيا أو كاتبا مسرحيا{ وعندما يولد الإنسان هناك بين أعواد القصب فأنه يتربى على سماع الشعر بأنواعه الفصيح والشعبي ، والطبيعة الجميلة للأهوار هي التي ساهمت في ولادة قوافل الأدباء والشعراء والفنانين فوق تلك الجزر الطافحة0
لقد عشت في الاهوار سنوات طويلة ومتتالية ، وتعلمت وسمعت الشعر هناك في المضايف والصرايف والبيوت وأحيانا نعقد ندوات شعرية تمتد إلى أخر الليل ، يتفنن خلالها الشعراء بالرد والهجاء والشعر هناك هو فاكهة الدواوين في جميع الأوقات ، والابوذية والدارمي والموال والأهزوجة والقصيدة الأنصارية هي أنواع شعرية شعبية وهذا الشعر مؤطر بالحسجة والرمزية الحديثة والخيال والصور الشعرية الرائعة وقد أنجبت قرى الاهوار شعراءالأبوذية ومن أبرزهم أبو معيشي وهو من مدينة سوق الشيوخ إذ يقول :
زماني جرد أسيوفه وسنهه
عليه وأحرمت عيني وسنهــــه
وحك اللي فرض خمسه وسنهه
بعد هيهات عيش أيصير إليه
ومن شعراء الأبوية ايظا ثامر حمودة والمطرب طاهر السعيدي والحاج جاسم الجشاف الماجدي وحسن سعدون الكطان وجاسم محمد الحجامي وأسد الخيون وخلف ساجت شاهر وستار الدلي الحجامي ومن شعراء القصيدة الشعبية مظفر النواب لأنه عاش في الاهوار سنوات طويلة وكتب ديوانه الموسوم”للريل أو حمد”هناك بين أعواد القصب والذي يعتبر باكورة الشاعر الإبداعية ومن الشعراء الشعبيين مجيد جاسم الخيون الذي اصدر عدة مجاميع شعرية 0
إن الشعر والأدب والثقافة هي لغة أبناء الاهوار ومن هذه البيئة برزت أسماء شعرية لامعة ولازالت المنافي تخص بهذه الأقلام ولهم علاقة مع تلك البيئة حتى ذهب بعضهم إلى إصدار مجلة موسومة بـ (القصب)وهذا الشاعر هو مدين الموسوي من قضاء الفهود المحاذية لهور الحمّار0
إن ثقافة عرب الاهوار قد تأصلت منذ السومريين ، أما الأدب بأنواعه الشعر ، القصة ، الرواية ، المسرحية ، فإنها تستمد نصوصها من حياة الإنسان ، لقد أنجبت هذه القرى شخصيات ثقافية وعلمية ويقال إن مدينة “الجبايش” كانت قديما مدينة علم ومعرفة وأدب ، ويمتاز الإنسان في الاهوار بالذكاء والذهن الصافي البعيد عن الضوضاء ، ويذكر أسد الخيون وهو شخصية أدبية وعشائرية (في أحدى مواسم الفيضان الذي اجتاح الجبايش كانت إحدى عوائل هذه الشخصية تمكث في سفينة هي وأثاثها وفي سفينة ثانية كانت مكتبة هذه العائلة) وهذا الشئ إنما يدل على عشق الإنسان هناك للكتاب الثقافي والأدبي وتجسيدا لمقولة ( القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ) ولكن الإنسان الرافديني هو الذي يكتب ويقرأ وكنت شاهدا على بقايا تلك الآثار الثقافية والمدارس العلمية في جامع “المؤمنين” في كرمة بني سعيد والذي يعتبر مدرسة علمية يعود تأريخها إلى مئات السنين وكان المرجع الديني الميرزا عناية الله جمال الدين صاحب هذه المدرسة الثقافية ، وفي الجامع ايوانات وصفوف ويسمى بجامع (المرزات) وفي الجامع مكتبة صغيرة وأتذكر في السبعينات عندما كنا صغارا نذهب إلى ذلك الجامع الذي تهدم سقفه وبعض جدرانه ونتصفح الكتب الثقافية والعلمية التي أكلت أغلفتها الأوساخ والأتربة ونشم بين طيات هذه الكتب حضارة البلاد وتراثها ونقرأ بين سطورها حكايات تلك البيئة وتاريخها ومعتقداتها ، فالتعليم والمعرفة هي من سمات و صفات وثقافة ابنأء الاهوار وحتى المنطق والبلاغة في القول هي من تقاليد وفصاحة الإنسان الأهواري ، وعندما يولد الإنسان هناك فان أمه تسمعه الشعر وهو في المهد00
دللول00000 يلولد يابني دللـــــــول
عدوك عليل 00000 اوساكن الجول
وغيرها من الأبيات الشعرية والأناشيد الجميلة ، أنها لغة ابناء الأهوار المليئة بالخيال والجمال والسحر كسحر البيئة التي يسكنوها منذ القدم ، وتوجد في مجتمعات الأهوار تقاليد تختلف عن باقي المناطق ، فمثلا عندما يمر شخص بحادثة مؤلمة أو يحتاج بعض المساعدة من محبيه فانه يلخص هذا الطلب ليس برسالة أو وصية وإنما يبعث ببيت من الشعر وهذا البيت هو لسان حال الشاعر الذي يخاطب به أحباؤه وغالبا ماتكون هذه اللغة المخاطبة تختص بالشعراء ، وعندما يصدر احد الشعراء هناك ديوانا شعريا أو كتابا ثقافيا فان هذا النتاج تعقد حوله ندوات نقدية وأدبية تكون غالبا كمحكمة تقيم هذا الإصدار ويكون الشاعر أو المؤلف هو المدافع عن الإشكاليات والجدل الذي يثار حول إصداره الثقافي والأدبي0
والثقافة عند عرب الأهوار ليست الفنون الأدبية فحسب وإنما تكون كذلك عن طريق تناولهم للأمثال والحكم والغناء والأناشيد والملاحم الأسطورية التي توارثوها من الحضارة السومرية ، ويقال إن أول مسرحية مثلت وعرضت في العراق كانت في سوق الشيوخ المحاذي للأهوار وثقافة أهل الأهوار ، لم يكن الشعر والحكم والأمثال فحسب وإنما تكون كذلك عن طريق القصص الواقعية والخيالية التي يرويها الأجداد والإباء في دواوينهم ، وتطول هذه القصص إلى عدة ساعات وتكون بمثابة الرواية الأدبية ، وتمتاز الحكايا والقصص بالأحداث المثيرة والقصص الجميلة0
يعتبر القصب في الحضارت السابقة المادة الأساس في الكتابة وهو بمثابة القلم الآن ، وقد عرف السومريون هذه المادة منذ نشوئهم وولادتهم فوق ايشانات بيئة الأهوار ، أما الورق فهو مستخرج من البردي ، إذن بيئة الأهوار تنتج القلم والورق0
لقد تناول بعض الأدباء والروائيين بأسلوب قصصي وروائي ، فمثلا أصدر الروائي الراحل فهد مدفون الاسدي مجموعته القصصية (عدن ضاع) متناولا فيها حياة سكان الأهوار كما تناول صاحب هذه الدراسة بيئة الأهوار في روايته (قامات القصب) كما وأنجبت الأهوار شخصيات علمية وأدبية مثل الشيخ كاظم الحلفي صاحب مجلة الأضواء الذي كان يصدرها مع السيد الشهيد محمد باقر الصدر ومن قرى الأهوار الناقد ياسين النصّير مع القاص غازي ألعبادي والشاعر جواد جميل ومن قرى الأهوار القاص جمعة اللامي والقاص الروائي نجم والي والدكتور شاكر مصطفى سليم والشاعر عبد الأمير الموسوي والمخرج المسرحي فاضل خليل والأديب رشيد خليل والكاتب فاضل الغزي ، كما برزت في الأهوار شخصيات أدبية وعلمية مندائية مثل الشاعرة المعروفة لميعة عباس عمارة والأستاذ الدكتور فرحان سيف وهولأء ينحدرون جميعا من الصابئة ، وأنجبت قرى الأهوار الشعراء (مختار سعيد ووحيد خيون ومهند جمال الدين وجواد السنيد وعبد الوهاب الأمين ومحمد جواد فرج الله ) وغيرهم من الشخصيات الثقافية والفنية والعلمية والأدبية0
بقلم: مهدي الحسناوي