لا ثقافة حقيقية مع الدكتاتورية. والثقافة الحقيقية هي الثقافة الرصينة، الإبداعية، الحرة، المؤثرة. وبالمقارنة في ما بين حال الثقافة العراقية خلال أربعين سنة من حكم الدكتاتورية الغاشمة (1963 – 2003) وحالها خلال الأربعين سنة التي سبقتها منذ تأسيس الدولة الحديثة (الملكية) في عشرينيات القرن الماضي، لن نجد نظيراً للسياب والبياتي والملائكة والجواهري وغائب طعمة فرمان وجواد سليم وفائق حسن وجواد علي وأحمد سوسة وعبد الجبار عبدالله ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر وسواهم العشرات.
الدكتاتورية تجعل من الثقافة ممارسة تافهة وسمجة ومهينة لا تعدو كونها مهرجانات للدبك والتطبيل، وتجعل من المشتغلين في الثقافة دبّيكة وطبالين. هذا بالضبط ما آلت اليه حال الثقافة وما كان عليه المثقفون في عهد صدام حسين.
الآن نشهد عودة متسارعة الى دكتاتورية من جنس دكتاتورية صدام. وبين مظاهر نمو الدكتاتورية الجديدة مهرجانات الدبك والتطبيل (الثقافية) المتلاحقة.
قوات الجيش والشرطة إذ تؤدي واجبها، وبخاصة وهي تكافح الإرهاب وتحارب الإرهابيين، تحتاج إلى أن تكون بمعنويات عالية والى أن يؤيدها المجتمع ويشدّ من أزرها.. هذا صحيح تماماً، لكن المعنويات لا تتقوى والعزائم لا تُشحذ والهمم لا تترسخ بمهرجانات الدبك على قاعة المسرح الوطني، ولا بنشر اللافتات في الساحات والشوارع، ولا برفع صور القائد العام للقوات المسلحة عند نقاط التفتيش.
في عهد صدام تحوّلت كل القاعات الى ميادين للدبك والتطبيل، وكل الشوارع والساحات الى فضاءات لنشر صور صدام وتماثيله والشعارات التي تمجده وأفعاله المدمرة.. ولم ينفع ذلك كله في شيء، لا في تحقيق النصر على الأعداء الداخليين والخارجيين ولا في حفظ النظام الذي أخلت قواته جبهات الحروب من دون مقاومة.
يكون رفع المعنويات وتقوية العزائم وشحذ الهمم، ويتحقق النصر ببرنامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المستدامة، وبنظام متقدم ومتكامل للخدمات العامة، وبعملية سياسية مستقرة ومتطورة أو واعد بالاستقرار والتطور.. بدولة ناجحة لا ينخرها الفساد المالي والإداري.. بحكومة نشيطة نزيهة.. ببرلمان فعّال بفضل أعضائه المتوقدين وطنية وكفاءة وإخلاصاً.. وبقضاء مستقل وعادل أيضاً وبالتأكيد.
كيف يكون الجندي والشرطي بمعنويات عالية وهو غير مطمئن إلى ان عائلته ستعيش من بعده حياة كريمة براتب تقاعدي منصف؟ كيف يكون كذلك وهو غير واثق من ان بيته لن يغرق بفيضان المطر؟ وكيف يكون كذلك وهو غير متأكد من ان النزاع بين الأطراف السياسية المتصارعة على السلطة والنفوذ والمال لن يتفاقم من بعده فتكون تضحيته لا معنى ولا قيمة لها؟
مهرجانات الدبك والتطبيل الحالية، كما السابقة، هدر لأموال عامة، الفقراء والمرضى والأيتام والأرامل والشباب العاطلون أولى بها، ومضيعة للوقت، وتسطيح للوعي.