تكتيكات شبكة الفساد- دائرة تقاعد ديالى نموذجا
ثامر حميد
العراقيون نقادون، عيابون. ينقدون كل شئ إلا: أنفسهم، من يعرفونه، من يخافونه، من تربطهم به مصلحة شخصية. وتنصب نقمتهم على السياسيين “الهوائيين” إذ أنك ما أن تذكر إسما لسياسي أو صاحب منصب تنفيذي عال (المحافظ مثلا) أمام أحدهم، حتى يبدأ بالنظر إلى ساعته ويتعجل أمره لمغادرتك. وقد لا تحظى منه في المرة القادمة بأكثر من سلام يرميه عليك من بعيد. أما الموظفون التنفيذيون في دوائر الدولة المختلفة فنادرا ما يحدثك صاحبنا العراقي عن فسادهم رغم وجود إجماع غير مصرح به بأن غالبيتهم الساحقة مرتشون…

أما الفئة القلية من الموظفين الذين لا زلت أنفسهم تأنف الارتشاء فيكون مصيرهم كمصير ذلك الشاب الموظف في إحدى الدوائر. قال لي أنه بسبب نأيه بنفسه عن تلك الحلقة الجهنمية كان نصيبه أن عزلوه في غرفة وحولوه إلى كاتب طابعة وهو الذي يحمل شهادة البكالوريوس في برمجة الكومبيوتر.
وتعج دوائر المحافظات بأفواج من الناس الرائحين والغادين (يسميهم العراقيون “مراجعين”).. البارحة تشبه اليوم واليوم يشبه غدا، وجوه تراها كل يوم، ويجري وسطهم منسلين برشاقة من يسمون ب “المعقبين” يتأبطون ملفات ثخينة أو يحملون حقائب “ديبلوماسية”. انهم فئة من الشباب والشابات المتخرجين من كليات القانون يترصدون أفة أو ملمح نفاذ صبر من مراجع فيسرعون إلى عرض خدماتهم. السعر كذا لاتمام “معاملتك”. ولا يفوت أحدا أن السعر لا يذهب كله إلى جيب “المحامي-المعقب” بل يوزع باتقان وربما تكون حصة الموظفين التنفيذيين الذين يبرعون في عملية اختراع الأسباب لإرجاعك مرة تلو الأخرى أكبرمن حصة “المحامي”. إن هؤلاء الموظفين يحملون شرف إيجاد وظيفة لهذا “المحامي” تدر عليه أكثر مما تدر وظيفة حكومية، فيكافأهم “المحامي” بحصة مضمونة من الريع. وينوب المحامي-المعقب في الحالة العراقية عن المشتكي والمشتكى عليه عليه في آن واحد…إن حسابا بسيطا يستند إلى عدد المراجعين كل يوم يقودنا إلى الحديث عن مبالغ خيالية يحصل عليها أؤلئك الموظفون كل يوم.

أما كبار السن من هؤلاء المعقبين، ممن تجاوز الخمسين، والذين يبدو أن الطلب عليهم أقل من الشباب (ربما لأنهم ليسوا من خريجي الكليات أو لأنهم ثقيلون بكروشهم البارزة) فهم يلفتون نظرك بصراخهم على أجهزة هواتفهم لينبؤوك أنهم موجودون ومستعدون…”يابة مو أنا جبتله قرار”، يعيدها بصوت عال مرة تلو الأخرى و لا تدري إن كان فعلا يخاطب شخصا أم أنه يمثل.. “بس هو لم يفعل (كذا وكذا) بعد أنا شسويله”، هكذا يواصل بصوت جهير ليعلمك بإنجازه الكبير الذي لا يعدو في حقيقته عن عملية أخذ مال من الموكل وتوزيعه حسب الاستحقاق الذي يعرفه جيدا…

ويوجد جيش من هؤلاء في أي دائرة حكومية تشاء وقد نسجوا صداقات مع الموظفين وقد تجدهم يجلسون مكان الموظف عندما لا يكون قد أزف وقت حضوره. إن “سمسار” المعاملات المعطلة عن سابق إصرار أصبح وجوده أمرا مألوفا وربما محببا في دوائر الدولة فالصيد يبدو وفيرا والفرائس ترمي بنفسها أمامهم فالمغلوبون على أمرهم من المراجعين قد أعياهم الذهاب والإياب وحرارة الصيف وبرد الشتاء واستنزفت أموالهم اجرة الطريق، هذا يأتي كل يوم من بعد 100 كم وذاك من بعد 40 وآخر من ثلاثين. أناس يعكزون وآخرون تجاوزا الستين يسيرون رويدا منكسي الرؤوس بدشاديشهم الزرقاء أو البيضاء، وغيرهم شباب أو كهول: هذا فقد ساقا وذاك يدا أو عينا نتيجة الإرهاب جاء ليستلم تعويضا وهو يعرف أنه لن يأخذه كله فلغيره حصة.
عجائز لا تقوى على المشي تصبح كل يوم وتغدو، تتنقل يوما بعد يوم وسط الوجوه الجامدة الخالية من كل تعبير للموظفين المنشغلين بتقليب الملفات. لقد سبق أن قبلوا كل ملف منها مرات ومرات بحثا عن ذريعة ليقولوا لك: “روح جيب “كتابنا” ليدونوا عليه مطالب جديدة تضاف إلى معاملتك المملوءة أصلا. (تحوي معاملتي على أكثر من أربعين وثيقة من تربية ديالى وبعد شهر من الذهاب والإياب أرسلني موظفوا تقاعد ديالى لجلب”كتابكم” لإني تجاهلت تلميحا بالمساومة..)
في دائرة تقاعد تلك المحافظة يقع ناظر وكيلي (ليس محاميا و لا معقبا) على صديق قديم له فنان مثله.
“ها ماذا تفعل”؟ سأله وكيلي..
“طلبت التقاعد المبكر” يرد.
وكيف تسير “معاملتك”؟
“لا بأس فقد استأجرت معقبا بمليون وربع. ماذا أفعل؟ هل يعجبك هذا الحال. كل يوم علي أن اشخص أمام شباك يتدافع عليه العشرات وقد يطول بك الزمن أشهرا وأنت على هذا الحال..”
“وأنت ماذا فعلت؟”يسأله صديقه.
“كما تراني فأنا هنا منذ أشهر ولم استأجر معقبا ولا أريد أن أدفع فهذه هي سجيتي”.
“يا صديقي هذا خيارك ولكن لتعلم أنه خيار صعب إن لم يكن مستحيلا”…

وكيلي هذا فنان تشكيلي ساقه الحنين لبساتين ديالى لأن يترك شوارع أوربا وساحاتها ويأتي إلى حيث ولد ظنا منه إنه قد عاد لفردوسه المفقود. فوجد أشجار برتقال ميتة ونخيلا طاعنا بالسن ونفوسا بشرية هي الأخرى ميتة أو نصف ميتة فكان عزاؤه الوحيد إمرأة فاضلة تزوجها بعد عودته وطفلة طلقة اللسان و 390 ألف دينار يعيش عليها هو وعائلته مع دراجة هوائية يركبها ذاهبا لقضاء حاجاته البسيطة . كلما أتى من “مشواره” التسوقي شكى هدير محركات السيارات والدراجات النارية المارة دون نظام على يمينه وشماله، دراجات نارية يركبها ولدان صغار يفوق ثمن الواحدة منها راتبه الشهري لسنتين….
قبل أن تدخل دائرة تقاعد ديالى ترى الشارع المحيط بباب الدائرة يمينا ويسارا يعج بفئة أخرى ملحقة من اصحاب آلات الاستنساخ وبيع الاستمارات وخدمات شتى مرتبطة بإبداعات موظفي التقاعد. مظلات مهلهلة فوق طاولات علاها الغبار يجلس خلفها أناس يتصيدونك من بعد. هؤلاء أيضا لهم حصة منك إذ أنك لن تنجز معاملتك (إن أنجزتها) دون أن تكون قد دفعت لهم عشرات آلاف الدنانير بين نسخة مصورة واستمارة .. من بين ما يبعه هؤلاء “الكتبة” تلك الورقة اللعينة التي إسمها “كتابكم” وهو سلاح ماض يستخدمه موظفوا التقاعد كلما أرادوا تعطيلك أو إذا ما جادلتهم بأمر، فأنت في نظرهم لا تفهم حقوقك كما يفهمونها هم. عندما يرسلوك لشراء تلك الاستمارة فلتعلم أنهم سوف يرسلونك في طلب كتب اخرى من دائرتك حتى لو كانت هذه الكتب موجودة في إضبارتك بل حتى لو كنت قد جلبتها نفسها لهم في مرة سابقة.

أرسلوني لشراء “كتابكم” مرات عدة. عرضت علي الموظفة مبلغا تقاعديا يقارب نصف استحقاقي حسب العارفين بالشأن وذلك باحتساب مدة الفصل السياسي دون الخدمة الفعلية مصحوبة بسؤال غريب علي قد يكون مألوفا لديهم:”هل تريد مكافئة؟”… لم أعرف بماذا أجيب وعندما قصصت هذا العرض على صديقي الذي سبقني بسنوات في قضية مشابهة قال لي أن ذلك يعني أن الموظفة تعرض عليك التنازل عن المكافئة مقابل “تمشية” المعاملة…(في مقابلة تلفزيونية قال رئيس مجلس صحوة الأنبار الشيخ حميد الهايس وهو يتحدث عن دائرة تقاعد الأنبار إنهم يعرضون عليك أخذ المكافئة مقابل إنجاز معاملتك)..
تجاهلت العرض وأصررت على السؤال: “لماذا لا تحتسب الخدمة الفعلية”. جاءني الأمر سريعا من السيدة: “روح من وره الشباج وجيب لي “كتابكم””. هكذا طردت من قبل الموظفة التي كانت قد “استضافتني” لأشخص امام مكتبها. مكتب تنزل إليه درجات يشبه الحفرة يجلس به خمسة موظفين كلهم يتداولون ملفك “للتدقيق” فالحفرة-المكتب هذا خاص بالتدقيق. “استعطفتني” زميلتها أنا المتقدم بالسن لتوفر علي الخروج “للعرضحالجية” فنادتني: “يا حاج تعال”..فناولتني من عندها ورقة “كتابكم”. فكتبت عليها صاحبة العرض مطلب أوراق إضافية من تربية ديالى كنت قد جلبتها من قبل. هكذا يكون مصير من يجادل، مزيدا من “روح وتعال”..

قبل ذلك كان وكيلي قد قضى أربعة شهور يلملم أوراق ملفي من تربية ديالى وقرابة شهر آخر في تقاعد المحافظة قبل أن يطلبوا منه استدعائي من اجل أن أبصم على ورقة لم أقرأ (لحماقتي) ما كتب عليها.

“عليك أن تدفع اقتطاعا تقاعديا لمدة 24 سنة (مدة الفصل السياسي)” قال لي موظف الحفرة المختص باحتساب الخدمة العسكرية.
“لماذا؟ فأنا لم استلم راتبا خلال تلك الفترة”..أجبته.
كان رده…..!”روح إسأل الكاظمي لويش”
وأسأل نفسي: من أين يأتي هؤلاء بكل هذه الجرأة وإذا كانوا محميين فمن يحميهم؟

في منزلك وأنت عائد للتو يكون الحمام الدافئ هو الوحيد الذي يخفف عنك شعورك بالقرف من التجربة التي كتب عليك أن تعيشها كل يوم..وأنت تحت رذاذ الماء تسمع دمدمات الزوجة أو الأم: “الله لا يوفقهم، الله لا ينطيهم”…لكنهم ، أيها الطيبة، موفقون وينهال عليهم العطاء…
قال وكيلي الفنان التشكيلي أثناء عودتنا في واحدة من تلك الأيام : “لو كنا امتهنا مهنة حرة مهما كانت، كبائعي خضار مثلا، أما كنا أحسن حالا، نفسيا على الأقل، إذ كنا جنبنا انفسنا التعامل مع هذا الصنف من البشر”..

وأنت تلج دائرة تقاعد ديالى مارا بأفواج كتبة الشارع يستوقفك عسكريون يتسمون بالكياسة ويبدون لك الاحترام. تميل إلى يمينك فتمر عبر دهليز ضيق يأخذك إلى آخر قبل أن تجد نفسك أمام باحة مغطاة بحديد (الجنكو) الذي يلهبك في قيض الصيف. وهذه لها فوائدها أيضا إذ أنها تمنح بائعي زجاجات الماء وأقداح الشاي الجوالين في الدائرة فرصة للعيش ومن يدري فقد تذهب حصة من أرباحهم لمن سمح لهم بالتجوال. على يسارك شباك “الوارد” وعلى يمينك تلك الحفرة ذات الشباكين التي يقرر من يقبع بها كل شئ عن حقوقك التقاعدية. هذه الحفرة هي ما يسمونه ” التدقيق”. كلما سألت عن سير معاملتك من وراء الشباك الحديدي الذي يشاركك فيه العشرات يأتيك الجواب: “أنها في التدقيق”، كل مرة بيد موظف مختلف (بترتيب ينم عن خبرة). والتدقيق على يد موظف آخر يعني أن هناك مفاجئة-مكيدة جديدة بانتظارك .

واحدة من براعات “التدقيق” أنهم في كل مر يفاجئونك بطلب ورقة جديدة لا يستطيع عقلك تصورها، مهما كنت مبدعا (فهلويا)، تندرج تحت عنوان “صحة صدور”. واحدة من طلبات صحة الصدور الخاصة بي هو الطلب من مدير عام تربية المحافظة كتاب يؤكد أنه قد أوكل لنائبه التوقيع عنه في إحدى الوثائق الموجودة في ملفي. والغريب في الأمر أن المدير يقوم إرسال كتاب يؤكد ذلك ويشرح السبب الذي من أجله قام بالتوكيل. وتسأل نفسك: كيف يمكن لموظف تقاعد أن يشكك بقيام المدير العام بتفويض وكيله بالتوقيع عنه؟ وكيف لشخص مثلي أن يزور كتابا موقعا باسم الوكيل وليس باسم المدير العام إذا كان يجيد التزوير لهذه الدرجة؟ غير أن الأسئلة المنطقية لا مكان لها في محيط لا يخضع لأي منطق…وعندما تعرض الموضوع على صديق يقول لك لأن موظف التقاعد الذي طلب ذلك الكتاب قد يكون منتميا لجهة سياسية يخشاها المدير العام..
وإليكم ما هو أغرب من ذلك: كتاب من دائرة التربية إلى دائرة التقاعد يقول أنه بعد “تدقيق الملف !الشخصي ل(إسمي) وجدناه من مواليد كذا”
ولكن ماذا عن الجنسية وشهادة الجنسية التي نسخت صورا عنهما عشرات المرات؟
. خلال شهر من الذهاب والإياب لم أفعل شيئا سوى أنهم جعلوني أدفع 270 ألف دينار قسطا من مبلغ 9 ملايين ركبوه علي باسم استقطاع تقاعدي لمعاملة لم تنجز .
سألني صديقي الذي كان يتابعني من مقامة في تركيا: “ماذا فعلت”.
“لم افعل شيئا. بل اصبحت مدينا لهم”
رد قائلا: “قد يكونوا وجدوا أن لديك مستحقات مالية لا بأس بها فلن يتركوك تنعم بها لوحدك”…
كنت في مرة سابقة التقيت الدكتور فخري صبري العزاوي استاذ علم الاجتماع في جامعة ديالى فدار حديث عن الراحل عنا جسدا ولم يرحل روحا عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي. قال الدكتور فخري أنه كان التقى الدكتور الوردي قبل وفاته ببضع سنوات وأنه في نهاية الحديث طلب من الوردي أن يصف الشخصية العراقية بكلمتين. فقال الوردي عن تلك الشخصية:
إنه “نهاب وهاب”…
ينهبك اليوم ويكرمك غدا..
تحدث الوردي عن زمنه و لا أظنه تصور أن يأتي يوم تنزوي فيه بعيدا صفة “الوهب” و ترفرف عاليا فوق الرؤوس صفة “النهب”..
إنه يومنا الذي نحن فيه…