كثيرا ما حكى لي عن حبيبته الأمريكية، لكني كنت اعتبر ذلك مجرد انتحال لبطولات وهمية لا لإيماني أن المرء حينما تنتابه لحظة ضعف يبحث عن قوة مؤقتة ولو باختلاق أكاذيب وأحلام يجسد فيها دور البطولة، ولكني اكتشفت هذا اليوم أني أظلمه كثيرا، فها هي صديقته قادمة لزيارته، لذلك أعلن حالة الطوارئ في حياتنا المشتركة وتبني تغييرات وسمها بالإصلاحات الجذرية. أخرج ورقة من بين الكتب قال إنها تتضمن الدستور الجديد للبلاد، لكنني قاطعته محتجا:
– ومن قال لك إني أرغب في دستور جديد؟ أنا أدفع مثل ما تدفع، وعلي مثل ما عليك، وليس من حقك تغيير القوانين دون استشارتي.
علق متحديا:
– أنا من سيقرر لأننا نعيش حالة الطوارئ ! ومن حقي أن أملي إصلاحاتي الجذرية لأني سأستقبل صديقتي الأمريكية !
صديقي علي اشتراكي حتى النخاع، وتلك الاشتراكية التي لا تحتاج إلى ماركسي أو لينيني لكي يتعلمها المرء، فهو يشترك معي الهواء الملوث والرغيف الأعزل والسيجارة الرديئة، لكني لا أنكر إني أطمع أن تتوسع الاشتراكية لتشمل هذه الأمريكية القادمة، لذلك قلت بفرح طفولي:
– أرحب بصديقتنا الأمريكية وسوف أعلق الأعلام احتفالا كالأعياد الوطنية، أنت تصفني بالحداثي الذي تعشش الظلامية في رأسه، وتصف نفسك بالتقدمي الذي لم يتنازل عن إرث الأجداد، فخذ صديقتنا بالنهار تمتع بها وأنت المتنور وهاتينيها بالليل وأنا الظلامي القنوع ! أوليس أنت من يردد دوما مقولة المفكر الفرنسي: ” لا يحق لأي كان أن يعتبر نفسه المالك الوحيد لشئ يحتاجه آخر لتلبية حاجياته “.
ضحك علي عاليا ثم قال:
– للاشتراكية حدود، أنا أعرف خبثك أيها الصعلوك، لذلك فالمادة الأولى من دستورنا تحرم عليك المبيت في هذه الغرفة ما دامت ماري في المغرب.
قلت ساخرا:
– أهذا هو الدستور الجديد للبلاد؟ سحقا للقوانين وتبا لنواميس تشرد مواطنا صالحا مثلي في سبيل أن يستمع الأجنبي بسرير نومي.
– لا.. لا … لن أكون قاسيا معك إلى هذا الحد، سأطلب لك حق اللجوء عند بعض الزملاء في الغرفة المجاورة، يمكنك أن تظل هنا طوال اليوم إلى أن يبسط الليل سدوله وسأمنحك تعويضا عن هذا الإزعاج، وتأكيدا لديمقراطيتي سأتنازل لك عن مستحقاتي المالية التي على ذمتك مقابل مصادقتك على الدستور الجديد.

قلت منهزما:
– تتعامل معي بمنطق الدول الغنية، لكن أمري لله هات الدستور هات.
قال علي بلغة المنتصر:
– أنا أريد أن أتفرغ لماري وأنت ستقوم بكل أعمال الطبخ والتنظيف والتبضع، وما لا أقبله منك هو دخولك معها في نقاشات عميقة عن العراق أو الأزمات الدولية أو عن الأمم المتحدة أو الديمقراطية الأمريكية… ماري مجرد مواطنة لا دخل لها في ما يحدث، فلا تعكر عليها زيارتها للمغرب بنقاشاتك التي لا تنتهي…
– لكنك قلت لي إنها محامية وتشتغل لحساب منظمة دولية.
– نعم، محامية تدافع من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل… تدافع عن المظلومين البسطاء ولا دخل لها في سياسة رئيس الدولة ولا في توجهات الحكومة… أنا وأنت علينا أن نظهر بوجه مشرف ونعبر بتصرفاتنا عن قبول الآخر، نبتسم في وجهها ونحترمها ونكون أكثر تحضرا وتفاهما على الأقل ما دامت ببيتنا، وإذا ما خضت نقاشا لا يجب أن يخرج عن التراث أو التاريخ المشترك والعلاقات الطيبة التي تربط البلدين الصديقين.
قاطعته في ازدراء:
– الحمد لله أنك أرحم من سلطات البلد ما دمت لم تأمرني أن أرتدي جلبابا باليا وأعلق بعض الحلي القديمة وأضع ابتسامة متكلفة وأقف رغما عني في زاوية الغرفة كي تتفرج علي زائرتك الغالية.
بدأ علي في تطبيق إصلاحاته الجذرية، يغير وضع الأسرة ويخفي تحتها أمتعتنا البالية التي نستعملها، تخلص من بعض كتبي ظنا منه أنها قد تجرح مشاعر الأمريكية المرهفة أو قد تكون سببا في نقاش يحكم عليه صديقي بالعقم قبل بدايته. يعلق على الحائط صورا لمناظر طبيعية، واستعار من بعض الزملاء كتبا متنوعة بلغات مختلفة عن العدل، عن المساواة، عن حقوق الإنسان، عن التاريخ، عن الحب، وعن أي شئ.. ورتبتها بعناية في الطاولة. كنت أنظر إليه وأنا أفكر في هذه المحامية التي ترافع أمام هيئة المحكمة وستسوقها الأقدار لترفع رجليها أمام علي، فوجدت في ذلك بعض العزاء، وتسربت إلى دواخلي فرحة حقيقية لعل رؤساء الدول المتخلفة يرتكبون بعض الحماقات يسمونها إصلاحات جذرية عندما ينتظرون ضيفا وازنا، لكن صديقي الذي أفاخر به زملائي أكثر رجولة من كل الرؤساء فهو على الأقل سيضاجع العالم الأول ويمرغ أنف الشرعية الدولية في حصيرة الحجرة.
جمعت أغراضي ولما هممت بالخروج دنوت منه متوسلا وأنا أربت على كتفه:
– علي سأسافر مدة أسبوع وأفسح أمامك المجال لتأتي حرثك أنى شئت، فلا تنسى لحظة أن العدل الدولي بين يديك لذلك أتوسل إليك بكل عزيز عليك لا تترك على جسدها رقعة ثوب وانزع عنها وقار العدالة وانتقم للعالم الثالث من جور أمريكا.
– يا علي !.. قرارات الرئيس الجائرة وجنود المارينز الذين مرغوا أنوفنا في الوحل !.. فاثأر لجراح الأمة وللمستضعفين في الأرض وآت الشرعية الدولية من حيث لا تؤتى النساء.
– يا علي !.. قانون الإرهاب لا يشملك !.. فارهبها بعدتك واطعن سليلة الجبابرة بخنجرك من كل الجنبات ولا تترك شقا من شقوق الجسد إلا واخترقه !.. ارفع أعلامنا المنتكسة يا علي !…