حمد جاسم محمد/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
تعرف السياسة بأنها فن الممكن، والدول ذات السياسة الحكيمة تؤسس سياستها الخارجية على مبدأ كسب الأصدقاء وزيادة عددهم ومن ثم تحقيق مصالحها، وتقليل عدد الأعداء قدر الممكن، وتحييد غير المتعاطفين إذا أمكن ذلك، ومن المؤسف حقا أننا لا نلمس مثل هذه الحكمة في السياسة الخارجية لبعض دول الجوار في علاقتها بالدول العربية، وطبعا إن كنا نحمل هذه العلاقات على حسن النوايا.
فالأسبوع الماضي، كما هو حال كل السنين والأشهر الماضية، سمعنا التصريحات من مسؤول ايراني فيها نوع من الاستفزاز للعراق بشكل خاص وللدول العربية عامة، وهذه التصريحات أدلى بها “علي يونسي” مستشار الرئيس الإيراني “الشيخ حسن روحاني”، وجاءت التصريحات خلال منتدى “الهوية الإيرانية” المنعقد بطهران في 8/3/2015، حيث قال: “إن إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما الماضي”، وذلك في إشارة إلى إعادة الإمبراطورية الفارسية الساسانية قبل الإسلام التي احتلت العراق وجعلت من المدائن عاصمة لها، وأضاف قائلا: “إن جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة، وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا إما نقاتل معا أو نتحد معا”، وهو بذلك يشير إلى التواجد العسكري المكثف في العراق خلال الفترة الحالية.
هذه التصريحات لا تستقيم مع مبدأ حسن الجوار، ولا التعاون الإقليمي بين الدول التي تدعي إيران أنها تسعى لتحقيقه، كذلك قد تزيد من الوضع العراقي المضطرب، خاصة وان هناك حرب تدور رحاها لتحرير عدة مدن عراقية من أيدي الدواعش، إذ إن هذه التصريحات قد تؤدي إلى تفكك التعاون بين الجيش والحشد الشعبي من جهة وأبناء العشائر في المحافظات الغربية من جهة أخرى في محاربة داعش، خاصة وان هناك عدد من الدول منها السعودية وقطر وتركيا وأخرها مشيخة الأزهر تتربص للحكومة العراقية وتكيل لها مختلف التهم، وتحاول تشويه صورة الجيش والمقاومة العراقية في حربهم ضد داعش، وقد اتهمت هذه الجهات قوات الحشد الشعبي بالطائفية في مقاتلتها لعصابات داعش الإجرامية، لذلك فان إطلاق هذه التصريحات في هذا الوقت هي غير موفقة وغير مسؤولة ولا تؤدي الا إلى إعطاء فرصة لأعداء العراق للتدخل بشؤونه الداخلية بحجة محاربة النفوذ الإيراني.
كما أنها قد تقوض -ما يقال عن– محاولة من قبل سلطنة عمان لفتح قنوات التباحث مع إيران من أجل إيجاد حل سلمي للانقسام الحاصل في اليمن وبعض الدول العربية، المتهمة إيران بالتدخل في شؤونها، كما أن هذه التصريحات قد تقوض الجهود التي يبذلها حاليا “علي لاريجاني”، رئيس مجلس الشورى الإيراني، الذي قام مؤخرا بزيارة كل من الكويت وقطر بهدف الدعوة إلى الحوار مع دول الخليج لحل الأزمات الداخلية في الدول العربية التي انغمست إيران في مشاكلها الداخلية عبر دعمها فرقاء ضد آخرين.
يبدو أن بعض القادة السياسيين في إيران يناقضون أنفسهم، فهم من جهة يطالبون ويلحون منذ فترة طويلة بأن تكون منطقة الخليج خالية من القواعد الأجنبية، ومن جهة أخرى يدلون –من وقت لآخر- بتصريحات استفزازية تثير شكوك ومخاوف دول المنطقة، وقد تضطرهم إلى اللجوء لوسائل دفاعية احترازية ولو باستدعاء قوات حليفة أجنبية، أو تشكيل أحلاف عسكرية مع بعض دول الجوار.
إن تصريحات نائب رئيس الجمهورية الإيراني لشؤون الأقليات، قد تفسر على عدة أوجه، فهي من جهة صدرت من شخصية لها مكانة في النظام السياسي الإيراني، إذ إن (علي يونسي) نائب للرئيس الإيراني، وهو معين من قبل رئيس الجمهورية “يستطيع رئيس الجمهورية – للقيام بأعباء واجباته القانونية – إن يعين معاونين له، ويقوم المعاون الأول لرئيس الجمهورية -بموافقته- بمهمة إدارة جلسات مجلس الوزراء، والتنسيق بين سائر المعاونيات (المادة 124) من الدستور الايراني، وبهذا فهو يمثل جهة رسمية عليا في إيران، لذلك من الواجب إن تكون تصريحاته ومواقفه متوافقة مع السياسة العليا للحكومة الإيرانية ومع السياسة الخارجية الإيرانية، وبهذا فإن صدور مثل هذه التصريحات قد تفسر بأنها تمثل توجهات الحكومة الإيرانية، خاصة وانه لم تصدر من المرشد الأعلى أية الله (السيد علي الخامنئي، أو الرئيس الإيراني (حسن روحاني) ما يبرر أو يفند أو يستنكر هذه التصريحات، وان نائب البرلمان الإيراني عن طهران (حميد رسائي) قال إن أفضل خطوة، هي عزل (يونسي) من منصبه الحكومي ليكون ذلك بمثابة سكب الماء على الفتنة التي ينشغل البعض بتأجيجها الآن في المنطقة، وإذا لم يرضخ رئيس الجمهورية لهذه الخطوة، فعليه إن يبادر شخصيا بتقديم إيضاحات من أجل إخماد هذه الفتنة الإقليمية، رغم انه لا ينبغي لوزير الخارجية أيضا إن يلتزم الصمت.
كذلك إن (علي يونسي) هو مسؤول مخابرات سابق ويعرف جيدا خطورة مثل هذه التصريحات على الأمن القومي الإيراني قبل العراقي، لذلك فإطلاق مثل هذا الكلام منه قد تفسر على انه تصرف غير شخصي، وان هناك جهات قد دفعته لهذه التصريحات، من اجل غايات وأهداف سياسية، تخص الشأن الإيراني، أو الغرض منها تشويه العلاقة بين العراق والعرب من جهة وإيران من جهة أخرى، خاصة بعد الدعم الإيراني للعراق في حربه ضد داعش.
إن تصريحات نائب الرئيس الإيراني قد قوبلت بالرفض والاستنكار في العراق ومن أعلى المستويات، فقد رفضت المرجعية الدينية العليا في النجف المتمثلة بـآية الله العظمى (السيد علي السيستاني)، يوم الجمعة، تصريحات مستشار الرئيس الإيراني للشؤون الدينية والأقليات (علي يونسي) الذي وصف فيها بلاده بأنها “أصبحت إمبراطورية كما كانت سابقا وعاصمتها بغداد”، إذ أكدت المرجعية الدينية على ضرورة الحفاظ على هوية واستقلال العراق، ففي خطبة صلاة الجمعة بالصحن الحسيني الشريف في كربلاء قال ممثل المرجعية الدينية (السيد احمد الصافي)، “إننا نعتز بوطننا وبهويتنا وباستقلالنا وسيادتنا وإذا كنا نرحب بأية مساعدة تقدم لنا اليوم من إخواننا وأصدقائنا في محاربة الإرهاب ونحن نشكرهم عليها، فان ذلك لا يعني في أية حال من الأحوال بأنه يمكن أن نغض الطرف عن هويتنا واستقلالنا كما ذهب إليه بعض المسؤولين في تصوراتهم”، وأشاد ممثل المرجعية في كربلاء بالانتصارات الأخيرة التي تحققت على أيدي القوات الأمنية من الجيش والشرطة، والمقاتلين من الحشد الشعبي، والعشائر على تنظيم داعش الإرهابي، داعياً المكونات العراقية إلى “التلاحم ورص الصفوف” في مواجهة الإرهاب لحين “تطهير جميع الأراضي العراقية المغتصبة من قبل الإرهاب”. إن تصريحات المرجعية الدينية بالإضافة إلى أنها نابعة من الروح الوطنية فيها وحرصها على وحدة وسلامة أراضي العراق واستقراره، وأنها تقدر مساعدات الدول الصديقة للعراق للوقوف بوجه الإرهاب، كذلك تؤكد أنها لن تسمح بمثل هذه التصريحات التي تمس السيادة العراقية، وفي هذا الوقت الذي نحن بأمس الحاجة فيه إلى الوحدة الوطنية ورص الصفوف والوقوف بوجه الإرهاب، كذلك عدم إعطاء ذرائع ومبررات لأعداء العراق للتدخل فيه.
وردت وزارة خارجية العراق، في يوم الاربعاء11/3/2015، باستنكار تصريحات مستشار الرئيس الإيراني بالقول:” إن العراق بلد مستقل ذو سيادة وطنية، وإن وزارة خارجية جمهورية العراق تعرب عن استغرابها للتصريحات المنسوبة إلى الشيخ علي يونسي المستشار للسيد الرئيس الإيراني للشؤون الدينية والأقليات بخصوص العراق، وان الخارجية العراقية تعرب عن استنكارها لهذه التصريحات اللامسؤولة، أن العراق دولة ذات سيادة يحكمها أبناؤها وتقيم علاقات ايجابية مع دول الجوار كلها بضمنها إيران وان العراق لن يسمح بالتدخل في شؤونه الداخلية أو المساس بسيادته الوطنية”.
كذلك استنكر برلمانيون ومسؤولون إيرانيون تصريحات (يونسي) بشأن العراق ودعوا إلى طرده، من منصب المستشار الحالي للرئيس حسن روحاني، لشؤون القوميات والأقليات الدينية، من أجل إخماد الفتنة في المنطقة التي بدأت بتصريحاته، وما قد تثيره هذه التصريحات من مشاكل جديدة للبلاد والتي على حكومة روحاني إن تدفع ثمنها. الا إن الملاحظ إن القيادة الإيرانية العليا لم تندد بهذه التصريحات والتزمت الصمت.
هذه التصريحات والتدخلات في شؤون البلدان العربية تقود إلى إثارة الفتن والاضطرابات في وقت تعاني فيه المنطقة من حروب أهلية وأزمات سياسية حادة، تتطلب جهودا مشتركة من الجميع لحلها حماية لمصالح الشعوب، وما الفائدة من الشجب والاستنكار الرسميين لاحقا لهذه التصريحات غير المسؤولة، بعد أن تكون قد فعلت فعلها غير المحمود والمقبول في العقول والنفوس، والأولى أن لا تسمح السلطات الرسمية العليا الإيرانية وأصحاب القرار في قمة الهرم السياسي الإيراني بمثل هذه التصريحات من الأصل لتوفر على نفسها وعلى المنطقة برمتها العواقب الوخيمة غير الحميدة.
لا معنى لتصريحات يونسي ولا ضرورة إيرانية أو عراقية لها، عدا كونها تؤدي إلى إثارة الأزمات في المنطقة، وهو أمر يستفزّ الغالبية العظمى من العراقيين، وبخاصة في هذا الوقت حيث ينغمس العراقيون في حرب مصيرية مع (داعش) الإرهابي ويتطلعون إلى دعم نزيه ومساعدة كريمة من جيرانهم وأصدقائهم وليس إلى تصريحات تزيد الطين بله.
هذا النقد البناء لبعض التوجهات في سياسة إيران الخارجية تجاه العالم العربي، الهدف منه محاولة بناء علاقات سياسية قائمة على مبادئ حسن الجوار واحترام سيادة واستقلال البلدان والمصالح المشتركة حسب الأعراف والقوانين الدولية، بعيدا عن عقلية الاستعلاء والهيمنة والأحلام الإمبراطورية التي عفا عليها الزمن وتجاوزها.