حدثين حصلا قبل أيام تجعلنا – إن كنا نريد البحث عن مستقبل العراق ما بعد اندحار داعش – نتوقف عندهما قليلا ليس للبحث فيهما فقط ، بل محاولة استخلاص نتائجهما ومدى تأثير هذه النتائج على أستقرار البلد الذي ستحكمه قوة مركزية غير مكتملة البنيان ولها وشائج عديدة مع قوى ميليشياوية عمقها ليس الدولة بل العشائر، والقوة النارية الكبيرة لهذه العشائر والميليشيات ودورهما بالحصول على نتائج مشاركتهما في حرب طائفية بمعنى الكلمة، على شكل مراكز سياسية غاية بالأهمية لترسيخ واقع مافيوي لنهب ما تستطيع الوصول اليها من ثروات البلد، ألم يقدموا دماءا والدماء لها ثمن؟
لا يختلف إثنان بالعراق على “خربطة” التيار الصدري في مواقفه السياسية تجاه مختلف الأزمات التي مرّ و يمرّ بها البلد كونهم جزء من لوحة سياسية لا نعرف لها لونا غير الاسود لليوم، فهذا التيار ممثلا بالسيد مقتدى الصدر جعلنا نلهث خلف قراراته لنحل شفرتها فتارة يطالب بتجميد جيشه “جيش المهدي” وتارة يبدل اسم جيشه وتارة يضع “الجيش” تحت عهدة المرجعية الا انه هو الذي يصدر اليه الاوامر حتى وصل به الامر الى تغيير أسم “جيشه” الى سرايا السلام، وحتى هذه السرايا فأنه أمر بتجميد نشاطها في معارك “الحشد الشعبي” ضد تنظيم داعش الارهابي في تكريت وغيرها نتيجة لتصرفات طائفية لبعض مجاميعه. الا انه في الاسبوع الماضي طلب من 1500 مقاتل من هذه السرايا بالتوجه الى ساحات القتال على شرط ان يكونوا تحت إمرة الجيش العراقي وهذا يحسب له لابعاد صفة الطائفية عن سراياه، الا ان قراره هذا أصطدم بقرار من فيلق بدر بقيادة “هادي العامري” يمنع فيه هذه السرايا من المشاركة بقتال داعش بسبب اصرار الصدر على ان تعمل كتائبه تحت توجيه الجيش. وهذا يعني أن الجيش العراقي الذي يمثل البلد او هكذا يجب ان يكون لا يمتلك زمام الامور قدر ما يمتلكه الحشد الشعبي بقيادة العامري وفيلقه فيلق بدر ومعه بقية الميليشيات التي تشكل الجسم الاكبر للحشد الشعبي كون هناك الالاف من العراقيين تطوعوا للقتال في الحشد الشعبي وهم ليسوا اعضاء في أية ميليشيا، هذا الحدث سوف تكون له آثار مستقبلية غاية بالخطورة، في مقدمتها ان هذه الميليشيات ستساهم هي الاخرى كما الكرد والسنة على اضعاف الجيش العراقي لتكون هي من يتحكم بالارض مستفيدة من دعم لا محدود من قوى اقليمية تريد كما غيرها عراقا ضعيفا وغير قادرا على النهوض من سقطته وليس كبوته هذه.
أما الحدث الثاني فقد كان بعيدا عن ساحة المعارك وفي اقصى الجنوب في البصرة، التي شهدت نزاعا عشائريا مسلحا عنيفا في ناحية الكرمة شمال المدينة بين “عشيرتي الحمادنة والبطوط على خلفية انتهاء الهدنة “العطوة” بين العشيرتين. واستخدم الجانبان أنواع الاسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة وأسفرت عن جرح مدنيين وقطع الطريق الرابط بين مركز المدينة وقضاء القرنة”. وقد سبقت أحداث البصرة أحداثا مؤسفة أخرى في العمارة وكان ابطالها ايضا العشائر، فقد تحوّلت ناحية العدل جنوب مدينة العمارة (إلى “ساحة حرب” يسودها الرعب وجعل الأهالي يتصورون أن منطقتهم تعرضت لغزو خارجي نتيجة كثافة النيران التي أطلقت من مختلف أنواع الأسلحة بدءاً من الرشاشات الخفيفة والمتوسطة إلى القناصات والقاذفات ما أوقع الكثير من الضحايا بين قتيل أو جريح، ما جعل الأهالي يطالبون عشائر المنطقة الإسراع بتسوية الخلاف لحقن الدماء وإشاعة السلام وفقاً للأعراف السائدة والقانون). ونتيجة لتدخل المرجعية بالأمر ومطالبة خطيب كربلاء السيد الصافي النجفي من السلطات بالتدخل الفوري من قبل الحكومة ، تحركت الحكومة لاعلان البصرة مدينة منزوعة السلاح على غرار بعض مناطق بغداد، وبدلا من تلتزم العشائر بقرار الحكومة وتحترم قرار مرجعيتها الدينية التي تستغلها في كل انتخابات ، خرج علينا الشيخ “احمد السليطي” نائب رئيس لجنة الحشد الشعبي ورئيس كتلة منظمة بدر بزعامة “هادي العامري” ليقول بأن “نزع سلاح أهالي البصرة قرار لا يتخذه إلا هم أنفسهم عندما يكون الوقت مناسبا وأما الآن فالظروف الأمنية والتهديدات الإرهابية والمؤامرات الأقليمية والدولية التي يواجهها البلد حاليا لا تسمح بالتخلي عن أي قطعة سلاح ومن يدعو لذلك فهو جزء من هذه المؤامرات بقصد أو بدونه”، ليضيف قائلا ” ان وجود عشائر متمردة على القانون لا يبرر نزع سلاح بقية المواطنين.. ودعا السلطات الحكومية الى تطبيق أقسى العقوبات بحق هؤلاء الخارجين على القانون وضربهم بيد من حديد دون أدنى رحمة بهم لانهم لا يبالون بأرواح الناس وممتلكاتهم وهم وداعش وجهان لعملة واحدة بحسب قوله” وكأن الحشد الشعبي يقاتل داعش في منطقة “الحيانية” مثلا. وبين هذين الحدثين كان هناك حدثا آخرا لا يقل خطورة عن سابقيه ويعكس التدخل المباشر للميليشيات في غياب الدولة ببسط نفوذها وهيمنتها حتى داخل العاصمة بغداد. فقد اعلنت كتائب “حزب الله” (عن عزمها ارسال بطارية صواريخ الى منطقة الشعلة للرد على مصادر اي نيران تستهدف المواطنين كما حصل يوم الاربعاء الماضي، فيما حذرت ما اسمتها “المناطق الحاضنة لداعش” والتي انطلقت منها مصادر النيران برد “قاس”.
وجاء في بيان صدر عن كتائب حزب الله ونشر على موقع الكتائب الرسمي، واطلعت عليه، “السومرية نيوز”، إن “الكتائب وبطلب من اهالي منطقة الشعلة وانطلاقا من تكليفها الشرعي في الحفاظ على حياة المواطنين والدفاع عنهم، قررت ارسال بطارية صواريخ خاصة للرد على اي مصادر للنيران تستهدف المواطنين الابرياء في مدينة الشعلة والمناطق القريبة منها”. وحذر البيان “جميع المناطق الحاضنة لمجرمي داعش والتي انطلقت
منها مصادر النيران برد قاس في حال استمرارها بانتهاك ارواح الناس وممتلكاتهم”، مضيفا، أن “كتائب حزب الله على استعداد تام لتقديم المساعدة والعون لجميع المواطنين وفي عموم المناطق وبما يسهم في الحفاظ على امنهم وسلامتهم”. وكانت منطقة الشعلة، شمال غربي العاصمة بغداد، قد تعرضت يوم الاربعـاء الماضـي (11 شباط 2015)، الى قصف بالهاونات والكاتيوشا، ما اسفر عن مقتل واصابة العشرات من المواطنين، فيما طالب النائب عن تحالف الإصلاح الوطني حيدر الفوادي، رئيس الوزراء حيدر العبادي وقائد عمليات بغداد عبد الأمير الشمري بالتدخل لحماية أهالي المنطقة.
تاريخيا كان هدف العثمانيين والانكليز بعدهم وغيرهم من الدول التي تتدخل بالشأن العراقي بشكل مباشر ولضمان هيمنتها ، كان اضعاف المدن وبشكل اكثر وضوحا ” فإن وجود عشائر قوية كان يعني، في القاعدة، وجود مدن ضعيفة بالتلازم. وعلى العكس فإن نمو المدن كان يعني تراجع العشائر” (1). وبعد سنة 1908 ووصول جماعة تركيا الفتاة الى السلطة السياسية فانهم عملوا على تعديل هذه المعادلة لصالح المدن بالحد من قوة وهيمنة العشائر ، الا ان الانكليز الذين احتلوا العراق كان لهم وجهة نظر اخرى – موجودة لليوم عدا بعض الفترات القصيرة – وهي انهم ” رأوا في موازنة العشائر ضد أهل المدن ضمانا أكيدا لأستمرار سلطتهم. وهكذا فأنهم لم يحاولوا فقط وقف العملية المبتدئة للأنحلال العشائري أو صون سلطة رؤساء العشائر وتبريرها أو المحافظة على الحد الأدنى من التفاعل بين أهل المدن والعشائر فحسب ، بل أنهم عملوا أيضا على تدعيم الانشقاق القائم بتقوية العادات العشائرية والاعتراف بها رسميا” (2). وقد فشل النظام الملكي وعلى الرغم من بعض المحاولات العروبية لبناء دولة عراقية “وفق بطاطو” كنتيجة منطقية لغياب القرار السياسي الوطني أو ارتباطه المباشر بالمندوب السامي البريطاني والتاج البريطاني في لندن. وإذا توخينا الدقة فأن العشائر العراقية عاشت على الدوام أفضل حالاتها عدا مرحلة ثورة 14 تموز وبضع سنوات من عهد البعث الثاني، أما اليوم فأنها تعيش بشكل لم تحلم به مطلقا، فهي اليوم من يرجح كفة الاحزاب في الانتخابات، وهي التي تصنع الميليشيات، وهي التي تلقي بظلالها ثقيلة على المدن لترييفها، وهي التي بأسم مذاهبها تشترك بأغتيال البلد.
على الرغم من مواقف المرجعية الدينية للاحداث الاخيرة بالبصرة وغيرها ومطالبتها بنزع سلاح العشائر الا ان العلاقة التاريخية بين العشائر والمؤسسة الدينية على مر التاريخ لا يمكن اغفالها او تجاوزها، فالمؤسسة الدينية وقبل ان تهيمن على القرار السياسي اليوم كانت دوما بحاجة الى العشائر ورجالاتها واموالها لتسيير امورها الدنيوية، واليوم هي كذلك بحاجة لهم من اجل استمرار هيمنة الاحزاب الطائفية على المشهد السياسي، كون تغيير ميزان القوى سياسيا لقوى مدنية او غير اسلامية سيدفع السلطة حتما الى وضع حد لهيمنة رجال الدين وتدخلهم بسياسة الدولة وتوجيهها نحو أسلمة المجتمع وبعيدا عن الديموقراطية المنشودة.
أن عدم تحرك الحكومة بقيادة السيد “حيدر العبادي” للجم تدخل الميليشيات بالشأن السياسي وعدم نزع سلاح العشائر في كل ارجاء البلد سيكون دلالة على فشل نستطيع ان نرى طلائعه من البصرة.
(1) العراق- الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية ، الكتاب الاول ، حنا بطاطو ، ص 42 .
(2) نفس المصدر ص 42 – 43 .