باسم عبد عون فاضل:

 

يؤثر الشارع في تغيير الحكومات بل هو في اغلب المواطن والأزمنة صانع لها وصناعته لها تختلف طبيعتها وطريقة صنعها والكيفية التي تتم بها من بلد إلى آخر، وهذا يرجع إلى عامل التمايز والاختلاف بين عقائد الشعوب واهتماماتها وارثها ونظرتها إلى حاضرها ومستقبلها وفق عدد من الأولويات والطموحات، فالحكومات هي نتاج الشعوب وهي حاجة ضرورية بل بنيوية تجدها المجتمعات الغرض منها إدارة شؤون حياتها اليومية من تعاملات ومعاملات داخلية وخارجية.

 ولكون الشعوب وطبيعة حيتها في تغير دائم وهذا التغير تفرضه ازدياد الحاجات والاهتمامات المصحوبة بأسس وقوالب جديد تصطدم بتلك القديمة المورثة هنا عملية التغير لابد من إن تمرر أو تنسجم مع تلك المنظومات الإدارية والسياسية والقانونية في تلك الشعوب، بعض تلك المنظومات وهي الحكومات تتكيف وتتوافق مع تلك التغيرات وأخرى وهي كثيرة تقف حائلا بوجه تلك التغيرات ولأسباب عديدة أبرزها خوفها من ان التغير يمس بنية وهيكلة السلطة التي تتمتع بعها، فنجد دائما التطور الذي يحدث في المجتمعات يؤثر كثيرا في حركة التغير الحكومي وهذا نابع من زيادة الوعي الفكري لديها الذي يأخذ يتعامل مع السلطة كواقع قابل للتغير والتطور من قبلها.

 بينما السلطة من جانبها وخصوصا تلك التي قائمة على أسس وتبريرات تارة دينية وأخرى عائلية عن طريق الوراثة وتبريرات أخرى كأن تكن قومية ترى إن حركة الجماهير هي ليس من باب الحقوق الواجب التوافق معها والارضاخ لها بل تتعامل معها وفق مبدأ التمرد الشعبي الذي يستهدف أهم أساس تقوم عليه الدولة هناك وهو سلطة الحاكم، لذلك نجد الاصطدام بين الجماهير في الشوارع والحكومات هو سيد المواقف في تلك الأحوال، هذا الأمر حدث في مختلف شعوب العالم حتى تلك التي تمثل اليوم أنظمتها مفخرة النظم الديمقراطية والتي تسودها الحرية والمساواة والعدالة في تعاملها مع مواطنيها مثل دول أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.

 وهنا يتضح لنا إن حالة الصدام بين الشارع والحكومات هي حالة عامة في كل البلدان والشعوب في العالم لكن دول كثيرة تجاوزتها، الدول التي لم تتجاوزها هي شعوبنا اليوم وخاصة بلدان العالم العربي التي تعيش حراك جماهيري مصحوب بتلك الحمامات من الدماء مع حكوماتها، شعوب العالم العربي اليوم وجدت نفسها إن فرص التغير نحو الأفضل في اختيار حكوماتها وعرة وليست سالكة كما هي كانت عليه الشعوب الأخرى التي سبقتها في التغير، فإراداتها بالتغير باتت أول ما تصطدم بإرادات خارجية تحيل دون تحقيق أمالها في اختيار الحكومات وكذلك تغيرها.

 فهي داخليا تعايشت مع حكومات توارثت الحكم عبر الإباء والأجداد وأخرى عسكرية التي غالب ما توهمهم بأنها الحامية من الإخطار التي تهددهم من الخارج، تحديات وقفت بوجه الشارع الشعبي وعاقة التغيير المنشود وهي الأساس في التدخل الخارجي، منها الموارد اقتصادية الهائلة والموقع الجغرافية المتحكم لكثير منها.

 العراق كواحد من هذه البلدان، إرادة الشارع عاشت ولازالت تعيش هذه التحديات في اختيار وتغيير الحكومات منذ تأسيس الدولة الحديث فهو لم تسنح له الفرص في اختيار أو تغير (الحكومات) بما ويلبي طموحاته، عاش تارة مع حكومات ملكية وأخرى انقلابية عسكرية تدعي نفسها بالجمهورية الثورية، وأخيرا ديمقراطية، عوامل متعددة جعلت من إرادة الشارع في العراق ترتبك في اختيار من هم أهلا لإدارة شؤونه السياسية والاقتصادية وغيرها.

من تلك العوامل هي عامل التدخل الخارجي الذي لازمة الدول العراقية منذ تأسيسها في عشرينيات القرن المنصرم والذي ما انفك يمار يمارس ذلك الدور الوصي على العراقي مثل بريطانيا واليوم الولايات المتحدة الأمريكية، فربما البعض يجد في هذا العامل ليس أكثر من تبرير لفشل العراقيين في اقامة نظام سياسي عصري يعبر عن إرادتهم، نعم صحيح لكن هو في ذات الوقت تبرير منطقي إلى حد ما وأيضا أمر واقع عاشه الشارع العراقي، إلى جانب هذا الأمر وهو ماله علاقة به هو ذلك الصراع الحميم بين النخب والجماعات العراقية على رأس السلطة والتي غالبا ما تستغفل العراقيين بشعارات طائفية وقومية لترسيخ سريان حكمها وبالتالي تخلق على اثر تلك الشعارات حكومات هشة ركيكة ليست هي في الأصل تعبير عن إرادة الشارع بل هي تعبر عن استقطاب عواطف الجماهير لتعضيد لحكمها، لذلك نجد الشارع العراقي وبعد تلك التجارب ما عاد ليؤمن بتلك الشعارات.

 بعد عام 2003 استنشق الشارع العراقي الامل الكبير بذلك التغيير فعول عليه كثيرا في اقامة نظام سياسي يمثل طموحاته وأحلامه التي ينتظر تحقيقها منذ أمد طويل، لذلك تفاعل كثير مع مؤسسات دستورية وقانونية بنيت من جديد وشارك بفاعلية في صناعة الحكومات الجديدة إلا إنه في النهاية اتضح له إنه يسير بنفس تلك الأعراف والوقائع التي كانت سارية قبل عملية التغيير الديمقراطية وهي دكتاتورية الجماعات السياسية التي لم تؤمن بالتداول الديمقراطي الحقيقي للحكم والتي تتخذ من الشعارات القومية والطائفية رصيدا لها في البقاء في الحكم، واتضح إن دورة هو شكلي وهو مقتصر على التصويت في الانتخابات إذ لم يكن ذلك الدور الأساسي في صنع الأسس التي تقوم عليها حقيقة الأنظمة الديمقراطية كالمؤسسات الدستورية والقانونية وغيرها.

 دور المواطن هنا انحصر في التصويت على اختيار الحكومات لذلك دائما نجد هذا الدور يكون مادة أولية تنتج في النهاية ومن خلال فلترة تلك المؤسسات التي لم يكن للمواطن دور فيها، فهي تمثل مصالح جماعات سياسية تعبر عن مصالحها فقط، لذلك دور الشارع في الاختيار للشخصيات التي تمثله في الحكومات والمؤسسات السياسية الأخرى لم يكن في النتيجة هو ذلك الهدف الذي تعود نتائجه بالنفع بل إن النتائج ومن خلال تلك المؤسسات تذهب بالنفع للنخب الحاكمة التي هي عرابة النظام السياسي الجديد، مثلا مفوضية الانتخابات، قانون الانتخابات كل هذه المؤسسات لا تعبر قوانينها عن طموحات الشارع بل كانت ولازالت تعبر عن طموحات الجماعات السياسية التي وضعتها لكي تلتف على إرادة الشارع في اختيار الحكومات الجديدة بعد عام 2003.

 ومن خلال تعاقب الحكومات منذ عام 2003 والى يومنا هذا كان المواطن يعيش الشعور بخيبة الآمال من تلك الإلية السياسية التي استغفل بها والتي هي بالنتيجة تمثل التحايل على إرادته، خيبة الأمل هذه جعلت هناك بونا شاسعا بينه وبين تلك المؤسسات، ذلك البون أفضى إلى عدد من الفعاليات قام بها الشارع وهي تعبر عن رفضها لتلك المؤسسات وللشخصيات القائمة عليها، من تلك الفعاليات التظاهرات والاعتصامات وكذلك النداءات التي تطلق في صلاة الجمعة من المرجعيات الدينية.

 كل ذلك مثل ولازال يمثل رفض الشارع للآلية والطريقة التي يدير بها السياسيون البلد وكذلك رفض لوجود عدد منهم، مع الاخذ في الاعتبار إن الفساد المالي والاداري جسد تلك الانحرافات وعن طريقه استفحل الإرهاب التكفيري في البلد، لذلك التظاهرات والاعتصامات ليست رافضة للنظام الديمقراطي لكن هي رافضة للانحراف والتحايل الذي حدث فيه والذي مورس من خلاله، واليوم الشارع العراقي يمارس أدوات الرفض لتلك الانحرافات التي تمثلها أقلية سياسية، لان آلية الانتخابات التي يتمكن من خلالها الشعب تغيير حاله لم تعد تجدي نفعا، فالشارع العراقي بات يعول على مظاهراته واعتصاماته من اجل إحداث التغيير المنشود الذي يعبر عن كثير من طموحاته.